"Responsible Statecraft": "العامل البرتقالي".. سلاح أميركا الكيميائي المستمر في القتل

إنّ التأثيرات الدائمة لهذا المبيد العشبي الذي يعود إلى حقبة حرب فيتنام تؤكد ضرورة اقتران التذكير بالعمل

0:00
  • "العامل البرتقالي"... سلاح أميركا الكيميائي المستمر في القتل

مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يتناول إرث الحروب الكيميائية، وخصوصاً مادة "العامل البرتقالي"، وكيف يستمر أثرها الصحي والبيئي والإنساني بعد عقود على استخدامها، إضافة إلى الثغرات في التعويضات والاعتراف الدولي، ومسؤولية الولايات المتحدة تجاه المجتمعات المتضررة في فيتنام ولاوس وكمبوديا.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

يصادف 30 تشرين الثاني/نوفمبر اليوم العالمي لإحياء ذكرى جميع ضحايا الحروب الكيميائية، الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 2015 لتكريم أولئك الذين عانوا من الأسلحة الكيميائية، ولتأكيد الالتزام الدولي الجماعي بعدم تكرار هذه الفظائع. ومنذ دخول اتفاقية الأسلحة الكيميائية حيّز التنفيذ عام 1997، صادقت عليها 197 دولة، إلا أنّ "إسرائيل" وإن كانت قد وقّعت على الاتفاقية، لم تصادق عليها قط، بينما لم توقّع كلٌّ من مصر وكوريا الشمالية وجنوب السودان. وكانت "منظمة حظر الأسلحة الكيميائية" قد أعلنت في تموز/يوليو 2023 أن جميع مخزونات الأسلحة الكيميائية المبلّغ عنها من قبل الدول الأعضاء، بما فيها الموجودة في الولايات المتحدة، قد دُمّرت، في إنجاز يُعدّ من أبرز نجاحات نزع السلاح في التاريخ الحديث.

ومع ذلك، ما تزال ندوب الحرب الكيميائية حيّة بالنسبة لكثيرين. فعندما يفكّر معظم الناس في الأسلحة الكيميائية، يستحضرون صور أقنعة الغاز أو هجمات السارين أو غاز الخردل، وهي أدوات لصنع أهوال العصر الحديث. لكن بالنسبة لعدد لا يُحصى من العائلات في الولايات المتحدة وفيتنام ولاوس وكمبوديا، يرتبط إرث الحرب الكيميائية باسم مختلف: "العامل البرتقالي". فبين عامي 1961 و1971، رشّ الجيش الأميركي ما يُقدّر بنحو 20 مليون غالون من مبيدات الأعشاب فوق جنوب فيتنام، وعلى طول درب هوشي منه في لاوس، وأجزاء من كمبوديا. وكان ما يقرب من ثلثي هذه الكمية من "العامل البرتقالي"، الذي تبيّن لاحقاً أنّه كان ملوّثاً بمادة (2,3,7,8-تيتراكلوروديبنزو-ب-ديوكسين)، شديدة الضرر وطويلة الأمد، والمصنّفة كمادة مسرطنة للبشر ومعطّلة لعمل الغدد الصمّاء، وقد ارتبطت بأنواع من السرطان واضطرابات في الجهاز التناسلي وعيوب خلقية يمكن أن تنتقل عبر الأجيال.

لقد وسّع هذا القانون نطاق المستفيدين من الرعاية والتعويضات ليشمل المحاربين القدامى الذين خدموا في مناطق أخرى غير فيتنام استُخدم فيها "العامل البرتقالي". وبحلول عام 2024، مُنحت تعويضات لأكثر من 84,000 من قدامى محاربي حقبة حرب فيتنام، وكثير منهم بسبب التعرض لمادة "العامل البرتقالي". ومع ذلك، ما تزال إدارة شؤون المحاربين القدامى تستثني معظم أطفال الجنود من المزايا المتعلقة بالعيوب الخلقية أو الإعاقات، ما لم تكن أمهاتهم قد خَدمن في فيتنام، ويستمر هذا الظلم رغم تزايد الأدلة على التأثيرات الممتدة عبر الأجيال.

وبحسب نص اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، لا يُصنَّف "العامل البرتقالي" كسلاح كيميائي. لكن إذا سألت أحد المحاربين القدامى في حرب فيتنام ممّن يعانون من مرض باركنسون أو السرطان أو أمراض القلب أو أيٍّ من 19 حالة صحية تربطها وزارة شؤون المحاربين القدامى بالتعرض لهذه المادة، فستسمع روايات مختلفة تماماً. فبالنسبة لهم، كان "العامل البرتقالي" سلاحاً صُمّم فعلاً لتدمير الحياة والصحة.

كما تكشف الأرقام حقيقة مؤلمة؛ إذ سمح قانون "العامل البرتقالي" لعام 1991 لإدارة شؤون المحاربين القدامى بافتراض أن جميع من خدموا في فيتنام قد تعرضوا لهذه المادة، ما يجعلهم مؤهلين للحصول على الرعاية الصحية والتعويضات. كذلك أظهر تقرير صادر عن مكتب المحاسبة الحكومية عام 2018 أن أكثر من 757,000 من المحاربين القدامى، أي نحو جندي واحد من كل أربعة خدموا هناك، يتلقون مزايا مرتبطة بالتعرض لـ"العامل البرتقالي". كما وسّع هذا القانون نطاق المستفيدين ليشمل المحاربين القدامى الذين خدموا في مناطق أخرى خارج فيتنام استخدم فيها هذا السلاح.

وبحلول عام 2024، مُنحت تعويضات لأكثر من 84,000 من قدامى محاربي حقبة فيتنام، وكثير منهم بسبب التعرّض لمادة "العامل البرتقالي". ومع ذلك، ما تزال إدارة شؤون المحاربين القدامى تستثني معظم أطفال الجنود من المزايا المرتبطة بالعيوب الخلقية أو الإعاقات، إلا إذا كانت أمهاتهم قد خَدمن في فيتنام. ويستمر هذا الظلم رغم تزايد الأدلة على التأثيرات الممتدة عبر الأجيال.

لسنوات، تجنّبت الحكومة الأميركية معالجة الأضرار خارج حدودها أيضاً. ولم تبدأ التعاون مع فيتنام لتنظيف التلوّث المستمر بالديوكسين إلا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبفضل الجهود الدؤوبة للسيناتور السابق باتريك ليهي، وهو "ديمقراطي" من فيرمونت، قدّمت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين أكثر من 333 مليون دولار لتنظيف البيئة في قاعدتَي دا نانغ وبيان هوا الجويتين، إضافة إلى 139 مليون دولار لبرامج الصحة والإعاقة في المجتمعات الفيتنامية المتضررة. وخلال زيارته لهانوي في وقت سابق من هذا الشهر، أكد وزير الدفاع بيت هيغسيث التزام الولايات المتحدة بهذا التعاون وتعزيز العلاقات الدفاعية. ومع ذلك، يتوقف هذا التعاون الحيوي عند حدود فيتنام.

ففي لاوس المجاورة، تعاني العائلات المعاناة نفسها التي عرفتها فيتنام، ولكن من دون أي دعم. وقد وثّق "مشروع إرث الحرب" مئات الأطفال الذين وُلدوا بعيوب خَلقية شديدة في المناطق التي رُشّت بالمواد الكيميائية في لاوس، وهي عيوب مشابهة بشكل مقلق لتلك التي شوهدت في فيتنام. وقبل تقاعده في عام 2023، حصل السيناتور ليهي على 1.5 مليون دولار لبرامج الإعاقة في لاوس، تلتها 3 ملايين دولار أخرى خلال العامين التاليين. ومع ذلك، أُلغي في وقت سابق من هذا العام مشروع "الفرصة"، وهو أحد البرامج القليلة التي كانت تدعم الأشخاص ذوي الإعاقة على طول طريق هوشي منه بشكل هادئ. وهكذا، تُركت تلك العائلات مرة أخرى لتواجه مصيرها وحدها.

وبعد مرور 50 عاماً على انتهاء حرب فيتنام، لا يزال الإرث السام لـ"العامل البرتقالي" وغيره من السموم الكيميائية قائماً. وقد لا تُدرجه الاتفاقية ضمن الأسلحة الكيميائية المحظورة، لكن عقوداً من المعاناة، وانتقال الأمراض بين الأجيال، والدمار البيئي تجعل آثاره واضحة وجلية. وبينما نتذكر ضحايا الحرب الكيميائية، يجب أن نتذكر أيضاً أولئك الذين تقع معاناتهم خارج حدود التعريفات الدولية الضيقة. فقد استُخدم "العامل البرتقالي" لقدرته على تدمير الغابات، لكنه فعل العكس، إذ كشف فعلياً عن الآثار طويلة الأمد للحرب الكيميائية على حياة البشر.

ومع ذلك، اتخذت الولايات المتحدة خطوات جديرة بالثناء لإصلاح ما حدث في فيتنام. لكن المصالحة الحقيقية والقيادة الأخلاقية تتطلبان الذهاب أبعد من ذلك. وهذا يعني توسيع الدعم للمجتمعات في لاوس وكمبوديا التي كانت أيضاً ضحية لأفعال لا يمكن إنكارها ارتُكبت من قبل الولايات المتحدة. كما يعني ضمان حصول المحاربين القدامى وعائلاتهم داخل الولايات المتحدة على التقدير والرعاية التي يستحقونها، بما في ذلك الأطفال الذين وُلدوا بإعاقات قد تكون مرتبطة بتعرّض آبائهم لهذه المادة. ويعني كذلك الاستمرار في البحث العلمي لفهم التأثيرات الجيلية لهذه المواد بشكل كامل.

قد لا تكون الأسلحة الكيميائية موجودة اليوم في الترسانة الأميركية، لكن أشباحها ما تزال حاضرة في تربة جنوب شرق آسيا، وفي أجساد قدامى المحاربين، وفي المادة الوراثية لأبنائهم. ولتكريم ضحايا الحروب الكيميائية، لا يكفي تذكُّر أولئك الذين قضوا بفعل غاز السارين أو الخردل، بل يجب أيضاً تذكُّر الذين يواصلون العيش مع الجروح الخفية لـ"العامل البرتقالي". وطالما بقيت تلك الجروح بلا شفاء، سيظل عملنا لإنهاء الحرب الكيميائية غير مكتمل.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.