"الغارديان": عنف وإقصاء.. الدولة السورية الانتقالية وخطرها الطائفي
في آذار/ مارس، وبينما كانت أعمال العنف الطائفي والقتل الانتقامي تمزق أجزاء من سوريا، حاول صديقان من مجتمعين مختلفين إيجاد طريقة للبقاء على قيد الحياة.
-
أثر الرصاص داخل منزل في الساحل السوري
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً يتناول مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، عبر قصة المواطن السوري منير، وهو معارض ماركسي من الطائفة العلوية عاش سنوات في سجون النظام، ليجد نفسه بعد انهياره في مواجهة دائرة جديدة من العنف الطائفي والانتقام المتبادل.
النص يقدّم صورة قاتمة لسوريا ما بعد الأسد، حيث الطائفية، الفوضى، والانتقام تطغى على محاولات بناء دولة جديدة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في ليلة السادس من آذار/مارس، لم ينم منير وزوجته وابناهما، وكلاهما في العشرينيات من العمر. تجمّعوا معاً في غرفة نوم صغيرة بشقتهم في الوقت الذي دخلت القوات التابعة للحكومة وعناصر الميليشيات حيّهم "القصور" في مدينة بانياس الساحلية، وتنقلوا من منزل إلى آخر. وبدا أنّ المقاتلين يتنقّلون في الشوارع من دون تنسيق يُذكر. وقد تُداهم 5 مجموعات منفصلة منزلاً واحداً، بينما تُترك منازل أخرى من دون مساس. وقال منير: "لم تكن هناك أي خطة، بل مجرد أعمال عنف".
وكان أول سؤال طرحه المقاتلون عند اقتحامهم إحدى الشقق: "هل أنت سنّي أم علوي؟". وكان الجواب يُحدّد مصير السكان. وعندما عثر المهاجمون على منزل عائلة علوية، سرق بعضهم ما استطاعوا حمله وغادروا؛ بينما جاء آخرون للانتقام، فكانوا يسرقون أولاً ثم يطلقون النار. وأشار منير إلى أنه "إن لم تقتلك المجموعة الأولى، فقد تقتلك المجموعة التالية".
كان منير، الماركسي الملتزم، قد أمضى أكثر من عقد من الزمن سجيناً في سجون بشار الأسد. وعندما تمّ القضاء على النظام في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، كان فرحاً. إلا أنّ منير ينحدر من عائلة علوية، الطائفة التي ارتبطت بنظام الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي.
وبعد سقوط الأسد، ساد جوّ من الخوف والريبة في ريف مدينتي حمص وحماة، وفي القرى الجبلية. ووردت تقارير يومية عن عمليات اعتقال تعسّفي وإهانات على الحواجز وعمليات اختطاف وقتل. وكان بعض القتلى من ضباط النظام السابقين أو المجرمين المتهمين بجرائم الماضي. وقُتل آخرون بسبب نزاعات على الأراضي المصادرة. وفي بعض المناطق، عاد النازحون بسبب الحرب من سنوات قضوها في مخيمات اللجوء، ليجدوا منازلهم مدمّرة والقرى العلوية المجاورة مزدهرة. ولم تُسجّل أيّ جهود مُنظَّمة لقوات جهاز الأمن العام الجديد للقبض على المتهمين بجرائم في عهد النظام. وكانت النتيجة أعمال انتقام ونهب وقتل فردية على يد عصاباتٍ مُسلَّحة.
وكانت الهجمات على حي منير وعلى طول الساحل تتويجاً لسلسلة من المداهمات والهجمات المتبادلة. وقبل أيام قليلة، جابت قوات حكومية بشاحنات صغيرة شوارع بانياس، وأطلقت النار عشوائياً وأرعبت السكان المحليين. ويوم الخميس في الـ6 من آذار/مارس، تعرّضت وحدة من الأمن العام كانت في طريقها لتنفيذ اعتقالات في قرية علوية بريف اللاذقية لإطلاق نار من قبل مسلحين. وأعقبت ذلك موجة من الهجمات المنسّقة شنّها مسلحون علويون، أسفرت عن مقتل العشرات من قوات الأمن والشرطة والمدنيين، وسيطروا على أحياء ومبانٍ عامة. وعلى مسافة غير بعيدة من منزل منير، هاجموا نقطتي تفتيش للأمن العام عند مدخل بانياس، ما أدى إلى مقتل 6 رجال.
وأشارت وسائل الإعلام السورية إلى هؤلاء المسلحين باعتبارهم "فلولاً" وهو مصطلح يعني البقايا، استخدم في البداية بعد الثورة المصرية عام 2011 لوصف بقايا النظام المهزوم الذي يحاول العودة إلى السلطة. وقد حشدت الحكومة قواتها وطلبت تعزيزات من وحدات مسلحة في أماكن أخرى، قبل أن تشن عملية عسكرية واسعة النطاق مساء يوم 6 آذار/ مارس لاستعادة السيطرة.
بقي منير وعائلته في الشقة طوال ليل الخميس وصباح اليوم التالي، يستمعون إلى إطلاق النار. وفي ظهر يوم الجمعة، تلقّى مكالمة هاتفية من ابن أخيه الذي يسكن على بُعد شارعين. وأخبره أن مسلحين كانوا يطرقون أبواب المبنى السكني الذي يقطنون فيه. ففتح شقيق منير، وهو في العقد السابع من العمر، الباب وانحنى. فسأله المسلحون إن كان بحوزته أيّ أسلحة ليُجيبهم بالنفي. ثم سألوه إن كان علوياً أم سنياً، فأخبرهم أنه علوي. فاقتادوه هو وابنه مع 3 رجال من شقة أخرى إلى السطح، وأطلقوا النار عليهم. نجا الابن وحده. وتمكّن من الزحف عائداً إلى شقته ليتصل بمنير. فقال منير: "منذ تلك اللحظة، بتنا ننتظر دورنا".
أحمد الشرع، الحاكم الجديد لسوريا، طويل القامة وفصيح اللسان، واثقٌ بزيه الغربي الجديد ولحيته المشذّبة. في البداية، بدا وكأنه مخلّص البلاد. فخلال الأيام الأولى لحكمه، عمل جاهداً على طمأنة الشعب السوري والعالم الخارجي، وإقناع الولايات المتحدة برفع العقوبات، وبدء العملية الشاقة لإعادة إعمار البلاد. ووقف أمام المئات من قادة الثورة، معلناً النصر ونهاية الثورة. وأمر بحلّ جميع الفصائل العسكرية، بما فيها فصيله، "هيئة تحرير الشام"، وإعادة تشكيلها في جيش وطني جديد، وأعلن تشكيل حكومة انتقالية جديدة. وفي وقت سابق، أصدر عفواً شاملاً عن السوريين.
-
مبنى مدمّر جزئياً في مدينة حمص
بدا الأمر وكأنه وعد بالحفاظ على سلامة جنود النظام وضباطه الذين لم يقاوموا المتمرّدين، وربما كان أيضاً بمثابة ضمانة للمجتمع العلوي، الذي دعم القوات الموالية للأسد، بأنهم لن يتعرّضوا للعقاب الجماعي.
وخلال الأسابيع الأولى للحكومة الجديدة، استضاف منير اجتماعات في شقته الصغيرة، وسافر إلى قرى نائية وحضر جنازات وحفلات زفاف، وحاول إخبار الناس في مجتمعه العلوي بأنّ المتمرّدين السابقين باتوا اليوم في السلطة وأنّ دعمهم هو الخيار الأفضل. وقال لهم إنه في حال انهارت هذه السلطة الجديدة، فلن يملك أحدٌ غيرهم سلطة حكم سوريا. وأضاف: "بالتعاون معهم، يمكننا المساهمة تدريجياً في رسم مسار الدولة الجديدة. وفي حال استطعنا الانتقال من جحيم الأسد من دون سفك الدماء، فسنكون ممتنين لهيئة تحرير الشام".
لكنّ الإدارة الناشئة بدت أقل تمثيلاً لجميع السوريين، وأكثر امتداداً للهيئة التي حكمت المناطق التي سيطر عليها المتمرّدون خلال الحرب الأهلية الطويلة. وبعد عقود من حكم الأقلية، رسّخت الدولة الجديدة هويتها ذات الأغلبية السنيّة. ومن أوائل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الانتقالية كان تطهير مؤسسات الدولة والخدمات العامّة من الموظفين والعمال العلويين، بحجة "القضاء على فلول النظام السابق". وتمّ حلّ الجيش وجميع الأجهزة الأمنية، حيث كان للعلويين نفوذٌ غير متناسب. ووجد عشرات الآلاف أنفسهم عاطلين عن العمل، من دون أيّ مصدر دخل.
وكان هناك الكثير ممن لم يتمكّنوا من نسيان طائفية عهد الأسد. فعندما فرّ الأسد وعائلته، تركوا وراءهم بلداً مُدمّراً. ندوب 15 عاماً من الحروب، أنقاض المدن المُدمّرة، واقتصاد مُنهار، ونزوح نصف سكان البلاد، ومقابر جماعية ومقابر تضم أكثر من نصف مليون قتيل. وخلّف العنف الطائفي ندوباً عميقة، ولا تزال العائلات المكلومة تبحث عن عشرات الآلاف من المختفين قسراً. وكان إخبار هؤلاء الناس بأن مضطهديهم باتوا أحراراً، من دون وعدٍ بالعدالة، أمراً يفوق طاقة الكثيرين منهم على التحمّل.
في مدينة حمص، التقيتُ سجيناً سابقاً أمضى 13 عاماً في أحد سجون الأسد. كان ضعيفاً ونحيلاً، بعد نوبات متكرّرة من السل أُصيب بها في السجن. بعد أن وصف بإسهاب التعذيب والمعاناة التي عايشها، استشاط غضباً عندما سألته عن المصالحة. وقال: "أي مصالحة؟ وأي غفران؟ المجازر التي ارتكبها العلويون في مناطقنا مروّعة بشكل لا يمكن وصفه. كيف تطلبون مني أن أسامح؟ والله لا أستطيع. لو صافحتُ أحدهم أو جلستُ معه، لأصبحتُ أتاجر بدماء إخوتي، وبدماء النساء اللاتي اغتصبوهن، والناس الذين قتلوهم وذبحوهم".
في المقابل، يشعر آخرون ممن عانوا على يد الأسد وأنصاره بشعور مختلف. إلى الشمال، في قرية الحولة، حيث قتلت ميليشيات النظام من القرى العلوية المجاورة عام 2012 أكثر من 100 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، تحدّثتُ إلى امرأة جلست على الأرض، منهكة بسبب مرض مزمن، وهي تروي ببطء وبكلّ ألم كيف اختبأت في حظيرة لمدة 8 ساعات بينما كان رجال الميليشيات يشنون هجمات وحشية ويقتلون الناس. وعندما عادت إلى غرفة المعيشة، وجدت جثث 15 فرداً من عائلتها، من رجال ونساء وأطفال، مذبوحين. وقالت بصوت أجش: "جاءني رجال من قريتنا قبل أيام وأخبروني بأنهم أسروا مجموعة من الرجال كانوا من بين القتلة. فقلت لهم: ماذا أفعل بهم؟ هل قتلهم سيُعيد عائلتي؟ ما رحل قد رحل، وسيعوّضني الله عن خسارتي. حتى في ذلك اليوم، عندما قتلوا أحد العقول المدبّرة، لم أوافق. لماذا عليهم أن يجرّوا جثته في الشارع؟ أنا متعبة. لا أريد أن أرى أحداً يُقتل. ولا أريد أن أرى قطرة دم أخرى تُراق".
كان منير أيضاً متلهفاً لإنهاء دائرة العنف، وفي الأيام الأولى للحكومة الجديدة، كان يعتقد بأن ذلك ممكناً. لكن بينما كان مختبئاً في شقته، وسمع ابن أخيه يُخبره بأنه أُصيب بالرصاص وبأن والده قُتل، أدرك أنّ السلام بعيد المنال. ولم يكن أمامه خيار سوى الانتظار، محاولاً إيجاد طريقة لإيصال عائلته إلى بر الأمان.
ويوم الجمعة، قرابة الساعة الـ6 مساءً، سمعوا صوت تحطّم أبواب. كان الصوت قادماً من متجر دراجات نارية في المبنى المجاور. "قلنا لأنفسنا: 'إذا كانوا مشغولين بنهب المتاجر، فربما يتركوننا وشأننا لبعض الوقت'". وبدأ بإجراء اتصالات، بحثاً عن شخص يمكنه مساعدته وعائلته في مغادرة المنطقة. في البداية، اتصل بصديق للعائلة في إدلب، عاصمة الثوّار قبل سقوط دمشق، وقال له إنه سيبذل قصارى جهده. وبعد فترة وجيزة، اتصل به صديقه وأخبره بأن سيارة تابعة للأمن العام في طريقها لإخراجه. وبعد مرور ساعات، اتصل به صديقه من جديد وأخبره بأنّ السيارة تعطّلت. فاشتبه منير في أنهم وقعوا في اشتباكات على أطراف المدينة.
عندئذ، اتصل بصديقه أنس، وهو مسلم سني يسكن في ناحية أخرى في المدينة. كان يعلم أنه بطلب المساعدة من أنس سيُعرّض سلامته للخطر، لكنه رأى أنّ أنس، كونه سنياً، لديه فرصة أفضل لتجاوز نقاط التفتيش. وكان يعلم أيضاً أنّ أنس، مثله تماماً، كان يأمل في أن تتمكّن المجتمعات المتفرقة في سوريا في نهاية المطاف من الالتئام، وأن يتمّ التوصّل إلى توازن هشّ وضروري بين المصالحة والعدالة. وكان الرجلان يدركان أنّ هذا التوازن سيكون السبيل الوحيد لتحديد ما إذا كانت دورات الحرب والصدمات التي استمرت لعقود من الزمن ستنتهي أخيراً.
-
في وسط مدينة بانياس السورية، حوّل عمال الطوارئ في أوائل آذار/مارس متجر أثاث منهوباً إلى مشرحة مؤقتة، حيث امتلأت أكياس الجثث بالقتلى.
التقيتُ منير في شقته مطلع هذا الصيف. كان نحيفاً وهزيلاً، يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً قصير الأكمام. كان وجهه مشدوداً وعيناه تارة واسعة وحادة، وتارة ناعمة وحزينة، محجوبة خلف غشاء من الدموع، وتارة أخرى تضيق وهو يحدّق في البعيد. أردتُ التحدّث عن الأحداث الأخيرة، لكنه ظلّ يعود بالزمن إلى الوراء. فتساءلتُ عمّا إذا كان يحاول من خلال حصر صدمات جيله، استيعاب ما حدث لاحقاً.
وُلِد منير عام 1960 لعائلة علوية فقيرة في الجبال المطلة على مدينتي بانياس واللاذقية الساحليتين. وعلى مدى قرون، كان الفلاحون هناك يكافحون لكسب عيشهم في أرض صخرية شديدة الانحدار. كان معظمهم إما من صغار الملّاك الذين يعملون في أراضٍ هامشية أو مزارعين مستأجرين بلا أرض مرتبطين بملّاك غائبين. وعلى مدى أجيال، اضطر الكثير منهم، بسبب اليأس، للذهاب إلى السهول السورية، حيث عملوا لدى ملّاك الأراضي السُنّة، وتعرّضوا للاحتقار والتمييز بسبب معتقداتهم الدينية.
وشهد منير الظلم والفقر المحيطين به، فانجذب منذ صغره إلى التمرّد. ومثل كثيرين من شباب جيله، انجرف نحو اليسار المتشدّد. عرّفه صديق من قريته، يعمل صحافياً في دمشق، على حلقات القراءة الماركسية، وكان منير يقطع أميالاً طويلة إلى المدينة لحضور نقاش سري أو للحصول على نسخة واحدة من صحيفة ماركسية. ثم شكّل خليّته الخاصة وبدأ بتوزيع المنشورات على الفلاحين في الحقول وعمّال مصفاة النفط القريبة. وكان عدد كبير من رفاقه من العلويين المتعلمين، الذين، كما أخبرني، شكّلوا ركيزة أساسية لليسار السياسي، ولا سيّما أولئك الذين لا يملكون أراضي زراعية. ورأوا في التعليم والوظائف الحكومية وسيلتهم الوحيدة للتقدّم الاجتماعي. وفي هذا السياق، قال منير: "لم تُشكّل خلفيتهم الدينية أي عائق أمام تبنيهم لآراء علمانية أو يسارية. فالمذهب العلوي باطني. لا طقوس ولا مؤسسات رسمية، ولا رموز ظاهرة في الحياة اليومية تُميّز الشخص بأنه علوي".
وبعد فترة قصيرة من الديمقراطية في الخمسينيات، شهدت سوريا عقدين من الانقلابات والانقلابات المضادة. وفي صراعهم على السلطة، بنى عدد من القادة العسكريين شبكة محسوبيات ودائرة من الموالين من عشيرة ومنطقة وطائفة معيّنة. وكان صعود حافظ الأسد، المنتمي للطائفة العلوية، تتويجاً لهذه العملية. ففي عام 1970، استولى على السلطة، الأمر الذي جعل العلويين يسيطرون على أجهزة الأمن والجيش.
وفي أواخر السبعينيات، أصبح منير مُعلماً وتنقّل بين القرى النائية وشهد مدى الحرمان الذي يعاني منه فلاحو الجبال. وكان واثقاً من أنّ الصراع الطبقي وحده كفيل بتحسين وضع فقراء الريف. لكن بالنسبة للكثير من الأطفال العلويين الذين كان يُدرّسهم، كانت الدولة، بقيادة حافظ، هي التي أتاحت لهم طريقاً للخروج من الفقر. وكثيراً ما كان منير يسأل أثناء أخذ الحضور في صفوفه صباحاً: "أين فلان؟"، فيضحك الطلاب قائلين: "لقد تطوّع في ميليشيا السرايا"، وهي جماعة يقودها رفعت، شقيق حافظ الأسد. وبدأ يدرك أنّ هؤلاء الصبية، الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و15 عاماً، يخضعون للتلقين وغسل الأدمغة ليكونوا عناصر شرطة لدى النظام.
التقى منير بأنس في أواخر التسعينيات في بانياس. كان كلاهما غريباً عن مجتمعه، بحيث لم يكن أيٌّ منهما مناسباً للدور الذي تُنسب إليه طائفته وعائلته. وحتى في ذروة الحرب الأهلية، عندما انقسمت بانياس على أسس طائفية، وتم اختطاف وقتل مقاتلين من كلا الجانبين، حافظ الرجلان على صداقتهما.
أنس رجل أعمال ثري ينحدر من عائلة تجارية سنية مرموقة، امتلكت مزارع ومستودعات منذ العهد العثماني. وعلى مدى عقدين تقريباً، كان الصديقان يلتقيان لتناول القهوة يومياً. قرابة الظهر، كان منير يغادر شقته الصغيرة التي كانت مكتبه، المكتظة بالصحف القديمة والملفات والصناديق؛ ويسير في ممرٍّ رطبٍ مُظلم بجدرانه الملطخة ورائحة العفن؛ ويدخل شقة أنس الأوسع والأنظف والمليئة بأشعة الشمس. مع إبريق قهوة تركية كثيفة بينهما، كان الرجلان يتبادلان الأحاديث، ويناقشان الكتب، ويتحدثان عن أبنائهما، أو يجلسان يدخنان في صمت - أنس بسجائره الطويلة الرفيعة، ومنير بتبغه الملفوف يدوياً.
نشأ أنس في بانياس، في كنف والديه اللذين التحقا بمدارس خاصة على الطراز الغربي. وقد تربيا على لباس البرجوازية الأوروبية وحديثها وسلوكها، وربيا ابنهما على الطريقة نفسها. في طفولته، بدأ العلويون بالهجرة من الجبال إلى مدينته، مدفوعين بالفقر، باحثين عن وظائف حكومية وتعليم. تذكّر كيف كان أطفال حيّه السني يطردون هؤلاء الفلاحين العلويين الفقراء بالحجارة ويسخرون منهم.
في عائلته، اكتسب الدين دوراً أكثر هيمنة بعد حرب 1967 مع "إسرائيل". وفي هذا الإطار، قال: "أعلم أنها عبارة مبتذلة، لكن بعد الهزيمة، بدأ الناس يقولون: لقد جرّبنا اليسار، وجرّبنا القومية العربية؛ ولم ينجح أيّ منهما في هزيمة "إسرائيل". لذا، فلنجرّب الإسلام". وفي العام نفسه، ارتدت إحدى عماته الحجاب، الأمر الذي ربطته عائلته بالفلاحين "المتخلّفين" والفقراء.
منذ منتصف السبعينيات، تولّت جماعة الإخوان المسلمين وجناحها العسكري، الطليعة المقاتلة، قيادة المعارضة لحافظ الأسد. وأدّى القتال الذي أعقب ذلك، والقمع الوحشي الذي مارسه حافظ ضد الإخوان المسلمين، إلى مقتل عشرات الآلاف وسجنهم. وبلغت هذه الأحداث ذروتها بمجزرة عام 1982، عندما نشر النظام الجيش والميليشيات ذات الأغلبية العلوية لقمع انتفاضة الإخوان المسلمين بوحشية. وفي حماة، قُتل نحو 25 ألف شخص. وأبقى هذا التاريخ المظلم على انعدام الثقة والخوف بين السنة والعلويين، فاستغله النظام.
اعتُقل أنس في الخامسة عشرة من عمره وتعرّض للتعذيب والسجن. ولا يعرف السبب حتى يومنا هذا. إذ لم يكن متديناً؛ ولم يكن يصلي ويصوم. ويعتقد بأن أحدهم ربما أعطاه كتاباً، أو ربما وُجِّهَ إليه في حملة قمع واسعة النطاق ضد السنة بذريعة محاربة الإخوان المسلمين. وقال أنس: "اعتقل الآلاف لمجرد انتمائهم إلى عائلة سنية معينة أو حي سني معين، أو لأن أحد أقاربهم كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، أو لمجرد قراءة كتاب، أو التلفّظ بكلمة، أو حضور درس ديني. كونك سنياً يجعلك مشتبهاً به". كان واحداً من 120 شخصاً مُكبَّلين معاً، وعُرضوا على القاضي لدقيقة أو دقيقتين قبل صدور أحكامهم. ويُعتقد بأنّ 6 أو 7 منهم فقط كانوا أعضاءً في جماعة الإخوان المسلمين. وبعد بضعة أشهر في السجن، بدأ أنس بالصلاة. وفي غضون عامين، حفظ القرآن الكريم وأصبح مؤمناً مخلصاً.
قال: "لا تستغرب، لأنك إذا وضعت ريتشارد دوكينز - هل تعرفه؟ - إذا وضعته في ذلك السجن الكئيب بين المؤمنين، فسيصبح مؤمناً. لأنكم في عزلة، لا تملكون شيئاً سوى مساحة 0.3 متر مربع، تلك هي مساحتكم. وفي حال اندلعت حرب أو اغتيل رئيس وزراء أو ضرب زلزال منطقة بعيدة ولقي مئات الآلاف حتفهم، لن تعلموا". كان الموت رفيقنا اليومي. إذ كنا نعاني من السل والكوليرا والجرب. كنت محظوظاً لأنني لم أتلقَّ ضربات قاتلة أثناء التعذيب والضرب، بل كُسِرت أضلاعي فحسب. فقدت الوعي مرات كثيرة لكنني لم أفقد عيناً واحدة أو أُصب بنزيف دماغي".
بحلول وقت إطلاق سراحه عام 1992، كان أنس قد أصبح أصولياً إسلامياً متشدداً، رافضاً الاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة التلفزيون، متحدثاً بلغة الجهاد. لكن قناعاته الدينية تلاشت مع مرور السنين. وبحلول الوقت الذي التقى فيه منير، كان أكثر اعتدالاً في تفكيره.
فُصل منير من عمله كمدرس في منتصف الثمانينيات. وبعد ذلك بوقت قصير، أُلقي القبض عليه مع شقيقيه بسبب أنشطتهم السياسية. كما عثر الضباط الذين فتشوا منزلهم على كتاب مدرسي يخص أختهم الصغرى، تظهر فيه صورةٌ لعيني حافظ الأسد. فقُبض عليها هي الأخرى. حتى الفتاة التي كان منير يُحبها اعتُقلت.
استمرت جلسات التعذيب في السجن لمدة تصل إلى 12 ساعة. ويستذكر منير قائلاً: "كنا نتمنى الموت سريعاً، فقط لإنهاء التعذيب. لم نعد نصرخ، لكن بعضنا كان ينادي: يا أمي... أتوسل إليك، أوقف تعذيبنا!". ما تعرّضنا له لم يكن تعذيباً جسدياً فحسب، بل هزيمة روحية وسياسية وأخلاقية".
عندما خرج منير من السجن عام 1993، وجد أنّ نظام حافظ الأسد الأمني لم يكتفِ بسحق المثقفين والمعارضين السياسيين، بل اعتقل آلاف الطلاب الجامعيين أيضاً. فانتهى الحزب الشيوعي، وفُكّكت جماعة الإخوان المسلمين. وأشار إلى أنّ "القوى السياسية انعدمت، لأنّ المرء عندما يُسجن لـ15 عاماً، يُمحى من الوجود تماماً". لقد دخلت سوريا في حالة من التصحّر السياسي، وهذا، بالنسبة له، يُفسّر الكثير مما سيحدث لاحقاً.
بينما كنا نتحدّث، نهض منير بجسده الحاني قليلاً، وسار إلى حافة شرفة مغطاة بالستائر، تطلّ على تقاطع طرق تُميّزه شجرة توت كبيرة. وقال إنه خلال عطلة نهاية الأسبوع تلك في آذار/مارس "أصبحت تلك الشجرة نقطة التجمّع الرئيسة للمسلحين. من هنا، كنا نراهم يتحرّكون. وأحياناً، كانوا يطلقون قذيفة "آر بي جي" على باب مخزن لفتحه، ما يؤدي إلى اشتعال النار في المبنى".
وأثناء صلاة الجمعة، دعا خطباء السنة إلى "فزعة"، وهي هتاف جماهيري حاشد، وتدفّق المتظاهرون من مساجد إدلب وحمص وحماة ودمشق، مطالبين بالسلاح والثأر لقتلى قوات الأمن. عندها انطلقت موجة العنف التالية إلى الحي الذي يسكنه منير، وقد أخبرني بأنّ كلّ من كان يحمل سلاحاً، مدفوع بالغضب الطائفي والانتقام والخوف. وكان بعض هؤلاء المدنيين المسلحين من مناطق عانت من مجازر على يد نظام الأسد، وكانوا يخشون أن يعود الأسد إلى السلطة.
اقتحم المسلحون المتاجر والشقق في الطوابق الأرضية، وأطلقوا النار على المدنيين، وحمّلوا غنائمهم في شاحنات صغيرة. اتصل شقيق منير الثاني وأخبره أنّ منزله قد تعرّض للمداهمة. وسأله المسلحون: "ماذا ستقدّم لإنقاذ حياتك؟". فأعطاهم مفاتيح سيارته وغادروا.
أخذ منير ولديه وجعلهما يصعدان إلى مخزن صغير تحت سقف المطبخ. وتوسّل إليهما أن يبقيا هناك مهما حدث. وقالت وسن، زوجة منير: "عندما بدأ القتل لم نفكّر في البداية بمغادرة المنطقة. ولماذا نغادر؟ لم تكن لنا أي علاقة بتلك الهجمات على قوات الأمن، ولم يكن لدينا أي أسلحة أو ما شابه". وأضافت بصوت هادئ، أنها في ليل الجمعة، بينما كانوا ينتظرون اقتحام المقاتلين لشقتهم، قرّرت جمع كلّ ممتلكاتهم الثمينة، وأي أموال كانت بحوزتهم، ووضعها على الطاولة. "اعتقدنا بأنّ هذه الطريقة قد تجعلهم يعتقدون بأنهم لا يحتاجون إلى إضاعة الوقت في تفتيش الشقة وأملنا ألا يكتشفوا مكان وجود الأولاد. بحثتُ عن أي شيء ثمين، لكن كلّ ما وجدتُه كان خاتم زواج ذهبي، وسواراً، و300 ألف ليرة سورية، أي نحو 20 دولاراً". ضحكَت بخجل، كمن لم يُقدِّم لضيوفه الضيافة اللائقة.
وأخبرني منير بأنّ مجازر طائفية وقعت هنا من قبل. ومرة أخرى، بدا مُجبراً على الحديث عن الماضي. فقد أطلقت الانتفاضة السورية، التي أعقبت موجة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء العالم العربي عام 2011، العنان لحملات قمع عنيفة. وقال: "لقد رأى العلويون في الثورة تهديداً وجودياً". فبدأوا بإرسال شبابهم للتطوّع في قوات الدفاع الوطني، وهي فرق موت خدمت إلى جانب الجيش لقمع الانتفاضة.
قبل الثورة، كان منير يُعتبر عضواً في معارضة يسارية مسالمة. أما بعدها، فبات يعتبر تهديداً لمجتمعه. واستناداً إلى صدمات الماضي من القمع والمجازر، كانت رسالة النظام واضحة: إذا سقط بشار الأسد، فهذا سيكون مصيركم. اشتبه جيرانه في تآمره مع المتمردين المسلحين، فاعتدوا عليه وعلى أفراد عائلته. ولم يتمكن من مغادرة المنزل لأسابيع خوفاً من التعرض للاعتداء. وقال: "إذا اضطر ابني للذهاب إلى المتجر المجاور، أحبس أنفاسي حتى يعود".
وبعد أسابيع قليلة من الثورة، اضطر منير إلى مغادرة بانياس واللجوء إلى قريته، حيث شعر بأمان أكبر. كانت منازل أفراد عائلته الممتدة متلاصقة، وكان محاطاً بإخوته وأبناء عمومته الذين حموه، حتى وإن لم يتفقوا جميعاً مع توجّهاته السياسية. وبقي هناك بضعة أشهر، ولكن حتى هناك كان خائفاً جداً من مغادرة المنزل بسبب التهديدات بالقتل، سواء من الموالين للنظام أو من الجيران.
كان يعلم أن اسمه مدرج على قائمة المعتقلين لدى النظام، لكن في أيار/مايو من ذلك العام، اضطر للعودة إلى المدينة بسبب دراسة أطفاله وعمل زوجته. وبعد أقل من ساعة من عودته، طرق رجال من جهاز أمن النظام بابه. وأمره أحدهم، وهو يحمل بندقية، بالمجيء معه. اقتيد أولاً إلى فرع الأمن السياسي، ومن هناك تم نقله إلى ملعب كرة القدم المُشيّد حديثاً في المدينة، والذي لم يُفتتح بعد وتحوّل إلى مركز اعتقال. كما قُبض على آلاف الرجال، أي جميع سكان المدينة الذكور تقريباً، واقتيدوا إلى هناك.
أُطلق سراحه بعد بضعة أيام، لكن أُعيد اعتقاله بعد أن أكد جناحه في الحزب الشيوعي دعمه للثورة وانتخبه عضواً في المجلس السياسي. واقتيد هذه المرة إلى فرع المخابرات العسكرية، وبينما كان ينتظر أن يسجّل الموظف اسمه ورقم هويته، تعرّض للضرب بالأسلاك الكهربائية حتى فقد وعيه.
مساء الجمعة في الـ7 من آذار/مارس، عندما تلقّى أنس اتصالاً من منير، لم يكن لديه أدنى فكرة عن كيفية مساعدته في الخروج من المنطقة. كونه سنياً منحه بعض الحماية، لكنه لم يكن يعرف الرجال الذين يجوبون الشوارع، وهم لم يعرفوه. وبينما الاثنان متجمّعين في شقتيهما، إحداهما في حي سني والأخرى في حي علوي من المدينة، شاهدا مجزرة تُرتكب، لا تقل بشاعة عن بعض أسوأ أيام الحرب. وتساءل أنس إن كان سيرى صديقه مجدداً.
وفي صباح يوم السبت، عادت أصوات إطلاق النار، وبدأ منير بإجراء مكالمات هاتفية محمومة. واتصلت به زوجة شقيقه الثاني، الذي سُرقت سيارته الليلة الماضية، لتخبره بأن مجموعة أخرى من المقاتلين سحبت زوجها وابنه، وهو مُعلّم يبلغ من العمر 35 عاماً، إلى سطح المنزل برفقة اثنين من جيرانه، وأطلقت النار عليهم جميعاً. وتحت شجرة التوت أمام المنزل، أحضر المقاتلون رجلاً وألصقوه بالحائط. قال منير مشيراً بيده: "هناك، قرب الشجرة. أمطروه بوابل من الرصاص. ثم ركله أحدهم بحذائه ليتأكّد من موته".
في الصباح الباكر، تلقّى أنس اتصالاً من أستاذه الجامعي القديم طالباً المساعدة. كان صديقاً. ابنه مهندس عمل في مكتبي. وابنه الآخر قاضٍ. وكان لديهما مثلي آراء ليبرالية وتقدّمية. اتصل بي الساعة 7:30 أو 8 صباحاً وطلب مني المساعدة. حينها، كنت قد وجدتُ طريقاً إلى المنطقة. اتصل أنس بمنير وقال له: "استعد. سأكون تحت المبنى مباشرةً خلال دقيقتين".
كان منير وعائلته خائفين للغاية من النظر عبر الشرفة للتحقّق من وجود السيارة، خوفاً من أن يراهم المسلحون في الجهة المقابلة من الشارع. "قلت لزوجتي وأولادي: سنخاطر. نزلنا إلى الطابق السفلي، وعندما وصلنا إلى مدخل المبنى، تركتهم في الداخل وأطللت برأسي قليلاً، فرأيت السيارة. صرخ منير على عائلته ليتحرّكوا. قلنا: يا الله، وركضنا بأقصى سرعة وقفزنا إلى السيارة.
كما أرسل أنس سيارةً إلى منزل أستاذه، واتصل به ليخبره. وعندما سمع صوت سيارة تقترب، اندفع هو وزوجته وابناهما وزوجتاهما إلى الطابق السفلي وإلى الشارع، لكنها لم تكن سيارة أنس. عندما أدركوا خطأهم، ركضوا عائدين إلى المبنى، لكنّ مسلحين خرجوا من السيارة ولحقوا بهم إلى الداخل. وأطلقوا النار على الأستاذ واثنين من أبنائه. وقال المسلحون للنسوة: "سنبقيكن على قيد الحياة لتمتن حزناً".
وصلت سيارة أنس بعد دقيقتين، ونقلت النسوة اللاتي وصلن إلى منزل أنس بحالة صدمة وهستيريا. ثم وصلت عائلة ثالثة نجت من محنة مماثلة، وكانت هي الأخرى في حالة يائسة. توسّل أنس إلى أكثر من 12 شخصاً تجمّعوا في شقته أن يلتزموا الصمت، حتى لا يسمع الجيران صراخهم ويبلّغوا عنهم.
وسمع أنس المتحدّث باسم الحكومة يُعلن مساء السبت أنّ الوضع عاد إلى طبيعته وأنّ الشوارع خالية من الجثث، لكنه لم يُصدّق ذلك. وتبيّن لاحقاً أنّ عمليات القتل استمرت حتى نهاية يوم الأحد. ويوم الاثنين، أوصل أنس منير إلى منزله بالسيارة، ثم تابع طريقه إلى منزل الأستاذ. كانت الشوارع مهجورة، والمحلات التجارية في الطابق الأرضي مُدمرة، ونوافذها السوداء المحترقة تنفث دخاناً خفيفاً. وبعض المباني لا تزال تُنهب. وجد جثة الأستاذ عند مدخل مبناه، إلأى جوار جثتي ولديه. وفي الأسفل، كانت جثة شقيقته، التي قُتلت قبله بيوم. كان ذلك في أوائل آذار/مارس، وكانت الليالي باردة، ومع ذلك بدأت الجثث تتقيّح وتنبعث منها رائحة كريهة. وقال أنس: "مشيتُ في المبنى المكوّن من أربع شقق. ورأيتُ في كل شقة جثتين أو ثلاث جثث". اتصل بالهلال الأحمر. وعندما وصلوا، انضمّ إليهم في جمع الجثث، ثم تبعهم إلى المقبرة. "بقيتُ هناك حتى الساعة الـ6 مساءً، أُجري مراسم الدفن، إذ لم يكن هناك رجال من تلك العائلة".
كانت مقبرة علوية، وقد فوجئ أنس أنّ معظم المتجمّعين هناك من السُنة، وهم أناس كانوا يؤوون عائلات علوية ويساعدون الناجين في دفن موتاهم. وقال: "ربما هذا هو الشيء الإيجابي الوحيد الذي خرجت به هذه المجزرة". سألته إن كان يشعر بالخوف. فأجاب: "بالتأكيد كنت خائفاً. عندما أحضرت العائلات إلى مبناي، طلبت منهم عدم إحداث أي ضجة أو حتى تشغيل الأنوار. وفي الليلة السابقة، عندما أردتُ إحضار عائلة وإسكانها في منزل أخي، رفض الجيران وقالوا لي: إذا أحضرتَ علويين إلى هنا، فسنُبلّغ عنك. وبحلول صباح الاثنين، أدركنا أن بانياس بأكملها كانت تؤوي عائلات. لن أبالغ إن قلتُ إن 60% من الحي العلوي كان في حيّنا". وقال منير: "لقد نجت كل عائلة هنا بفضل عائلة سنية اهتمت بنا".
في 9 آذار/مارس، وفي ثاني خطاب له إلى الأمة منذ بدء المجازر، وعد الشرع بإجراء تحقيق وطني في أحداث نهاية الأسبوع. وفي 22 تموز/يوليو، أصدرت الحكومة تقريرها بشأن المجازر. وحدّدت هوية 1426 ضحية، 238 منهم من قوات الأمن والبقية من المدنيين، ووعدت بتقديم الجناة للعدالة. وذكرت أن هناك 298 مشتبهاً بهم، ورفضت أي محاولة لوصف عمليات القتل بأنها طائفية، ووصفت بأنها أعمال انتقامية خالية من أيّ توجّه أيديولوجي.
في منتصف آب/أغسطس، أخبرني منير عبر الهاتف أنّ الترهيب والخطف وعمليات الاغتيال التي تستهدف العلويين لم تتوقّف، على الرغم من أنّ التركيز قد انتقل إلى أماكن أخرى حيث اندلعت معارك طائفية جديدة.
وفي منتصف تموز/يوليو، تطوّر عداء بين مزارع درزي وأبناء عشائر بدوية في جنوب سوريا إلى اشتباكات بين الطائفتين. وعندما تدخّلت القوات الحكومية، اتسع نطاق العنف ليشمل معارك طائفية جديدة، شملت إعدامات ميدانية لمدنيين دروز.
وفي هذا الصدد، قال منير: "بالأمس كان دور العلويين واليوم الدروز، وربما الكرد غداً. في ظلّ غياب عقد اجتماعي جديد متماسك لسوريا، ستتواصل أعمال القتل".
نقلته إلى العربية: زينب منعم.