"Responsible Statecraft": تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط أصبح ضرورياً
ينبغي أن تدفع الضربة الأخيرة التي نفذتها "إسرائيل" في قطر واشنطن إلى التوقف عن دعم حالة عدم الاستقرار الإقليمي التي لا تخدم المصالح الأميركية.
-
القنابل التي استخدمتها في غزة ولبنان كانت من صنع الولايات المتحدة
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يناقش الخيارات الأميركية لتقليص التورط العسكري في الشرق الأوسط، وضرورة إعادة ضبط العلاقة مع "إسرائيل".
ويناقش المقال أيضاً ما إذا كانت "إسرائيل" قد أصبحت قوة شبه مهيمنة إقليمياً، مستعرضاً الدعم العسكري والدبلوماسي الأميركي الذي مكّنها من التحرك شبه الحر في المنطقة، والتهديدات التي يشكلها هذا الوضع لمصالح الولايات المتحدة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
لا شك في أنّ الإجابة عن سؤال إن أصبحت "إسرائيل" القوة المهيمنة الجديدة في الشرق الأوسط بالغة الأهمية الآن. فلطالما كان منع ظهور قوة إقليمية مهيمنة منافسة تتمتع بقدرة عسكرية واقتصادية فائقة في أوراسيا هدفاً أساسياً في السياسة الخارجية الأميركية.
وخلال الحرب الباردة، كانت واشنطن تخشى سيطرة الاتحاد السوفييتي على أوروبا. أمّا اليوم، فيقلق صانعو السياسات في واشنطن من أنّ الجيش الصيني المتنامي القدرات سيزاحم الولايات المتحدة خارج الأسواق الاقتصادية المربحة في آسيا، تماما كما تصرفت الولايات المتحدة مرارا لمنع الحلفاء المقربين في أوروبا وآسيا من أن يصبحوا منافسين عسكريين، وذلك من خلال تقديم وعود بالحماية العسكرية الأميركية، لإبقائهم ضعفاء ومعتمدين عليها.
ومع ذلك، لم تواجه الولايات المتحدة تاريخياً منافسين مهيمنين فعليين في منطقة الشرق الأوسط. فالدول التي يحتمل أن تنافس على الهيمنة، مثل إيران، والسعودية، وتركيا والعراق، تفتقر كل منها إلى القدرات العسكرية والإمكانات الاقتصادية اللازمة لفرض سيطرة على الآخرين. كما أنّ المنطقة منقسمة بسبب حالة عدم اليقين المتجذّرة منذ زمن طويل.
بالنسبة لمن يؤيدون تقليص الدور الأميركي، فقد اعتبر هذا الأمر نقطة إيجابية في ظل غياب منافس مهيمن حقيقي، لا داعي لواشنطن أن تخشى أن يؤدي انسحابها من الشرق الأوسط إلى إقصائها نهائياً عن المنطقة.
فلقد أدّت السياسة الخارجية العدوانية لـ"إسرائيل" خلال العامين الماضيين إلى إعادة النظر في هذه الافتراضات القديمة. فعلى الأقل ظاهرياً، باتت "إسرائيل" تمتلك بعض مؤشرات الهيمنة الإقليمية. وقد تحركت بشبه حرية كاملة، مستخدمة قوة عسكرية عقابية ضد دول عدة في المنطقة وفرض إرادتها على خصومها.
كما وسّعت حدودها الفعلية من خلال إنشاء "مناطق عازلة" جديدة في لبنان وسوريا، ونجحت بتنفيذ عمليات اغتيال في لبنان واليمن، وإيران، وقطر، وغزّة. وقد أدت هذه الأعمال إلى تغيير ميزان القوى في المنطقة لصالح "إسرائيل"، وأثبتت أنّ قدراتها العسكرية تفوق بكثير قدرات جيرانها.
وإذا كان لدى "إسرائيل" مسار مستقل نحو الهيمنة الإقليمية، فهذا يشكل تحدياً لنفوذ الولايات المتحدة وقدرتها على التأثير، ويُولد معضلة لصانعي السياسات الأميركيين، خاصة وأنّ واشنطن لم تكن يوماً مستعدة لتقييد "إسرائيل" كما تفعل مع حلفائها وشركائها في أماكن أخرى. بل كان دور الولايات المتحدة دائماً دوراً داعماً يهدف إلى تعزيز القوة العسكرية الإسرائيلية، وليس تقييدها أو الحد منها.
ولقد نجح هذا المستوى من العلاقة، لأنّ المصالح الإسرائيلية والأميركية كانت متوافقة بشكل عام، ولأنّ "إسرائيل" كانت بمثابة وكيل مفيد للولايات المتحدة في المنطقة من دون أن تهدد مكانتها في قمة الهرمية. ويعتبر الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطر، الشريك الوثيق للولايات المتحدة، أحدث مؤشر على أنّ هذا الوضع قد يكون في طور التغيير.
كذلك لم تلتزم "إسرائيل" بإبلاغ الولايات المتحدة عن الهجوم إلا بشكل محدود كما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد ذلك، عن أنّ الخطوة الإسرائيلية لم "تعزز أهداف أميركا" في المنطقة بشكل عام.
لقد كانت إنجازاتها التكتيكية مثيرة للإعجاب، لكنّ الواقع هو أنّ "إسرائيل" لديها فرصة ضئيلة لأن تصبح قوة مهيمنة إقليميا بمفردها. وهذا التقييم يتفق حوله مسؤولون سابقون في الحكومة الإسرائيلية، ويشيرون إلى أنّه "على الرغم من كونها أقوى قوة عسكرية في المنطقة، إلا أنّ "إسرائيل" ليست قوة مهيمنة إقليمياً.
والاقتصاد الإسرائيلي لا يمثل حصة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي، ولا تستطيع "إسرائيل" إعادة تشكيل الترتيبات الاقتصادية في المنطقة لصالحها بشكل أحادي. كما أنّ عدداً قليلاً يعتبر من الحلفاء الطبيعيين لـ "إسرائيل" في المنطقة، وهي لا تتمتع أيضا بقوة ناعمة بين جيرانها.
وبدلاً من اتباع مسار مستقل نحو الهيمنة الإقليمية، فإنّ أفضل ما يمكن أن تأمله "إسرائيل" على الأرجح هو نوع من الهيمنة الجزئية، المدعومة والميسرة من خلال التمويل والقوة العسكرية الأميركية. وكما أوضح تريتا بارسي من معهد كوينسي، "لا تستطيع إسرائيل أن تواصل حروبها لفترة طويلة من دون أن تدفع الولايات المتحدة تكاليفها، وترسل الأسلحة، وتحميها دبلوماسياً. هذه ليست هيمنة إسرائيلية، بل هذا يعني أنّ "إسرائيل" أصبحت وكيلاً للهيمنة لنفسها، بينما تتحمل الولايات المتحدة معظم التكاليف".
هناك 3 آليات تساهم من خلالها المساعدات العسكرية والدبلوماسية الأميركية في تعزيز المكانة شبه المهيمنة لـ"إسرائيل". الآلية الأولى واضحة، حيث تعتمد "إسرائيل" على المساعدة العسكرية الأميركية في عملياتها الهجومية والدفاعية على حد سواء.
كذلك اعتمد الهجوم الإسرائيلي على إيران إلى طائرات "إف 16"، كما أنّ القنابل التي استخدمتها في غزة ولبنان كانت من صنع الولايات المتحدة. وبالرغم من أنّ لديها قدرات عسكرية محلية الصنع، إلا أنّها تعتمد بشكل كبير على المساعدات الأميركية وعلى "التفوق العسكري النوعي" الذي توفره لها الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على الحملات العسكرية الإسرائيلية العديدة والمستمرة.
أمّا الآلية الثانية، فهي أنّ التحرك العسكري الهجومي لـ"إسرائيل" في المنطقة ممكن، لأنّ قادتها واثقون من الدعم الأميركي شبه غير المشروط. ففي حال تعرض "إسرائيل" لهجوم انتقامي نتيجة لأعمالها العسكرية ضد جيرانها، حتّى وإن كانت هي البادئة والمستفزّة، فإنّ الولايات المتحدة ستتولى ضمان أمنها، وتدافع على الأقل عن المجال الجوي والمياه الإقليمية ل"إسرائيل"، كما فعلت طوال عامي 2024 و2025. وبالتالي، يمكن لإسرائيل أن تخاطر إلى أبعد حدّ، وهي تعلم أنّها لن تضطرّ أبدا إلى تحمل العواقب الكاملة.
وينطبق الأمر نفسه في المجال الدبلوماسي، حيث اعتادت إسرائيل على الدعم الأميركي غير المشروط في مواجهة الضغوط والإدانات الدولية. وبعبارة أخرى، فإنّ إفلات إسرائيل من العقاب ليس نتيجة لجهودها، بل هو منحة من الولايات المتحدة.
وأخيراً، فإنّ استمرار الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط يمكن "إسرائيل" من تعزيز مكانتها من خلال التدخل في توازن القوى الطبيعي في المنطقة.
تعمل الولايات المتحدة حالياً كعامل توازن إقليمي بين "إسرائيل" والدول العربية، وبين الدول العربية نفسها. وإذا غابت الولايات المتّحدة، فإنّ النهج الإقليمي الهجومي المتزايد لـ"إسرائيل" سيؤدي إلى رد فعل موازن من جيرانها، بما في ذلك دول الخليج وإيران، من أجل الحدّ من توسّع "إسرائيل" ومنع محاولتها للهيمنة على المنطقة. لكن ما دامت الولايات المتحدة باقية في المنطقة لن يحدث ذلك، وستظل "إسرائيل" من دون تحدّ فعلي.
بالنسبة لواشنطن المستعدة للتحرك ضد المتحدين الإقليميين مهما كان شكلهم، فإنّ الانسحاب من الشرق الأوسط لم يعد خياراً، بل أصبح ضرورياً لضمان عدم استمرار "إسرائيل" بالاستفادة من الدعم العسكري الأميركي ووجودها المتقدم في المنطقة للعمل ضد المصالح الأميركية.
وتتمتع إدارة ترامب بموقع جيد لبدء هذا الانسحاب التدريجي. ويجب أن تبدأ ذلك بسحب القوات الجوية والبحرية التي تم تعزيزها خلال العامين الماضيين، ثمّ الانتقال إلى تقليص الانتشار العسكري المتبقي من فترة "الحرب العالمية على الإرهاب"، بما في ذلك القوات الموجودة في العراق وسوريا والأردن وقاعدة العيديد الجوية في قطر.
سيحتاج الرئيس ترامب أيضا إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه نتنياهو. ويجب تقليص المساعدات العسكرية الهجومية الأميركية ل"إسرائيل"، وينبغي لواشنطن أن توضح أنّ الولايات المتحدة ستقدم لها الدعم الدفاعي المباشر فقط، وفي الحالات التي تكون فيها ضحية لعدوان غير مبرر، وليس كرد فعل على ضربات "إسرائيل" نفسها.
وأخيراً، يجب على إدارة ترامب أن تضع خطّاً أحمر واضحاً فيما يتعلق بانتهاكات "إسرائيل" لسيادة الأراضي لدول الجوار، وأن تكون على استعداد لإظهار الاستياء الدبلوماسي والسياسي إذا تجاوزت "إسرائيل" تلك الحدود.
لا تعني هذه الخطوات بالضرورة نهاية الشراكة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل". ويمكن أن تستمر هذه العلاقة مع تقديم الولايات المتحدة مساعدات عسكرية محدودة ولعب دور مقيد في المنطقة، بحيث يقتصر على دعم الدفاعات الإسرائيلية بشكل محدود. لكنّ هذه التغييرات ستشكل إعادة ترتيب كبيرة للعلاقة، بما يضمن أن تكون مناسبة للأهداف، وتحقق المصالح الأميركية بدلاً من الإضرار بها في المستقبل.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.