"Responsible Statecraft": هل تتحوّل الحرب التجارية بين الصين وأميركا إلى صراع عنيف؟
إنّ التهديد الأكبر الذي تشكله الرسوم الجمركية التي فرضها كلّ من ترامب والصين هو التصعيد الحاد في التوترات الأمنية المستمرة، والتي يمكن أن تتحول بسهولة إلى وضع آخر.
-
لقاء سابق بين الرئيسين الصيني والأميركي عام 2019
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً تتناول فيه التصعيد المتزايد في العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، متسائلةً عمّا إذا كان ذلك سيتحوّل إلى صراع عسكري. ويشير النص إلى أنّ الحرب الاقتصادية قد تؤدي إلى تأثيرات غير متوقعة على الاقتصاد العالمي.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
أوقف ترامب اليوم حربه التجارية العالمية مع جميع الدول باستثناء الصين. وهذا يؤكد أنه حتى مع تركيز الأنظار على الفوضى في الأسواق المالية، فإنّ التهديد الأكبر الذي شكّله "يوم التحرير" الذي أعلنه ترامب كان التصعيد الحاد في الصراع الأميركي - الصيني، الذي قد يتحول إلى صراع عنيف خلال العامين المقبلين.
قبل "يوم التحرير" الذي أعلنه ترامب، كانت العلاقة بين البلدين متوترة، في ظل تزايد الضغوط المستمرة نحو الصراع. إذ لم تكتفِ إدارة بايدن بالاحتفاظ بمعظم التدابير العدائية التي اتخذتها إدارة ترامب الأولى ضد الصين، بل وسّعت نطاقها وكثّفتها. وعلى الرغم من أنها أحيت التبادلات الدبلوماسية التي أغلقتها إدارة ترامب الأولى، فقد رفضت إدارة بايدن التعاون مع الصين للتخفيف من حدة القوى الخاسرة التي تدفع البلدين إلى الوقوف أحدهما في وجه الآخر.
أما إدارة ترامب الجديدة، فقد سارعت إلى فرض زيادة حادة على الرسوم الجمركية الصينية المرتفعة أصلاً. ومع ذلك، كان الطرفان على استعداد في البداية للتوصل إلى اتفاق من شأنه على الأقل التخفيف من حدّة التوترات. وبعد الانتخابات، أرسلت بكين وفوداً إلى واشنطن على أمل فهم طبيعة التنازلات التي يسعى ترامب للحصول عليها وكيفية بدء المحادثات. واقترحت بشكل غير رسمي مجموعة من القضايا التي يمكنها التنازل عنها، بدءاً من تقييم العملات إلى الضمانات المتعلقة بمركزية الدولار وصولاً إلى الاستثمار الصناعي في الولايات المتحدة.
من جانبه، أغدق ترامب الثناء على الرئيس الصيني شي جين بينغ ، قائلاً: "إنه رجلٌ رائع!"، وألمح مراراً إلى إمكانية حدوث لقاءٍ مُبكرٍ بينهما. وفي شباط/ فبراير، اقترح أن تُجري الولايات المتحدة وروسيا والصين محادثاتٍ للحد من الأسلحة النووية، قد تُؤدي في النهاية إلى قيام الدول الثلاث بخفض إنفاقها العسكري إلى النصف. وكما ذُكر مؤخراً، بعيداً عن الخداع أو التضليل، دعمت رؤية ترامب للعالم وطريقة تفكيره إمكانية عقد مثل هذه الصفقات.
إلا أنّ هذه الإمكانية قد تلاشت اليوم. وبدلاً من ذلك، دخلت الولايات المتحدة والصين في دوامة التصعيد التي قد تؤدي إلى تدمير كلا البلدين.
في يوم التحرير، أعلن ترامب أنّ عقوبة الصين على التجارة غير العادلة ستكون زيادةً إضافيةً بنسبة 34% في الرسوم الجمركية، تضاف إلى المتوسط الحالي البالغ 42%. بهذه المعدلات المرتفعة، لن يبقى سوى عدد قليل من المنتجات الصينية القادرة على المنافسة في السوق الأميركية. والأهم من ذلك، هو أنّ الهجوم الأخير أقنع القيادة الصينية بأنّ إدارة ترامب غير مهتمة بالمفاوضات، وأنها بدلاً من ذلك تسعى إلى إذلال الصين وتدمير اقتصادها.
وعلى عكس ردّها المحدود على زيادة الرسوم الجمركية السابقة، قرّرت الصين هذه المرّة أن تردّ. ففرضت زيادة شاملة بنسبة 34% على الصادرات الأميركية، ما أثر على إيرادات الشركات الأميركية بنحو 143.5 مليار دولار. كما فرضت قيوداً جديدة على صادرات بعض المعادن ذات الأهمية الاستراتيجية، وأضافت بعض الشركات الأميركية إلى قائمة الشركات غير الموثوقة، وأعلنت عن فتح تحقيق في قضية احتكار مع شركة "دوبونت" (DuPont).
وفي ردها الرسمي، نصّبت الحكومة الصينية نفسها مدافعةً عن الوضع الراهن للعولمة. ووصفت هدف الولايات المتحدة بأنه يتمثل في "استخدام الرسوم الجمركية لقلب النظام الاقتصادي الدولي القائم، ووضع مصالح الولايات المتحدة فوق المصلحة العامة للمجتمع الدولي، والتضحية بالمصالح المشروعة للدول الأخرى خدمةً للمصالح الأميركية المهيمنة".
إضافة إلى ذلك، قدّمت الحكومة نفسها باعتبارها هادئة وكريمة ولكنها حازمة في مواجهة الولايات المتحدة غير العقلانية والعدوانية: "نحن لا نبدأ المشاكل، ولكننا لا نخاف منها أيضاً". وطمأن بيان نشرته صحيفة الشعب اليومية (People’s Daily) الشعب الصيني بشأن مرونة الاقتصاد، ووعد بتقديم دعم مالي كبير لتوسيع الطلب الاقتصادي المحلي واتخاذ إجراءات حكومية لمساعدة الشركات على تجاوز فترة الاضطرابات.
وردّ ترامب بعزم مماثل، ولكن ليس بهدوء واحترام، عبر منشور قال فيه: "لقد لعبت الصين الأمر بشكل خاطئ، لقد أصيبوا بالذعر، هذا الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون تحمله!". ثم رفع الرسوم الجمركية على الصين بنسبة 50% إضافية. وأعلنت الصين أنها ستُطبّق زيادة مماثلة غداً. وفي خطاب لاذع، أضاف ترامب زيادةً إضافيةً بنسبة 21%. وفي المجمل، منذ بداية ولاية ترامب، رفعت الولايات المتحدة معدلات الرسوم الجمركية بنسبة 125%، والصين بنسبة 84%.
وتماشياً مع منشور الرئيس، يُسود اعتقاد في واشنطن بأن اقتصاد الصين هشٌّ للغاية، ولا يملك أي نفوذ في الصراع الاقتصادي. ويُعتقد بأنّ عزل الصين عن السوق الأميركية سيُغرق أسواق التصدير الأخرى؛ وبالتالي، سيُنفّر أوروبا واليابان ودول الجنوب العالمي.
وقد تؤدي هذه الثقة المفرطة إلى حصول أخطاء خطيرة في الحسابات في ظل تزايد حدّة الخلافات.
في الحقيقة، تُعاني الصين منذ عام 2021 انهياراً بطيئاً لفقاعتها العقارية الضخمة، وانتقالاً غير متوازن إلى هيكل نمو جديد، ما أدّى إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وضغوط انكماشية مستمرة. كما أنها تمتلك فائضاً تجارياً ضخماً وتحتاج إلى إيجاد منفذ.
يمتلك صانعو السياسات الاقتصادية الصينيون مساحة كبيرة لاستخدام التحفيز المالي لزيادة الطلب المحلي إذا ما اختاروا استخدامه. ولكن حتى هذه اللحظة، امتنعوا عن ذلك سعياً منهم للحفاظ على زخم أجندتهم للإصلاحات الاقتصادية الهيكلية. وفي مواجهة حالة الطوارئ الناجمة عن الصراع الدولي، يُرجح أن يفتحوا منافذ المساعدات.
في المقابل، ربما تراجع ترامب عن هجومه الاقتصادي على العالم أجمع، لكنه رفض التراجع عن هجومه على الصين. وهذا يعني أن الاقتصاد الأميركي وعلاقاته الاقتصادية مع شركائه التجاريين الآخرين يواجهان فترة من الشكّ المُضني، وقد يتسببان بحدوث أضرار جسيمة. وقد يشهد نمو الصين انتعاشاً، حتى في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة ارتفاعاً في التضخم وتباطؤاً في النمو.
تجد الولايات المتحدة والصين نفسيهما اليوم عالقتين في دوّامة المواجهة. وقد شكّل فشل الإجراءات الأميركية في تقويض الاقتصاد الصيني العامل الرئيس الذي كبح جماح الحرب الاقتصادية حتى هذه اللحظة.
فإلى أين قد يتجه هذا الصراع؟ إن النتيجة الأكثر ترجيحاً للانفصال الصعب بين الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني هي حدوث اضطراب رهيب في سلاسل التوريد العالمية. إذ سيغلق الكثير من الشركات أبوابه، لكن شبكات التهريب الكبيرة ستظهر أيضاً مع البحث عن مدخلات حيوية اختفت فجأة. كما سينتقل بعض الإنتاج الصيني إلى دول أميركا اللاتينية التي نجت إلى حد كبير من يوم التحرير.
وهذا الأمر سيُمهّد الطريق لمزيد من التصعيد، بحيث ستسعى الولايات المتحدة إلى قمع التهريب، بينما ستستهدف الصين السلع ذات الأهمية الاستراتيجية لحرمان المنتجين الأميركيين منها. وسيبدأ كِلا الجانبين بالاعتماد على دول ثالثة للحفاظ على نفوذهما، ما قد يفتح الباب أمام احتمال نشوب صراع بالوكالة. وأكثر ما يثير القلق هو أنّ كِلا الجانبين سيميل بشكل متزايد إلى إيلام الجانب الآخر من خلال استهداف حساسياته الأمنية الوطنية بشكل مباشر أكثر.
عادةً ما تُقابل الصين أي تصعيد أميركي بردٍّ متناسب. كما أنّ لديها دوافع قوية لتجنب ردود الفعل غير المنضبطة، إذ ترغب في استخدام الإجراءات الأميركية العدائية ضد دول أخرى لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية في المنطقة ومع أوروبا. لكن لا يمكن قول الأمر نفسه عن إدارة ترامب. فهذا الأخير يبدو مهووساً بمحاولة انتزاع استسلامٍ لن يقبله القادة الصينيون أبداً. ومع تزايد إحباطه، ولا سيّما إذا أثبت الاقتصاد الصيني قدرته على الصمود في وجه هجومه، سيزداد تقبّله لفريق الأمن القومي الذي شكّله. وعلى عكس غرائزه، فإنّ كبار مستشاري ترامب العسكريين والاقتصاديين ملتزمون، بلا استثناء تقريباً، بمواجهة الصين.
ويشير مضمون مذكرة التوجيه الاستراتيجي المؤقت للدفاع الوطني الصادرعن البنتاغون إلى مدى سهولة انزلاق الحرب الاقتصادية نحو صراع عسكري. وقد يستغل قادة وزارة الدفاع انهيار العلاقات بين الولايات المتحدة والصين لمواصلة التعزيزات العسكرية في آسيا التي حدّدوها باعتبارها "الهدف الأساسي للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة".
هذا المسار كان مزعزعاً للاستقرار حتى عندما اتبعته إدارة بايدن إلى جانب محاولاتها إقامة حواجز تحدّ من الصراع. وفي سياق المعاناة الاقتصادية المتزايدة على الجانبين، ومع تنامي النزعة القومية في كلا البلدين لتصبح قوة ملزمة للزعماء، يُرجح أن تختار كلٌّ من الحكومتين ردود أفعال أكثر تدميراً لما تعتبره استفزازات من الجانب الآخر. وبالتالي، فإن أي خطوة واحدة خاطئة حول تايوان أو في بحر الصين الجنوبي قد تؤدي إلى كارثة.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.