"الغارديان": فيضانات باكستان تترك ندوباً نفسية حتّى بعد انحسار المياه

الصدمة والذعر والشعور بالذنب والحزن يسيطر على الناجين، فيما يحذر خبراء الصحة العقلية من الصدمات المزمنة الناجمة عن التعرض المتكرر للكوارث الطبيعية.

0:00
  • "الغارديان": فيضانات باكستان تترك ندوباً نفسية حتّى بعد انحسار المياه

صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً يتناول الآثار الإنسانية والنفسية والاجتماعية والبيئية للفيضانات في باكستان.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

تسيطر الصدمة والذعر والحزن على الناجين من فيضانات باكستان، فيما يحذّر خبراء الصحة العقلية من أنّ التعرّض المتكرر للكوارث الطبيعية يخلّف صدمات نفسية مزمنة.

وبالنسبة إلى مراهق لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، تبدو الخسارة عصيّة على الاستيعاب. يقول إحسان: "لقد مضت أربعة أيام على آخر مرة رأيت فيها منزلي"، من دون أن يدرك بعد أنّ الفيضانات جرفت منزله بالكامل في قرية دوغورو باشا في منطقة شيغار الباكستانية. حيرته وضياعه لا ينفصلان عن الآثار المدمّرة لأشهر طويلة من الأمطار الغزيرة والفيضانات التي شردت آلاف العائلات في المقاطعات الشمالية للبلاد، وأودت حتى الآن بحياة أكثر من 860 شخصاً.

أما الطالب الجامعي محمد شريف، المقيم بعيداً عن أهله في إسلام آباد، فلم يكن البعد عوناً له، فقد تدمّر منزله في دوغورو باشا أيضاً، وتشردت عائلته. يقول بأسى: "غمرت المياه منزلي وأرضي، وأمي تعيش الآن في خيمة، ولم يبقَ لي سوى شاهد قبر والدي".

وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، اجتاحت الأمطار الغزيرة والفيضانات المفاجئة باكستان، وخصوصاً إقليمي خيبر بختونخوا وغلغيت بالتستان. ووفقاً للهيئة الوطنية لإدارة الكوارث، تجاوز عدد الضحايا 800 قتيل، فيما أصيب أكثر من 1100 شخص بجروح متفاوتة.

وقع أكثر من نصف الوفيات عندما باغتت الفيضانات المفاجئة السكان وحاصرتهم داخل منازلهم التي سُحقت تحت قوة المياه. وتوضح شان زينب، الاختصاصية في علم النفس السريري ومدربة الصحة النفسية في كراتشي، قائلة: "هذه ليست كارثة جسدية فحسب، بل أزمة صحة عقلية أيضاً تستمر حتى بعد انحسار الفيضانات، فالناجون يعانون غالباً من ردود فعل إجهادية حادة وشعور بالعجز والصدمة والرعب. ويصاب كثيرون بإحساس بالذنب نتيجة فقدان منازلهم أو وظائفهم أو أحبائهم، ويعانون مشكلات في النوم، أو ذكريات مزعجة، أو حزناً شديداً. وبدون دعم مناسب، قد تتفاقم هذه الأعراض لتتحول إلى اكتئاب طويل الأمد أو اضطراب ما بعد الصدمة".

وكان حجم الدمار هائلاً؛ إذ أفادت الهيئة الوطنية الباكستانية لإدارة الكوارث بأن أكثر من 9000 منزل تضرر في أنحاء البلاد، فيما سُحق أكثر من 2000 منزل بالكامل. كما انتشر النزوح على نطاق واسع، حيث يقيم ما لا يقل عن 25,927 شخصاً في 308 مخيمات إغاثة في خيبر بختونخوا، فيما لجأ 3,140 آخرون إلى 11 مخيماً في غلغيت بالتستان.

ويصف شير نواب، وهو مزارع يبلغ 38 عاماً من بونر في خيبر بختونخوا، مشاهد الموت والمعاناة: "لقي كثيرون حتفهم بسبب العاصفة. من كانوا في الخارج حاولوا النجاة، لكن من بقوا داخل منازلهم لم يتمكنوا من ذلك. الخوف يخيّم علينا، فقد فقدنا محاصيل الذرة وماشيتنا. لكن ما يؤرقنا هو كيف سنصمد ونبقى".

ويضيف نواب بحزن: "المدرسة الثانوية تبعد ساعتين. وقد جرف الفيضان أحد طلابها وهو في طريقه إليها. المدرسة مغلقة الآن، والأطفال يجلسون في منازلهم بلا درس أو عمل، وبعضهم غرقت كتبه في الفيضان".

ويصف سجاد علي خان واقعاً مشابهاً: "في قريتي، تضرر نصف المنازل بفعل الفيضانات، فيما تدمر 150 منزلاً بالكامل. لم يعد الناس قادرين على البقاء، فغادروها إلى المخيمات. كثيرون عُزلوا لأسابيع فوق جزر متناثرة وسط بحيرة واسعة، بلا طعام أو مساعدة، يعيشون في حالة من العذاب النفسي الجماعي. حياة النزوح مليئة بعدم اليقين؛ فالمدارس جميعها تدمرت، وكذلك المستوصف الوحيد في منطقتنا، ما يجعل مستقبل أطفالنا على المحك".

وفي مقاطع فيديو من غلغيت بالتستان عُرضت في صحيفة الغارديان، تشرح مجموعة من الفتيان كيف عطّلت الفيضانات حياتهم قائلين: "مدارسنا مغلقة، لم نعد نستطيع الذهاب إليها، لا نملك مياهاً صالحة للشرب، ونعيش الآن في العراء".

هذه المعاناة ليست غائبة عن أعين فرق الطوارئ. يقول محمد سهيل، المنسق الإعلامي في مؤسسة الإنقاذ والطوارئ الحكومية: "الخوف والذعر هما دائماً رد الفعل الأول. كثير من الضحايا في حالة صدمة، عاجزون عن استيعاب ما حدث، وخصوصاً أولئك الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم ويعيشون حزناً عميقاً بسبب فقدان منازلهم أو مصادر رزقهم".

ويضيف سهيل أنّ عمال الإنقاذ أنفسهم يحملون ندوباً خفية: "المنقذون بشر أيضاً. نحن نواجه الموت والدمار والأسر الحزينة باستمرار. العبء النفسي الناتج عن عدم قدرتنا على إنقاذ الجميع ثقيل للغاية".

أما خبراء المناخ، فيرون أنّ ما يجري ليس استثناءً، بل هو تحذير متكرر. يقول ياسر داريا، مؤسس مركز العمل المناخي في كراتشي: "هذا ليس مجرد تغير مناخي، بل حالة طوارئ مناخية. بفعل الاحتباس الحراري تغيّرت أنماط الطقس وتضررت الأنظمة البيئية بشكل دائم".

ويشير داريا إلى الفيضانات الكارثية عام 2022 التي أودت بحياة أكثر من 1700 شخص. ووفقاً لتقييم ما بعد الكارثة الصادر عن البنك الدولي، تسببت هذه الفياضانات بتشريد أكثر من 8 ملايين شخص وبخسائر اقتصادية بلغت 30 مليار دولار، ما يجعلها الكارثة الأكثر تدميراً في تاريخ باكستان الموثق.

ويقول داريا: "لقد فقدت العائلات منازلها وأراضيها ومواشيها وكل ما عملت من أجله. في العديد من الوديان، عُزل الناس لأسابيع. وتتجلى الصدمة النفسية بطرق مختلفة بحسب الفئة العمرية؛ إذ يُظهر البالغون غالباً زيادة في القلق والغضب والأرق والانطواء، فيما قد يواجه الأطفال صعوبات دراسية، أو يعانون كوابيس متكررة، أو يعودون إلى سلوكيات سابقة مثل التبول اللاإرادي".

ويحذر داريا من أنّ غياب دعم الصحة النفسية يحوّل الصدمة إلى حالة مزمنة: "قد يقود ذلك إلى تعاطي المخدرات، أو القلق والاكتئاب طويل الأمد لدى البالغين، ومشكلات خطيرة في ضبط الانفعالات لدى الأطفال، بل قد تنتقل الصدمة من جيل إلى جيل، فالتعرض المتكرر للكوارث يضاعف آثارها، ويولّد شعوراً مستمراً بالعجز واليقظة المفرطة، ويزيد خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة أو العجز المؤقت، إذ يشعر الناس بعدم القدرة على مواجهة كل فيضان جديد".

من جانبها، تؤكد شان زينب أنّ الأولوية تكمن في الإسعافات الأولية النفسية: "الأهم هو ضمان السلامة، وتلبية الاحتياجات الأساسية، وتقديم الدعم العاطفي من دون إجبار الناجين على استرجاع التفاصيل المؤلمة، إضافة إلى توفير معلومات واضحة ومساعدة الناس على استعادة التواصل مع عائلاتهم ومجتمعهم، فالتدخل المبكر يقلل بشكل كبير من احتمال الإصابة بمشكلات نفسية مزمنة".

لكن التحدي الأكبر يكمن في ضعف البنية التحتية للصحة النفسية في باكستان، إذ يخدم البلاد أقل من 500 طبيب نفسي لمجتمع يضم نحو 240 مليون نسمة، معظمهم يتمركزون في المدن الكبرى. وتوضح زينب: "يفتقر نظامنا للصحة النفسية إلى الأدوات اللازمة لمعالجة الصدمات المرتبطة بتغير المناخ. هناك نقص في المتخصصين، والخدمات المجتمعية غير كافية. ما نحتاج إليه هو سياسات منظمة للاستجابة للكوارث تدمج الدعم النفسي في عملها، عبر تدريب المتطوعين والعاملين الصحيين على الإسعافات النفسية، وتوفير خدمات متنقلة للصحة العقلية في المناطق المعرضة للخطر".

في المحافظات الشمالية، يدرك الناجون أن الفيضانات ستعود حتماً، وأنّ الأمور قد لا تعود إلى طبيعتها أبداً. يقولون بمرارة: "يمكننا إعادة بناء المنازل، لكن الخوف يبقى في القلوب".

أما شريف، المقيم في إسلام آباد، فقد أصبح القلق رفيقه الدائم كلما سافر إلى قريته. يروي قائلاً: "قد ننجو في النهار ونشعر بشيء من الأمان، لكن مع حلول الليل يسيطر علينا الخوف والقلق، ولا نعرف ماذا علينا أن نفعل".

نقله إلى العربية: حسين قطايا.