"نيويورك تايمز": أفريقيا تنهض.. لا ينبغي للعالم أن يُدير ظهره لها

القارة الأفريقية يُتوقَّع أن تشهد انفجاراً سكانياً هائلاً خلال العقود المقبلة. وفي الوقت نفسه، تنسحب الولايات المتحدة والصين والدول الأوروبية تدريجياً من القارة، سواء على مستوى المساعدات أو التجارة أو الاستثمارات.

  • "نيويورك تايمز": أفريقيا تنهض.. لا ينبغي للعالم أن يُدير ظهره لها

صحيفة "نيويورك تايمز" تنشر مقابلة بين الكاتبة في قسم الرأي ليديا بولغرين مع المراسل والرئيس السابق لمكاتب الصحيفة "هاورد فرينش" حول التحدّيات التي تواجه أفريقيا، والمخاطر التي قد تتعرّض لها القوى العالمية إذا استمرت في فكّ ارتباطها بالقارة، إضافةً إلى مناقشة رؤية أحد القادة الأفارقة في القرن العشرين حول الاعتماد على الذات السوداء، وهي رؤية تبدو ذات صلةٍ بالغةٍ في زمننا الحالي.

أدناه نص المقابلة منقولةً إلى العربية:

بولغرين: وُلدت في أميركا، لكنّ الكثير مما يشكّل هويتي تَكوّن من خلال لقاءاتي مع أفريقيا. جزئياً لأنني نصف أفريقية؛ أمي إثيوبية، ولكن أيضاً لأنني قضيت جزءاً كبيراً من طفولتي في كينيا وغانا، ثم سنوات طويلة كمراسلة أجنبية في غرب وجنوب أفريقيا.

على الصعيد العالمي، بدأت العديد من الدول الغنية في تقليص حضورها في أفريقيا. نشهد تراجعاً في المساعدات الإنمائية، وانخفاضاً في القروض والاستثمارات، وعدة دول أفريقية تستعدّ لتداعيات الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب.

وفي هذه اللحظة العصيبة، أعتقد أنه من المفيد استلهام الماضي، ولذلك أردتُ التحدّث مع هوارد فرينش، وهو مراسل سابق في الشؤون الخارجية في صحيفة "نيويورك تايمز" ورئيس مكتبها، ومؤلف كتاب "التحرّر الثاني: نكروما، والقومية الأفريقية، والسود العالمي في أوج مجدهم". يتناول الكتاب أول زعيم منتخب ديمقراطياً لغانا المستقلّة، كوامي نكروما، ويقدّم إطاراً لكيفيّة تمكّن أفريقيا وشعوب الشتات الأفريقي من الإمساك بمستقبل القارة بأيديهم.

بولغرين لفرينش: لديك تاريخ طويل مع أفريقيا، بدأت بزيارتها في السبعينيات ثم عدت كمراسل في التسعينيات. بالنظر إلى العلاقة بين الولايات المتحدة وأفريقيا جنوب الصحراء، مع العلم أنها تضمّ دولاً وسياسات مختلفة، كيف تصف مسار هذه العلاقة؟ وما أكثر ما يفاجئك في المرحلة الحالية مع الإدارة الثانية لترامب؟

فرينش: أعتقد أنّ كلمة "مسار" مناسبة لبدء الحديث، لأنّ العلاقات الأميركية الأفريقية في بدايات تجربتي، بل على مدى عقودها الأولى، كانت وإن لم تكن في صدارة الاهتمامات الأميركية، إلا أنها كانت عميقة وغنية. كان هناك جهاز بيروقراطي ضخم يُعرف باسم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID"، والتي تكاد اليوم تكون غير موجودة فعلياً.

كانت الولايات المتحدة آنذاك على علاقة وثيقة مع العديد من الدول الأفريقية، وإن كانت للأسف مع عدد من الأنظمة الديكتاتورية. لكنها كانت علاقات تشمل كامل أجهزة الأمن القومي والسياسة الخارجية الأميركية. ومع مرور الوقت، بدأنا نشهد تراجعاً تدريجياً لهذا النوع من الانخراط. لم يبدأ ذلك فجأة مع إدارة ترامب، لكنه تسارع بشكل كبير خلال فترتي حكمه.

بولغرين: يبدو الآن أننا نشهد مقاربة جديدة تكاد تكون استعمارية بطابعها، تعتمد على التعامل مع كلّ دولة على حدة وبنظرة دونيّة عامّة. رأينا انسحاباً من برامج مثل "بيبيفار"، ومشهد الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا وهو يتعرّض للتوبيخ في المكتب البيضاوي كان صادماً.

"حينها قال ترامب لرامافوزا: أنت تسمح لهم بأخذ الأرض. ردّ رامافوزا: لا، لا أحد يستطيع أن يأخذ.. ثم قال ترامب: عندما يستولون على الأرض، يقتلون المزارع الأبيض. وعندما يقتلون المزارع الأبيض، لا يصيبهم شيء. ردّ رامافوزا: لا".

هذا لا يبدو فقط اختلافاً في الأسلوب، بل قطيعة مع تاريخ من التفكير الاستراتيجي الأكثر توازناً تجاه القارة.

فرينش: صحيح. يمكن تقسيم علاقة الولايات المتحدة بأفريقيا بعد الحرب الباردة إلى ثلاثة محاور: إنساني، اقتصادي، وصراعي.

الشقّان الإنساني والعسكري تراجعا وضمُرا، أما الاقتصادي، وهو كان ضيّقاً أصلاً، فقد أصبح أكثر استخراجيةً وسطحيةً. الانخراط الأميركي اليوم يتركّز في النفط البحري، وفي محاولة اللحاق بالصين في مجال استخراج المعادن النادرة والاستراتيجية، لكنه لا يمت بأيّ صلة إلى تحسين الحياة الاقتصادية للأفارقة العاديين.

بالتالي، شهدنا تآكلاً في المبادرات الإنسانية والصحية والسلمية، مقابل تركّزٍ متزايد على مصالح اقتصادية ضيّقة ونفعية.

بولغرين: لعلها لحظة مناسبة للعودة إلى الماضي. لطالما نظرَت القوى العالمية إلى أفريقيا كمصدر للموارد والعمالة والأراضي، ومكان لتصدير الفائض السكاني. لكنّ كتابك يبرز كيف كانت أفريقيا في قلب الشؤون العالمية خلال سنوات الاستقلال الأولى، في تناقض حادّ مع تهميشها اليوم.

لنبدأ بالتعريف بكوامي نكروما، محور كتابك، وما الذي دفعك لكتابة هذا العمل الآن؟

فرينش: كوامي نكروما، أول رئيس لغانا المستقلة (المعروفة سابقاً بساحل الذهب)، وُلد في المكان الخطأ في الزمن الصحيح.

الخطأ لأنه وُلد في منطقة نائية جداً من بلد متوسط الحجم، ولم يكن هناك ما يرشّحه لمستقبل عظيم. لكنه وُلد في الزمن الصحيح، إذ صادف ميلاده بدايات القرن العشرين، ما وضعه في لحظة تاريخية سمحت له بأن يصبح فاعلاً رئيسياً مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية موجة تحرّر المستعمرات.

دخل نكروما مجرى التاريخ مدفوعاً برياح ما بعد الحرب، ورغبة الأفارقة في تحصيل "العائد" من مشاركتهم في الحروب الأوروبية، أي حقّهم في الحرية والاقتراع والاستقلال.

بولغرين: أصبح نكروما أول زعيم لغانا الحرة. لكن كتابك يُظهر كيف تشكّلت أفكاره من خلال تيارات فكرية متعددة. كيف قاد ذلك إلى رؤيته القارية للوحدة الأفريقية؟

فرينش: منذ طفولته، التحقت والدته به بمدرسة متواضعة، حيث لفت الأنظار وأُرسل إلى العاصمة للدراسة في أكاديمية جديدة للنخبة. هناك تأثّر برجلين أدّيا دوراً محورياً في تكوينه: نامدي أزيكيوي (الذي أصبح لاحقاً رئيس نيجيريا)، وكويجير أغري، وهو مساعد مدير مدرسة درس في جامعة كولومبيا وتأثّر بحركة ماركوس غارفي التي دعت إلى القومية السوداء والوحدة الأفريقية.

هذان الرجلان شجّعاه على الدراسة في الولايات المتحدة، وهو أمر نادر آنذاك،فذهب إلى نيويورك عام 1935، في زمن كانت فيه شوارع هارلم تغلي بالنشاط السياسي والفكري الأسود.

ثمّ التحق بجامعة لينكولن في بنسلفانيا، ونال أربع شهادات بسرعة، وبدأ يتنقّل بين الجامعات ويلتقي مفكّرين كباراً مثل دبليو. إي. بي. دو بوا وجورج بادمور وغيرهما ممن شكّلوا الأسس الفكرية للقومية السوداء الحديثة.

من خلالهم، انخرط في إرث طويل من التفكير في إعادة بناء أفريقيا كموطن للكرامة والحرية للسود حول العالم.

بولغرين: فكرة أن يعود السود من الشتات إلى أفريقيا أو يجدوا فيها موطنهم الطبيعي كانت عميقة ومُلهمة. ونكروما وصل إلى أميركا في لحظة كانت فيها حركة الحقوق المدنية لا تزال في بداياتها. كيف انعكست هذه التبادلات الفكرية في رؤيته للتحرّر؟

فرينش: نحن نعرف أنّ بعض النخب البيضاء في أميركا وبريطانيا دفعت لعودة السود إلى أفريقيا، مثل تأسيس ليبيريا وسيراليون، كوسيلة للتخلّص منهم. لكن ما لا يُعرف كثيراً هو أنّ السود أنفسهم أسسوا حركات "عودة إلى أفريقيا" و"عودة إلى هايتي" كوسائل لاستعادة الكرامة والهوية.

كانت هذه الحركات نابعة من حاجة وجودية: كيف يُعاد بناء حياة كاملة في عالم صمّم لحرمان السود من الكرامة والمواطنة.

بولغرين: لماذا ترى أنّ أفكار نكروما لا تزال مهمة اليوم؟

فرينش: لدى نكروما فكرتان مركزيّتان تستحقّان التوقّف عندهما:

الأولى، أنّ أفريقيا التي رسمها الاستعمار الأوروبي لن تخدم مصالح الأفارقة أبداً. أفريقيا المجزّأة إلى عشرات الدول الصغيرة، كثير منها حبيسة، لن تملك الأسواق أو المنافذ الكافية للتطوّر.

الثانية، أنّ الأفارقة وشعوب الشتات الأفريقي هم أهمّ موارد بعضهم البعض،، ليس فقط كمصدر للاستثمار والسياحة، بل كقوة ضغط داخل الدول الغربية يمكن أن تغيّر سياساتها تجاه أفريقيا.

عندما زار نكروما الولايات المتحدة عام 1958، استُقبل بحفاوة منقطعة النظير. رأى بنفسه قوة الصورة: زعيم أفريقي أسود يصل بطائرة حديثة، يحمل كرامة وهيبة الدولة. فهم أنّ تفعيل خيال الشعوب السوداء في الشتات يمكن أن يغيّر موقع أفريقيا في العالم.

بولغرين: عندما انتقلتُ إلى غانا في التسعينيات، عرفت سيدة أميركية من كومبتون كتبت إلى نكروما عام 1957 لتطلب حضور حفل الاستقلال، ثم انتقلت لتعيش هناك وتزوجت وأنجبت. كانت مثالاً لما وصفته. لكن يبدو أنّ الحلم لم يكتمل، فعدد الأميركيين الأفارقة في غانا ما زال قليلاً، بينما يسعى آلاف الغانيين للهجرة إلى أميركا كما فعل نكروما نفسه. ما الذي أدّى إلى هذا التحوّل؟

فرينش: لا أرى في ذلك بالضرورة إخفاقاً لرؤية نكروما. فالأفارقة الذين يأتون إلى الولايات المتحدة اليوم يمكن أن يؤدّوا الدور المعاكس لما تصوّره، أي أن يكونوا هم من يعيدون تشكيل رؤية الغرب تجاه أفريقيا.

أدرّس في جامعة كولومبيا وأرى الجامعات الأميركية مليئة بالشباب الأفارقة، خصوصاً النيجيريين، وهؤلاء يمكن أن يصبحوا الجسر الجديد بين القارتين.

لكن ثقافياً، كان التحدّي كبيراً. الثقافة الأميركية لطالما نفّرت السود من أصولهم الأفريقية، وكرّست نظرة دونيّة تجاه القارة باعتبارها موطناً للمرض والجهل والفساد. التغلّب على ذلك لم يكن سهلاً أبداً.

ومع ذلك، بدأت دول أفريقية مثل السنغال وبنين تفتح أبوابها لأبناء الشتات، حتى إنّ بنين أقرّت مؤخّراً قانوناً يمنح الجنسية التلقائية لمن يثبت أصوله الأفريقية. هذه فكرة تتكرّر وتختفي لكنها لا تموت.

بولغرين: الهجرة الأفريقية إلى الولايات المتحدة تنمو بسرعة. في عام 1980 كان عدد المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء 130 ألفاً فقط، واليوم أكثر من مليوني شخص. هذا يغيّر معنى الهوية السوداء في أميركا.

فرينش: بالفعل. حتى داخل الفصول الجامعية اليوم، هناك من النيجيريين أكثر من الأميركيين الأفارقة التقليديين. مفهوم "من هو الأميركي الأسود" يتغيّر. وهناك احتكاك وتبادل، وأحياناً توتر،  بين المجموعتين، لكن هذا يعيد تشكيل الهوية السوداء بطريقة ديناميكية.

أفريقيا ستكون المصدر الأكبر للشباب في العالم خلال هذا القرن، بينما الغرب يشيخ ويتراجع معدّل خصوبته. عاجلاً أم آجلاً، ستضطر الدول الغنية لإعادة التفكير في علاقتها بالقارة، لأنّ بقاء اقتصاداتها يعتمد على طاقة وشباب أفريقيا.

بولغرين: ما الفرص والمخاطر أمام القادة الأفارقة اليوم في ظلّ نظام عالمي متغيّر؟

فرينش: الإشارات التي يتلقّاها القادة الأفارقة من العالم سلبية للغاية. أوروبا منشغلة فقط بمنع الهجرة، والولايات المتحدة تتبنّى خطاباً عدائياً وعنصرياً أحياناً.

في ظلّ هذا الواقع، فإنّ دروس نكروما واضحة: لا أحد سيهتمّ بمصالح أفريقيا سوى الأفارقة أنفسهم.

القارة مكوّنة من 54 دولة صغيرة وغالباً فقيرة. الحلّ هو الاندماج والتكامل، ليس بالضرورة حكومة قارية واحدة، لكن بإزالة الحواجز أمام التجارة والتنقّل والتعاون.

يجب أن تتنافس الدول الأفريقية في جذب المواهب والإبداع وتطوير الطاقة، وأن توسّع أسواقها داخلياً. هذه كلّها من صميم رؤية نكروما.

بولغرين: وماذا عن الغرب؟ ماذا يخسر العالم إذا استمر في تجاهل أفريقيا؟

فرينش: هناك تكلفة هائلة. فبحلول عام 2070 سيصل عدد سكان أفريقيا إلى أكثر من ثلاثة مليارات نسمة.

إذا لم تتحوّل القارة إلى قوة استهلاكية مزدهرة، فسيكون ذلك عبئاً على الاقتصاد العالمي. أما إذا استثمرنا في ازدهارها، فستكون محرّكاً للنمو. وإلا فالعواقب ستكون على شكل مدن عملاقة غارقة في الفقر، وهجرات جماعية، وردّات فعل عنصرية متطرّفة في الغرب.

لذلك، الخيار أمامنا واضح: إما الانخراط الإيجابي مع أفريقيا، أو مواجهة تبعات الإقصاء لاحقاً. وأختم بالعودة إلى نكروما: الشتات الأفريقي، وخصوصاً الأميركيين من أصول أفريقية، لديهم دور حاسم في إعادة إشعال الخيال العامّ تجاه أفريقيا، وجعلها أكثر حضوراً وواقعية في وعينا الجماعي.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.