"فورين أفيرز": وهم الصفقة الكبرى بين أميركا والصين
في خضمّ حرب واشنطن التجارية المدمّرة مع بكين، حيث يدور الحديث عن صفقة كبرى بين ترامب وشي، لماذا يكون الجمود أكثر احتمالاً من الانفراج؟
-
الرئيسان الأميركي والصيني
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول العلاقات الأميركية – الصينية من منظور استراتيجي وتاريخي، مع التركيز على فرص التوصّل إلى "صفقة كبرى" بين ترامب وشي جين بينغ، في ظلّ تصاعد التوترات الثنائية والانقسام العالمي.
ويرى النص أنّ التنافس البنيوي بين الصين وأميركا عميق وغير قابل للاحتواء باتفاق شامل، وأنّ من الحكمة تبنّي سياسة إدارة التوترات لا إنهاءها. كما يحذر من أنّ التنازلات المتبادلة لن تكون متكافئة، خاصة في ظلّ تغيّر ميزان القوى العالمي.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
يقول الرئيس ترامب إنّه "يرغب في التوصّل إلى اتّفاق مع الصين". أمّا الرئيس شي الذي ردّ على هجوم ترامب على التعريفات الجمركية بطريقة مدروسة الأهداف، فترك الباب مفتوحاً أمام تسوية تفاوضية. قد يبدو هذا الانفراج في العلاقات الأميركية الصينية قيّماً في زمن التوتّرات، لكنّ تاريخ التنافس الاستراتيجي بين البلدين والسياسة الداخلية لكليهما يجعلان من تحقيق ذلك أمراً بعيد المنال.
ومنذ العام 1950، تدرّجت الولايات المتحدة من التعاون إلى المواجهة، في كرّ وفرّ لأسباب جيوسياسية وسياسية داخلية. وكقاعدة عامّة، لم تتمكّنا من التعاون أمنياً إلّا عند مواجهة خطر واضح وقائم من عدوّ مشترك. على سبيل المثال أدّت الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للصين عام 1972 إلى سلسلة من الاتّفاقيات لأجل احتواء الاتحاد السوفياتي.
ولم تتمكّن الدولتان من تحقيق تعاون اقتصادي إلّا عندما كانتا تحت سقف تحالفات إقليمية تدعم توسيع التجارة الدولية، كما حدث خلال التسعينيات وأوائل القرن الجاري. بخلاف ذلك كان التعاون في الشؤون الأمنية والاقتصادية دائماً بعيد المنال.
الآن ليس ثمّة ما يشي بأنّ هذه لحظة مواتية للصين والولايات المتحدة لتجاوز خلافاتهما سواء في المجال الأمني أو الاقتصادي. تحكم كلا البلدين حالياً تيارات قومية صاخبة بمناهضتها للعولمة مفضّلة المصلحة السياسية الداخلية.
كذلك، لا يوجد تهديد أمني مشترك يجمع البلدين. ومن المرجّح أن يقف الطرفان على جانبين متعارضين، بشأن الصراعات الدولية مثل تلك التي بين روسيا وأوكرانيا، أو بين "إسرائيل" وإيران. وفي ذروة الحرب الباردة منتصف القرن المنصرم، وجدت الصين والولايات المتحدة في موقع خلافي تامّ في بُعدَي فنّ الحكم والشؤون الدولية.
وبيئة اليوم مثل التي سادت آنذاك، ومن الصعب تخيّل أن يعيد أيّ من الزعيمين ضبط العلاقات بشكل هادف، أو يعالج أيّاً من القضايا الرئيسية التي تفرّق بينهما. وبينما لن يرغب ترامب في لعب الأوراق التي في يده، وإذا كان سيدفع باتّجاه عقد صفقة كبرى، فمن شبه المؤكّد أنّها ستكون صفقة فاوستية بالنسبة للولايات المتحدة.
وحتّى تتمكّن واشنطن من إبرام أيّ صفقة شاملة وكاسحة، من المرجّح أن تضطرّ إلى تقديم تنازلات بشأن تايوان أو بشأن مطالبات بكين في بحر الصين الجنوبي، ممّا قد يؤدّي إلى تفكيك بنية أمنية دعمت الاستقرار الإقليمي لعقود.
لا شكّ في أنّ التكاليف الاستراتيجية التي تتحمّلها الولايات المتحدة من التنازل عن نفوذها في المنطقة للصين، تفوق بكثير أيّ فوائد اقتصادية محتملة، حتّى بزيادة قدرتها الوصول إلى السوق الصينية أو انتعاش الصناعة الأميركية. وفي ظلّ هذه الظروف، ينبغي على صانعي السياسات الأميركيين التركيز على أهداف أكثر قابلية للإدارة وأكثر أهمّية، مثل الحد من نشوب حرب غير متعمّدة، ولا سيّما في بحر الصين الجنوبي ونقاط التوتر الأخرى. كما أنّ التراجع عن حافّة الهاوية، ولو خطوة صغيرة ولكن جدّية، ستكون خطوة عظيمة حقيقة.
أعداء مفيدون شركاء مفيدون
يظهر التاريخ أنّ العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تتدهور عندما لا يكون للبلدين عدوّ مشترك، وعندما تسود المصالح الاقتصادية القومية المنغلقة على السياسة الداخلية. على سبيل المثال، بعد انتصار الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية الصينية عام 1949، ترسّخت نظرة عند الأميركيين، إلى جمهورية الصين الشعبية على أنّها حلقة أساسية في التهديد الشيوعي العالمي المتنامي والمدار من موسكو.
وقد تبلورت هذه النظرة بوضوح خلال الحرب الكورية، حين واجهت الدولتان بعضهما البعض في ساحة المعركة، ثمّ تعمّقت أكثر في ستينيات القرن الماضي حين توسّع التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين إلى جميع أنحاء العالم النامي كجزء من التنافس على "القلوب والعقول" خلال الحرب الباردة.
وقد عزّزت الضرورات السياسية الداخلية تلك الاعتبارات الجيوسياسية وأججت العداء بين الجانبين خاصّة وأنّ العولمة وتحرير التجارة لم تكن واردة في كلا البلدين، لأسباب مختلفة. كذلك، فضّلت الولايات المتحدة التجارة المدارة، لا المحرّرة، مركّزة بشكل شبه حصري على العلاقات التجارية مع حلفائها الغربيين، حيث بذلت واشنطن قصارى جهدها لعزل الصين ومعاقبتها اقتصادياً بفرض حظر تجاري واسع النطاق عليها.
لكن، في الصين في عهد ماو تسي تونغ، لم يكن لهذا الأمر أيّ أهمّية تذكر. وخلال تلك السنوات، لم تكن الصين مهتمّة بالتجارة مع العالم الخارجي. باستثناء الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية وبعض الدول الصغيرة الأخرى، كما أبقت الصين علاقاتها الاقتصادية الخارجية عند حدّها الأدنى.
وخلال العقدين الأوّلين من الحرب الباردة، لم تكن الصين والولايات المتحدة مجرد منافسين استراتيجيين لدودين فحسب، بل كانتا أيضاً كما أشار عالم السياسة توم كريستنسن، بمثابة "خصمين مفيدين" لبعضهما البعض في النطاق المحلّي. وقد وجد القادة السياسيون في كلا البلدين ميزة في الإشارة إلى عدوّ عنيد في لحظات حرجة من الضعف الداخلي. بالنسبة لماوتسي تونغ، كان الأمر معزّزاً للسلطة في أعقاب القفزة العظيمة إلى الأمام وسط اضطرابات الثورة الثقافية.
وبالنسبة للرؤساء الأميركيين من دوايت أيزنهاور إلى ليندون جونسون، فإنّ الإشارة إلى الصين المعادية ساعدت على الترويج لسياسة خارجية تقوم على تعميق المشاركة في جنوب فيتنام لإقناع الجمهور الأميركي بها. ومع ذلك، جاء هذا التكتيك على حساب تقوية المتشدّدين في كلا البلدين، ممّا أدّى بدوره إلى تعميق الخلاف بين بكين وواشنطن.
وبحلول سبعينيات القرن الماضي، اعتبرت بكين موسكو تهديداً أكبر من واشنطن. وحينها اندلعت اشتباكات حدودية بين العملاقين الشيوعيين عام 1969، وكان قلق بكين من مواجهة القوتين العظميين ملموساً. كما كانت الولايات المتحدة تسعى إلى الخروج من حرب لا تحظى بشعبية كبيرة في جنوب شرق آسيا، وإعادة تقييم استراتيجيتها للحرب الباردة في آسيا وخارجها.
كلّ هذه التطوّرات أثّرت في واشنطن، حيث لم يعد ينظر للصين والاتحاد السوفياتي في واشنطن على أنّهما من كتلة شيوعية متجانسة، وقد أدّى هذا التقارب في المصالح الاستراتيجية إلى تحسّن العلاقات الأميركية الصينية، بدءاً من زيارة نيكسون للصين، التي سهّلتها الدبلوماسية السرّية لمستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنجر.
ولقد كانت الزيارة بمثابة بداية "تحالف" ضمني، كما وصفها كيسنجر حينئذ لموازنة القوّة السوفياتية. وعلى الرغم من عدم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين الصين والولايات المتحدة حتى عام 1979، إلّا أنّ تلك المرحلة مهّدت الطريق لسلسلة من المبادرات الاستراتيجية بدءاً من "دبلوماسية بينغ بونغ"، وغيرها من المبادرات الجذّابة إلى زيادة التبادلات التجارية والتقنية، وثمّ التعاون الدفاعي الفعلي الذي استمرّ طوال الثمانينيات.
وعلى الرغم من ازدهار التعاون الاستراتيجي، ظلّ التعاون الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة محدوداً خلال السبعينيات. وكان الاقتصاد الصيني لا يزال مكتفياً ذاتياً إلى حدّ كبير ومنفصلاً عن الأسواق العالمية. وظلت الصناعات جميعها مملوكة للدولة، ولا تزال الزراعة بإطار التعاونيات. حتّى إنّ خليفة ماوتسي تونغ، هوا جوفينغ، ضاعف من كلّ ما كان يفعله سلفه، واستبدل الخطط الخمسية المركزية بأخرى مدّتها 10 سنوات.
لم يكن هناك توافق مؤقّت بين المصالح الأمنية والاقتصادية لكلا الجانبين، إلّا في ثمانينيات القرن الماضي، عندما ترسّخَت التحالفات المحلّية المؤيّدة للعولمة في كلا البلدين. وفي الصين، كان الزعيم الأعلى الجديد دينغ شياو بينغ يسعى إلى إصلاحات اقتصادية هيكلية، ملتزماً بإصلاح السوق والاندماج في الاقتصاد العالمي. وفي الولايات المتحدة، دافع الرئيس رونالد ريغان عن العولمة وتحرير التجارة وفتح الأسواق.
وفي غضون ذلك، واصلت الصين والولايات المتحدة تعاونهما الاستراتيجي ضدّ الاتحاد السوفياتي. وقد شهدت ثمانينيات القرن الماضي تعاوناً في تسليح مقاتلي المقاومة الأفغانية المجاهدين خلال الغزو السوفياتي لأفغانستان، ممّا عزّز العلاقة الأمنية الأميركية الصينية.
كما أدّى ظهور تحالفات مؤيّدة للعولمة في كلا البلدين، إلى جانب وجود عدوّ مشترك، إلى خلق بيئة مواتية للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي الذي استمرّ حتّى نهاية الحرب الباردة. لكنّ، انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 غيّر الحسابات جذرياً. ومع زوال العدوّ المشترك كاد المنطق الاستراتيجي للتعاون الأمني أن يتلاشى حتّى مع ازدهار التعاون الاقتصادي.
في واشنطن، أثارت القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين تساؤلات حول مصداقية الوجود المتقدّم للولايات المتحدة في آسيا، كما فعل استعداد الصين للتصدّي للتعدّيات المزعومة على مصالحها في المنطقة. وحين أطلقت بكين سلسلة من الصواريخ بالقرب من تايوان كتحذير من التحرّكات نحو الاستقلال في عامي 1995 و1996، كانت تسلّط الضوء على القضايا، وتحذّر وترفع من درجة المخاطر. وفي مواجهة الحزم الصيني، برهنت الولايات المتحدة على التزامها العسكري تجاه تايوان بنشر العديد من حاملات الطائرات في المنطقة.
من الملاحظ أنّه فقط في ظلّ توافق المصالح الاقتصادية، شابَت العلاقات بين بكين وواشنطن دوافع متضاربة، إذ واجه القادة ضغوطاً متناقضة للتعاون والتنافس. على سبيل المثال، وضع الرئيس الأميركي بيل كلينتون مبرّراً لمضاعفة الجهود في المصالح الاقتصادية، ظنّاً منه أنّه قد يؤدّي يوماً ما إلى توافق استراتيجي، باستخدام التجارة الحرّة والاستثمار كوسيلة لدمج الصين في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ولكن مع تعميق السياسات الإصلاحية للقيادة الصينية، بدت البلاد مستعدّة للمشاركة، والتقارير أظهرت أنّ النتيجة النهائية هي نموّ مذهل في التجارة الأميركية الصينية وفتح المفاوضات التي أدّت إلى انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. ومنذ ذلك الحين، ظلّ الاقتصادان الأميركي والصيني متشابكين بعمق.
خارج المواءمة
في العام الماضي، تجاوزت قيمة تجارة السلع والخدمات بين الصين والولايات المتحدة 580 مليار دولار. والصين ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة التي تعتبر أكبر سوق تصديرية للصين، من دون احتساب التكتلات الإقليمية مثل رابطة "آسيان" لدول جنوب شرق آسيا أو الاتحاد الأوروبي.
كما تمتلك بكين سندات خزانة أميركية تزيد قيمتها عن تريليون دولار. لكنّ هذا التبعية الاقتصادية المتبادلة تخفي قوى طاردة مركزية أعمق تفرّق بين البلدين تدريجياً. على المستوى المحلّي، يواجه القادة الأميركيون والصينيون ضغوطاً سياسية متزايدة للانغلاق على الذات والابتعاد عن الأسواق العالمية، لأنّهم يعتقدون باستمرار أنّها سبّبت التفاوت والاضطراب.
في الولايات المتحدة عجّلت العولمة الاضطراب الاقتصادي ورفعت وتيرة تفاقمه، إلى ردّة فعل عنيفة متزايدة ضدّ التجارة الحرّة والمؤسّسات الدولية. وكانت بوادر الاضطراب واضحة منذ تسعينيات القرن الماضي في المعركة الدائرة حول اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية التي أبرمها كلينتون، واحتجاجات سياتل بشأن منظمة التجارة العالمية.
مع ذلك، لم تصبح المخاوف المحلّية بشأن فقدان الوظائف والممارسات التجارية الصينية قضايا انتخابية ساخنة إلا بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 ووصول إدارة باراك أوباما إلى السلطة. وربط المشرّعون في الكونغرس الأميركي بشكل متزايد بين المشكلات الاقتصادية للولايات المتحدة وبروز الصين كقوة اقتصادية عظمى، ثمّ خطّوا نحو أجندة "أميركا أوّلاً" المعادية للصين، والتي تبنّاها ترامب خلال حملته الانتخابية.
لقد كانت التطوّرات الموازية جارية في الصين، بداية تحت قيادة هو جين تاو في العقد الأوّل من القرن الجاري، ثمّ بشكل أكثر دراماتيكية في عهد الرئيس شي في العقد الثاني منه، حيث تحوّلت البلاد نحو قومية أكثر حزماً وأجندة سياسية تركّز على الداخل.
كما ركّزت القيادة الصينية الحالية على العدالة الاجتماعية و"الرخاء المشترك" والتحوّل الأخضر، و"حلم الصين" الواعد بارتفاع مستويات المعيشة وبجودة حياة أفضل بشكل عامّ، وبلاد قوية وواثقة، واقتصاد أكثر توجّهاً نحو الاستهلاك يركّز على التقنيات الرائدة.
كما تضمّنت هذه التحرّكات تقليل اعتمادها على التكنولوجيا والاستثمار الأجنبي وزيادة الطلب المحلّي، وتعزيز الابتكارات الصينية وتفضيل الدولة على السوق. وفي العقد المنصرم، وسط مخاوف من أنّ الولايات المتحدة كانت تكسب قلوب وعقول الشباب الصيني، ألقت بكين باللوم بشكل متزايد على واشنطن في مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية.
مع تخلّي كلّ طرف عن الآخر، وعدم وجود عدوّ مشترك يحفّز التعاون، ضاقت المساحة السياسية للتوافق في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية. وتعثّرت محاولات إيجاد أرضية مشتركة لمواجهة التحدّيات الأمنية غير التقليدية، كالإرهاب وتغيّر المناخ والصحة العالمية خلال إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما.
وبالنسبة لواشنطن، كان خوض ما يسمّى بالحرب العالمية على الإرهاب أمراً بالغ الأهمّية في العقد الأوّل من القرن العشرين، بينما ركّزت بكين بشكل أكبر على التطوّرات في شرق آسيا. وتشابكت الجهود الأميركية الصينية للتعاون في مجال تغيّر المناخ مع خلافات أوسع نطاقاً حول التجارة والتكنولوجيا والدعم الحكومي والملكية الفكرية.
وبحلول عام 2020، كشف انتشار جائحة كورونا، عن نزعات المواجهة وفاقمت منها. وفي الولايات المتحدة انتقد القادة السياسيون الصين بشدّة لطريقة تعاملها مع تفشّي المرض، حيث وصف ترامب المرض بازدراء بأنّه "فيروس الصين". رفضت الصين هذه الاتّهامات، ووصفت استجابتها للجائحة بأنّها متفوّقة، ثمّ استخدمت دبلوماسية اللقاحات لمنافسة الولايات المتحدة وتعزيز صورتها العالمية.
كذلك تعزّزت آنذاك القومية الاقتصادية، حيث تحرّكت الدولتان لتأمين سلاسل التوريد الحيوية محلّياً، ثمّ خلال رئاسة جو بايدن، لتقييد الوصول إلى الموادّ الأساسية والتقنيات المتطوّرة.
مع تفاقم انعدام الثقة الاستراتيجية خلال سنوات بايدن، أصبحت واشنطن وبكين تنظران إلى تصرّفات بعضهما البعض من خلال عدسة التنافس بين القوى العظمى. وسعى كلا البلدين بشكل متزايد إلى تسليح جوانب من اعتمادهما المتبادل عبر فرض ضوابط التصدير على الرقائق الدقيقة والأتربة النادرة، على سبيل المثال، وتصعيد التهديدات بشأن الديون المملوكة للدولة، وتدفّقات الاستثمار الحكومية أو الموجّهة من الدولة.
وأكثر من ذلك. لم يكن من الممكن أن تصبح الحنكة الاقتصادية كما هي نوعية ساحة المعركة التي كانت عليها في الخمسينيات والستينيات، عندما عملت الصين والولايات المتحدة في مجالات تجارية منفصلة. لقد استلزم اعتمادهما على بعضهما البعض رقصة أكثر دقّة، ولكنّه فتح أيضاً سبلاً إضافية للمنافسة وزوايا نفوذ لم تكن واردة خلال الحرب الباردة. وعلى الرغم من إدراك كلا الجانبين للحاجة إلى منع التنافس من التحوّل إلى صراع مفتوح، إلّا أنّ العلاقة لا تزال متقلّبة وغير مستقرّة.
الأقلّ هو الأكثر
بعد 6 أشهر من إدارة ترامب الجديدة، أصبحت العلاقات أكثر خطورة. كانت الرسوم الجمركية المبالغ فيها التي فرضها ترامب على الصين في نيسان/أبريل الماضي بلغت 145%، بهدف دفع الرئيس الصيني نحو طاولة المفاوضات التي ربمّا تمهّد الطريق لصفقة كبرى.
لكنّ ردّ الفعل السريع والقوي من الزعيم الصيني برفع الرسوم الجمركية على السلع الأميركية إلى 125%، وفرض قيود على تصدير المعادن النادرة يشير إلى أنّ مثل هذه التكتيكات القاسية والقسرية من غير المرجّح أن تنجح.
وعلى الرغم من أنّ الجانبين قد اتّفقا منذ ذلك الحين على هدنة تجارية مؤقتة، إلّا أنّ ترامب، وليس شي، هو من تراجع أوّلاً. وفي غياب تنازلات كبيرة من ترامب بشأن قضايا حاسمة لطموحات شي الجيوسياسية، فمن غير المرجّح للغاية أن يستسلم الأخير لمطالب الأوّل بشأن التجارة والمسائل الاقتصادية. وهنا تكمن المشكلة.
وبالنظر إلى الوضع الراهن، فإنّ أيّ صفقة كبرى سوف تتطلّب من الولايات المتحدة أن تعترف ضمنياً بمعظم شرق آسيا وجنوب شرق آسيا كمجال نفوذ صيني فعلي، مقابل اعتراف مماثل بمجال نفوذ أميركي في نصف الكرة الغربي، والمحيط الأطلسي، وجزر المحيط الهادئ، وأوقيانوسيا.
لكن، مثل هذه الصفقة ستعرّض أمن حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، من ضمنهم اليابان والفلبين لأخطار كبيرة، وقد تدفع اليابان ودولاً أخرى في جميع أنحاء آسيا إلى التفكير في خيارات جذرية لضمان أمنها، بما في ذلك امتلاك أسلحة نووية.
هذه وصفة لما يطلق عليه خبراء العلاقات الدولية معضلة أمنية خطيرة، حيث تهدّد جهود كلّ دولة لتعزيز أمنها أمن الدول الأخرى، ممّا يطلق العنان لدورة من انعدام الثقة والصراع المحتمل. كما سيرسي سابقة خطيرة لسياسات التحالفات العالمية ومعايير منع الانتشار النووي.
كما أنّ تأكّل ثقة الحلفاء بالولايات المتحدة سيجعل جهود بناء التحالفات المستقبلية أكثر صعوبة، سيضعف الموقف الاستراتيجي لواشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وحول العالم كذلك.
في الجانب الاقتصادي يناقش كثيراً أنّ إجراء صفقة كبرى يتطلّب قيام ترامب بإلغاء التعريفات الجمركية الأميركية، وتخفيف ضوابط تصدير التكنولوجيا المتقدّمة، والسماح بالاستثمارات الصينية في القطاعات الأميركية الرئيسية، مقابل موافقة شي على تخفيف قيود تصدير المعادن النادرة، وكبح سياسات الصين المناهضة للمنافسة بما في ذلك الدعم بحماية الملكية الفكرية التي لطالما أضرّ عدم الالتزام بها بالشركات الأميركية.
من شأن مثل هذا الاتّفاق أن يوفّر لكلّ طرف ما تريده القطاعات الاقتصادية المحلّية الرئيسية، ولكنّه لن يسهم كثيراً في معالجة القضايا الأعمق التي تعيق الاقتصادين وهي انخفاض مستويات المعيشة، وارتفاع الأسعار، وضعف سوق العمل. ومن المرجّح أن يغذّي أيّ اتّفاق يفشل في تحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة، سيفرض اتجاهات أقوى نحو الحمائية، والخوف من العولمة، وتزيد مشاعر كراهية الأجانب وانعدام الثقة.
ولخدمة المصالح الأميركية بشكل أفضل، من الحكمة أن يعيد ترامب ضبط طموحاته في إبرام الصفقات نحو أهداف أضيق نطاقاً، لكنّها ذات أهمّية استراتيجية وقابلة للنجاح. ومن أهمّ هذه الأهداف منع الصراعات العرضية في بحر الصين الجنوبي من خلال قنوات اتّصال أكثر موثوقية، وحوارات بين الجيوش، وتدابير بناء الثقة، مثل إجراءات الإخطار المسبق لعمليات الإطلاق الفضائية، وعمليات التعامل الفوري مع الحرب الإلكترونية والقرصنة.
لن تقلّل هذه المبادرات من احتمالية التصعيد فحسب، بل ستطمئن أيضاً الحلفاء في آسيا بالتزام الولايات المتحدة بالسلام والأمن الإقليميين. ومن خلال اتّفاقيات تدريجية، على سبيل المثال، يمكن لترامب وشي معالجة قضايا محدّدة، مثل الأمن البحري وحرّية الملاحة، من خلال الاتّفاق على مدوّنة سلوك وبروتوكولات لإدارة المواجهات البحرية القريبة. كما يمكن للزعيمين وضع معايير لمكافحة التجسّس الإلكتروني والسرقة الإلكترونية التجارية التي ترعاها الدول.
قد أبدت الصين استعداداً كبيراً لإحراز المزيد من التقدّم في مواءمة المعايير والممارسات المتعلّقة بحقوق العمال والضمانات البيئية، ولا سيّما من خلال تشديد معايير الانبعاثات بشكل كبير، ممّا أدّى إلى تحسين جودة الهواء في جميع المدن الصينية على مدى العقد الماضي، والشروع في إنفاذ أقوى بشكل ملحوظ منذ عام 2010 على الأقلّ لحماية العمّال ضمن قواعد الصحة والسلامة والحدّ الأدنى للأجور والعمل الإضافي.
وإذا تمكّنت واشنطن من ترسيخ اتّفاقية ثنائية بشأن ممارسات العمل الأساسية أو بروتوكولات غازات الاحتباس الحراري، فإنّ ذلك سيساعد العمّال والمنتجين الأميركيين، ولن يضرّهم، لأنّه سيقوّض بعض المزايا التنافسية للصين التي طالما وصفتها النقابات العمالية الأميركية وغيرها بأنّها غير عادلة.
ستستفيد الولايات المتحدة أيضاً استفادة كبيرة من أيّ تقدّم يحرز في جعل القطاع المالي الصيني أكثر شفافية وانفتاحاً، مثل حثّ حتّى القطاعات غير الأساسية في المؤسّسات الحكومية على الإفصاح عن مزيد من المعلومات، والسماح بدخول أكثر حرية إلى السوق الصينية للمصارف وشركات التأمين والشركات المالية الأميركية وغيرها من المصارف الدولية.
لقد كانت بعض هذه الإصلاحات مكوّنات مهمّة من الاتّفاقية التي أدخلت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، ولكنّها لم تنفّذ على النحو السليم قطّ. إذا سعى ترامب، ولو بشكل طفيف، إلى تحقيق تقدّم فيها الآن، فقد يسهم ذلك في توفير معلومات وفرص أفضل للشركات الأميركية العاملة في السوق الصينية.
بإعطاء الأولوية لهذه النتائج المحدودة والقابلة للتحقيق، تتاح لترامب فرصة لوضع أهمّ علاقة ثنائية في العالم على أرضية أكثر صلابة. يجب أن تستند سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين إلى تقييم واضح للظروف الدولية والمحلية السائدة. وهذا يعني إدراك أنّه في غياب عدوّ مشترك، من المرجّح أن تكون أيّ صفقة كبرى تبرمها واشنطن هزيمة ذاتية، نظراً لأنّ الأمن المعزّز الذي تسعى إليه بكين في المنطقة لا يمكن أن يأتي إلّا من تنازلات أميركية أحادية الجانب.
من غير المرجّح أن تحقّق التنازلات التي تميل الصين إلى تقديمها في مجال التجارة مقابل تنازلات أميركية أمنية الراحة التي تطالب بها الدوائر المناهضة للعولمة.
وبما أنّ المجال السياسي للتفاوض أو التسوية بين الصين والولايات المتحدة ضيّق للغاية، فإنّ الخطوات التدريجية الصغيرة في الاتجاه الصحيح تتغلّب على أيّ وعود بالتوصّل إلى صفقة كبرى.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.