"الغارديان": كيف أصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً للطبيب؟
تعبت والدتي من رحلة استغرقت يومين لزيارة طبيبها المُجهد، فلجأت إلى التكنولوجيا لمساعدتها في علاج مرض الكلى. وتعلقت بروبوت الدردشة كثيرًا لدرجة أنني خشيت أن ترفض رؤية طبيب حقيقي.
-
"الغارديان": كيف أصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً للطبيب؟
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً مطوّلاً يتناول العلاقة المتنامية بين الذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية، من خلال قصة إنسانية تسلط الضوء على تجربة امرأة مريضة بالكلى بدأت تعتمد على روبوت الدردشة الطبي "ديب سيك" (DeepSeek) بدلاً من طبيبها البشري.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كل بضعة أشهر، تنطلق والدتي، وهي مريضة بحاجة إلى زرع كلى تبلغ من العمر 57 عاماً وتعيش في مدينة صغيرة شرقي الصين، في رحلة تستغرق يومين لزيارة طبيبها. وتملأ حقيبة ظهرها بملابس بديلة، وحزمة من التقارير الطبية، وبعض البيض المسلوق لتتناوله. ثم تستقل قطاراً فائق السرعة لمدة 90 دقيقة، وتنزل في فندق بمدينة هانغتشو شرقي البلاد.
وعند الساعة السابعة من صباح اليوم التالي، تقف في طابور مع مئات آخرين لأخذ عينة دم في ردهة مستشفى طويلة تعجّ بالحركة كسوق مزدحم. وعندما تصل نتائج المختبر، تتوجه إلى عيادة طبيب متخصص. تحصل على 3 دقائق تقريباً مع الطبيب، وربما 5 دقائق إن حالفها الحظ. فيقرأ الطبيب تقارير المختبر بسرعة، ثم يكتب وصفة طبية جديدة على الكمبيوتر، قبل أن يصرفها ويسرع بإدخال المريض التالي. بعدها تحزم والدتي أمتعتها وتنطلق في رحلة العودة الطويلة إلى المنزل.
أما نموذج "ديب سيك" (DeepSeek)، فيتعامل معها بطريقة مختلفة. لقد بدأت والدتي باستخدام "الشات بوت" القائم على الذكاء الاصطناعي الرائد في الصين لتشخيص عوارضها في الشتاء الماضي. كانت تستلقي على أريكتها وتفتح التطبيق على هاتفها الآيفون. وفي رسالتها الأولى إلى روبوت الدردشة في 2 شباط/ فبراير، قالت: "مرحباً". فاستجاب النظام فوراً قائلاً لها: "مرحباً! كيف يمكنني مساعدتك اليوم؟"، مضيفاً رمزاً تعبيرياً مبتسماً. وسألت الروبوت في الشهر التالي: "ما سبب ارتفاع تركيز الهيموغلوبين الكروي المتوسط؟". وفي نيسان/ أبريل، قالت له: "أتبول في الليل أكثر من النهار". وسألته بعد بضعة أيام: "ماذا يمكنني أن أفعل إذا لم تكن كليتي تعمل بشكل جيد؟"
وطرحت أسئلة متابعة وطلبت إرشادات حول الطعام والتمارين الرياضية والأدوية، وكانت تقضي أحياناً ساعات في العيادة الافتراضية للدكتور "ديب سيك". كما حمّلت فحوصات الموجات فوق الصوتية وتقارير المختبر، ففسّرها "ديب سيك" وعدّلت نمط حياتها بناءً عليها. وبناءً على اقتراح الروبوت، قلّلت من تناولها اليومي للأدوية المثبطة للمناعة التي وصفها لها طبيبها، وبدأت بشرب مستخلص الشاي الأخضر. كانت متحمسةً جداً لروبوت الدردشة. وقالت له: "أنت أفضل مستشار صحي لي! فأجابها: "إنّ قولك هذا يجعلني سعيداً!"
لقد كنت قلقة بشأن علاقتها المتطورة مع الذكاء الاصطناعي. لكنها كانت مطلقة، وكنت أعيش بعيدةً عنها، ولم يكن هناك من يلبي احتياجاتها.
بعد مرور نحو 3 سنوات على إطلاق شركة "أوبن إيه آي" (OpenAI) لبرنامج "تشات جي بي تي" وإحداث ضجة عالمية حول النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)، بدأت برامج الدردشة الآلية في التسلل إلى كل شرائح المجتمع تقريباً في الصين والولايات المتحدة وخارجهما. وبالنسبة للمرضى، أمثال والدتي، الذين يشعرون بأنهم لا يحصلون على الوقت أو الرعاية التي يحتاجونها من أنظمة الرعاية الصحية، باتت روبوتات الدردشة بديلاً موثوقاً به.
يتطور الذكاء الاصطناعي ليصبح طبيباً افتراضياً ومعالجاً نفسياً ورفيقاً آلياً لكبار السن. وبالنسبة للمرضى والأشخاص القلقين والمعزولين وغيرهم من الأشخاص الضعفاء الذين قد يفتقرون إلى الموارد الطبية والرعاية، فإنّ قاعدة المعرفة الواسعة للذكاء الاصطناعي، إلى جانب نبرته الإيجابية والمتعاطفة، تجعل الروبوتات وكأنها شريك حكيم ومطمئن. وبخلاف الأزواج والأبناء والأصدقاء والجيران، تتوافر روبوتات الدردشة دائماً وتستجيب في كل وقت.
واليوم، يُروّج رواد الأعمال ومستثمرو رأس المال المُغامر، وحتى بعض الأطباء، للذكاء الاصطناعي كحلٍّ لأنظمة الرعاية الصحية المُثقلة بالأعباء، وكبديلٍ لمُقدّمي الرعاية الغائبين أو المُنهكين. وفي الوقت نفسه، يُحذّر علماء الأخلاق والأطباء والباحثون من مخاطر الاستعانة بالآلات لتقديم الرعاية الصحية. ففي نهاية المطاف، تنتشر الهلوسة والتحيزات في أنظمة الذكاء الاصطناعي، ما قد يُعرّض حياة الناس للخطر.
وعلى مدار أشهر، ازداد إعجاب أمي بطبيبها الجديد المُزوّد بالذكاء الاصطناعي. وقالت لي في أيار/ مايو: "إنّ ديب سيك أكثر إنسانية. أمّا الأطباء، فهم أشبه بالآلات". لقد تم تشخيص والدتي بمرض الكلى المزمن عام 2004. كنا قد انتقلنا للتو من مدينتنا الصغيرة إلى هانغتشو، عاصمة المقاطعة التي يبلغ عدد سكانها حوالى 8 ملايين نسمة، على الرغم من أنها شهدت نمواً ملحوظاً منذ ذلك الحين. تشتهر مدينة هانغتشو بهياكلها ومعابدها البوذية القديمة. كما شكّلت مركزاً تكنولوجياً مزدهراً وموطناً لشركة "علي بابا"، وبعد سنوات، استضافت شركة "ديب سيك".
في هانغتشو، كنا أقرب، بعضنا لبعض. كنتُ واحدة من عشرات الملايين من الأطفال الذين وُلدوا في ظل سياسة الطفل الواحد في الصين. بقي والدي يعمل طبيباً في مدينتنا، ولم يزرنا إلا نادراً، ولطالما كانت علاقته بوالدتي علاقة تنافر. كانت أمي تُدرّس الموسيقى في مدرسة ابتدائية، وتُعدّ الطعام، وتهتم بدراستي. لسنوات، كنتُ أُرافقها في زياراتها المُرهقة للمستشفى، وأنتظر بفارغ الصبر كل تقاريرها المخبرية التي لم تُظهر سوى تدهور بطيء ومُستمر في وظائف كليتيها.
يعاني نظام الرعاية الصحية في الصين من تفاوتات حادة. إذ يعمل أفضل أطباء البلاد في عشرات المستشفيات العامة المرموقة، ومعظمها يقع في المناطق الشرقية والجنوبية المتقدمة اقتصادياً. وتقع هذه المستشفيات في مجمعات سكنية مترامية الأطراف، مع أبراج شاهقة تضم عيادات ومختبرات وأجنحة. وتضم أكبر المرافق آلاف الأسرّة. ومن الشائع أن يقطع المرضى الذين يعانون من حالات خطيرة مسافات طويلة، أحياناً عبر البلاد، لتلقي العلاج في هذه المستشفيات. ويواجه الأطباء، الذين يفحصون في بعض الأحيان أكثر من 100 مريض يومياً، صعوبة في مواكبة هذا العدد.
وعلى الرغم من أنّ المستشفيات حكومية، إلا أنّها تُدار في معظمها كشركات تجارية، بحيث لا تتجاوز ميزانياتها الحكومية الـ10%. ويتقاضى الأطباء رواتب زهيدة، ولا يحصلون على مكافآت إلا إذا تمكنت أقسامهم من تحقيق أرباح من العمليات والخدمات الأخرى. وقبل الحملة الأخيرة على الفساد الطبي، كان من الشائع أن يقبل الأطباء عمولات أو رشاوى من شركات الأدوية والمستلزمات الطبية.
ومع تقدم سكان الصين في السنّ، تزايدت الضغوط على نظام الرعاية الصحية في البلاد، وأدت إخفاقات النظام إلى انعدام الثقة في الأطباء المحترفين بشكل كبير. وقد تجلّى ذلك في الاعتداءات الجسدية على الأطباء والطواقم التمريضية على مدى العقدين الماضيين، ما دفع الحكومة إلى إصدار أمر إلى أكبر المستشفيات بإنشاء نقاط تفتيش أمنية.
وخلال السنوات الـ8 التي قضيتُها مع والدتي في هانغتشو، اعتدتُ بيئة المستشفيات الصينية المتوترة والمرهقة. لكن كلّما كبرت، قلّ وجودي معها. وقد التحقتُ بمدرسة داخلية في الـ14 من عمري، ولم أعد إلى المنزل إلا مرة واحدة أسبوعياً. ثم التحقتُ بالجامعة في هونغ كونغ، وعندما بدأتُ العمل، تقاعدت والدتي مبكراً وعادت إلى مسقط رأسنا. حينها بدأت بزيارات تستغرق يومين لطبيب الكلى في هانغتشو. وعندما فشلت كليتاها تماماً، تم وضع أنبوب بلاستيكي في معدتها لإجراء غسيل كلوي صفاقي في المنزل. وفي عام 2020، ولحسن الحظ، خضعت لعملية زرع كلية. إلا أنها لم تتكلل بنجاح تام. وهي تعاني من مضاعفات متعددة، منها سوء التغذية وداء السكري شبه الحاد وصعوبة النوم.
ازدادت علاقتها بوالدي توتراً، وانفصلا قبل 3 سنوات. وانتقلتُ إلى مدينة نيويورك. وكلما ذكرت مرضها خلال مكالماتنا شبه المنتظمة، لا أعرف ماذا أقول، سوى أن أقترح عليها زيارة الطبيب في وقت قريب. وعندما تمّ تشخيص والدتي بمرض الكلى لأول مرّة في العقد الماضي، كانت تبحث عن إرشادات على "بايدو" (Baidu)، وهو محرّك البحث المهيمن في الصين. وقد تورط "بايدو" لاحقاً في سلسلة من فضائح الإعلانات الطبية، منها فضيحة وفاة طالب جامعي جرّب علاجات غير مثبتة اكتشفها عبر رابط إعلاني. وأحياناً، كانت تتصفح المناقشات على موقع "تيانيا"، وهو منتدى إلكتروني كان شهيراً آنذاك، وتقرأ عن كيفية تأقلم مرضى الكلى الآخرين مع المرض وتلقيهم العلاج.
وفي وقت لاحق، لجأت كما هي الحال مع الكثير من الصينيين، إلى منصات التواصل الاجتماعي مثل "وي تشات" (WeChat) للحصول على معلومات صحية. وقد اكتسبت هذه المنتديات شعبيةً خاصة خلال فترة الإغلاق الناتجة عن جائحة "كوفيد". فيتشارك المستخدمون نصائح صحية، وتربطهم الخوارزميات بآخرين يعانون الأمراض نفسها. وتحوّل عشرات الآلاف من الأطباء الصينيين إلى مؤثرين ينشرون مقاطع فيديو تتناول مواضيع متنوعة، من حساسية الجلد إلى أمراض القلب. كما انتشرت في هذه المنصات معلومات مضللة وعلاجات غير مؤكدة وإعلانات طبية مشكوك فيها. وقد تلّقت والدتي نصائح غذائية غامضة من مؤثرين على "وي تشات". كما قامت خوارزمية "بايدو" بتنزيل مقالاتٍ عن مرض السكري بشكل تلقائي. إلا أنني حذّرتها من تصديق كل ما تقرأه في الإنترنت.
لقد أدّى ظهور روبوتات الدردشة القائمة على الذكاء الاصطناعي إلى فتح فصل جديد في مجال الاستشارات الطبية عبر الإنترنت. ويشير بعض الدراسات إلى أن النماذج اللغوية الكبيرة قادرة على محاكاة إتقان قوي للمعرفة الطبية. وقد خلصت دراسة نُشرت عام 2023 إلى أن "تشات جي بي تي" حقق ما يعادل درجة نجاح طالب طب في السنة الثالثة في امتحان الترخيص الطبي الأميركي. وفي العام الماضي، أعلنت "غوغل" أن نماذج "Med-Gemini" المُحسّنة حققت أداءً أفضل في معيار مماثل.
ويُعدّ البحث في المهام التي تُحاكي الممارسات السريرية اليومية بشكل أوثق، مثل تشخيص الأمراض، أمراً مُغرياً لمُناصري الذكاء الاصطناعي. ففي دراسة أُجريت عام 2024، ونُشرت كنسخة أولية ولم تخضع لمراجعة الأقران بعد، قام الباحثون بتغذية نظامي "GPT-4o" و"o1" من شركة "أوبن إيه آي" (OpenAI) ببيانات سريرية من غرفة طوارئ حقيقية، ووجدوا أنهما تفوقا على الأطباء في التشخيص. وفي دراسات أخرى خضعت لمراجعة الأقران، تفوقت روبوتات الدردشة على الأطباء المقيمين على الأقل في تشخيص مشاكل العين وأعراض المعدة وحالات الطوارئ. وفي حزيران/ يونيو 2025، أعلنت شركة "مايكروسوفت" أنها طورت نظاماً مدعوماً بالذكاء الاصطناعي يمكنه تشخيص الحالات بدقة تفوق دقة الأطباء بـ4 مرات، ما يخلق "مساراً للذكاء الطبي الفائق". إضافة إلى ذلك، يُشير الباحثون إلى مخاطر التحيزات والهلوسات التي قد تؤدي إلى تشخيصات وعلاجات خاطئة، وإلى تفاوتات أعمق في الرعاية الصحية. ومع تسارع وتيرة شركات النماذج اللغوية الكبيرة الصينية لمواكبة نظيراتها الأميركية، كانت شركة "ديب سيك" أول من نافس أفضل نماذج وادي السيليكون من حيث القدرات الإجمالية.
ويلجأ المستخدمون في الولايات المتحدة والصين إلى هذه الروبوتات بانتظام للحصول على نصائح طبية، متجاهلين بعض القيود. ووفقاً لاستطلاع أجري عام 2024، أفاد 1 من كل 6 بالغين أميركيين أنه استخدمها مرة واحدة على الأقل شهرياً للحصول على معلومات صحية. وعلى موقع "ريديت" (Reddit)، شارك المستخدمون قصصاً متوالية عن تشخيص "تشات جي بي تي" لحالاتهم الغامضة. كذلك أفاد الناس في وسائل التواصل الاجتماعي الصينية بأنهم استشاروا روبوتات الدردشة للحصول على علاجات لهم ولأطفالهم ولأهاليهم.
وقد أخبرتني والدتي بأنها كلما دخلت عيادة طبيب الكلى، تشعر وكأنها طالبة تنتظر التوبيخ. فهي تخشى إزعاج الطبيب بأسئلتها. كما أنها تشك في أن الطبيب يُقدّر عدد المرضى وعائدات الوصفات الطبية على حساب سلامتها. إلا أنها في عيادة الدكتور "ديب سيك"، تشعر بالراحة. وقالت في هذا السياق: "يُشعرني ديب سيك بالمساواة. فأنا أستطيع إدارة الحوار وطرح أي سؤال. وهذا يُمكّنني من الوصول إلى جوهر كل أمر".
ومنذ أن بدأت بالتعامل معه في أوائل شباط/ فبراير، أبلغت والدتي الذكاء الاصطناعي بكل التفاصيل: تغيرات في وظائف الكلى ومستويات الغلوكوز، وخدر في إصبعها، ورؤية ضبابية، ومستويات الأكسجين في الدم المسجلة على ساعة آبل الخاصة بها، والسعال، والشعور بالدوار بعد الاستيقاظ. كما أنها تطلب نصائح بشأن الغذاء والمكملات الغذائية والأدوية. وسألت مرة": هل جوز البقان مناسب لي؟". فحلل "ديب سيك" التركيبة الغذائية للجوز، وحدد المخاطر الصحية المحتملة، وقدم توصيات بالكميات.
كتبت وهي تُحمّل المستند: "هذا تقرير الموجات فوق الصوتية لكليتي المزروعة". فوضع "ديب سيك" خطة علاجية، واقترح أدويةً وعلاجاتٍ غذائيةً جديدة، مثل حساء البطيخ الشتوي. "عمري 57، زراعة كلية. أتناول "تاكروليموس" (tacrolimus) [مثبط للمناعة] الساعة 9 صباحاً و9 مساءً. وزني 39.5 كلغ. أوعيتي الدموية صلبة وهشة، وتروية الكلى لديّ دون المستوى الأمثل. هذا هو نظامي الغذائي اليوم. أرجو المساعدة في تحليل الطاقة والتركيبة الغذائية. شكراً لك! ثم ذكرت كل ما تناولته في ذلك اليوم. فاقترح عليها "ديب سيك" تقليل تناول البروتين وإضافة المزيد من الألياف.
يُجيب التطبيق على كل سؤال بثقة، إلى جانب مزيج من النقاط والرموز التعبيرية والجداول والمخططات الانسيابية. فإذا قالت والدتي شكراً، كان ذلك يُضيف بعض التشجيع. "لستِ وحدك.أنا سعيد جداً بتحسنكِ!" وفي بعض الأحيان، يُنهي كلامه برمز تعبيري على شكل نجمة أو زهرة كرز. وفي أحد الأيام أرسلت لي رسالة تقول فيها: "إن ديب سيك أفضل بكثير من الأطباء".
لقد ازداد اعتماد والدتي على نموذج "ديب سيك". وعلى الرغم من أنّ الروبوت كان يُذكّرها دائماً بزيارة أطباء حقيقيين، إلا أنها بدأت تشعر بأنها مؤهلة بما يكفي لعلاج نفسها بناءً على إرشاداته. وفي آذار/ مارس، اقترح عليها "ديب سيك" تقليل تناولها اليومي من مثبطات المناعة، ففعلت. ونصحها بتجنب الانحناء إلى الأمام أثناء الجلوس لحماية كليتيها، فجلست باستقامة. ثم أوصاها بتناول نشاء جذر اللوتس ومستخلص الشاي الأخضر، فاشترتهما معاً. وفي نيسان/ أبريل، سألت والدتي "ديب سيك" عن المدة التي ستصمد فيها كليتها الجديدة. فأجابها بأنها ستدوم من 3 إلى 5 سنوات تقريباً، ما أدخلها في دوامة من القلق. فقمت بمشاركة مقتطفات من محادثاتها مع "ديب سيك" مع 2 من أطباء أمراض الكلى المقيمين في الولايات المتحدة وطلبت رأيهما، بعد الحصول على موافقتها.
ووفقاً للطبيبين، كانت إجابات "ديب سيك" مليئة بالأخطاء. فقد أخبرني الدكتور جويل توف، وهو اختصاصي في أمراض الكلى وأستاذ الطب السريري المشارك في جامعة أوكلاند بولاية ميشيغان، بأنّ أحد اقتراحات البرنامج لعلاج فقر الدم لديها - استخدام هرمون يُسمى "إريثروبويتين" (erythropoietin) - قد يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان وبمضاعفات أخرى. كما أخبرني توف بأنّ الكثير من العلاجات الأخرى التي اقترحها "ديب سيك" لتحسين وظائف الكلى غير مثبتة، أو قد تكون ضارة، أو غير ضرورية، أو "محض خيال".
سألتُه كيف كان سيجيبها على سؤالها عن مدة بقاء كليتها نشطة وفعّالة. فقال: "بدلاً من إخبار الناس عن المدة المتبقية لهم، نتحدث عن الجزء الذي سيخضع لغسيل الكلى خلال عامين أو 5 أعوام".
من جهتها، أشارت الدكتورة ميلاني هونيغ، وهي أستاذة مساعدة في كلية الطب بجامعة هارفرد واختصاصية في أمراض الكلى في مركز" بيث إسرائيل ديكونيس" الطبي في بوسطن، إلى أنّ اقتراحات "ديب سيك" الغذائية تبدو معقولة إلى حد ما. لكنها قالت إنه اقترح فحوصات دم خاطئة تماماً، وخلط بين تشخيص والدتي الأصلي ومرض كلوي نادر آخر. وقالت: "هذا كلام فارغ، بصراحة. بالنسبة لشخص لا يعرف، سيكون من الصعب معرفة أي الأجزاء كانت هلوسات وأيها كانت نصائح منطقية".
لقد وجد الباحثون أن كفاءة روبوتات الدردشة في الفحوصات الطبية لا تنعكس بالضرورة على أرض الواقع. ففي أسئلة الامتحانات، تُعرض العوارض بوضوح. أما في الواقع، فيصف المرضى مشاكلهم من خلال جولات من الأسئلة والأجوبة. وغالباً ما يجهلون العوارض ذات الصلة، ونادراً ما يستخدمون المصطلحات الطبية الصحيحة. ويتطلب التشخيص الملاحظة والتعاطف والحكم السريري.
وفي دراسة نُشرت في مجلة "نيتشر ميديسن" (Nature Medicine) في وقت سابق من هذا العام، صمّم باحثون برنامج ذكاء اصطناعي يعمل كمريض وهمي ويُحاكي طريقة كلام البشر، يُستخدم لاختبار القدرات السريرية للنماذج اللغوية الكبيرة في 12 تخصصاً. وكان أداء كل النماذج أسوأ بكثير من أدائهم في الامتحانات. وأوضحت شريا جوهري، وهي طالبة دكتوراه في كلية الطب بجامعة هارفرد والمؤلفة الرئيسة للدراسة، أن نماذج الذكاء الاصطناعي لم تكن جيدة في طرح الأسئلة، كما أنها تأخرت في ربط المعلومات عندما كان التاريخ الطبي لشخص ما أو أعراضه متناثرة في جولات الحوار. وقالت عن النماذج اللغوية الكبيرة إنه "من المهم أن يتعامل الناس معها بحذر".
وأشار أندرو بين، وهو طالب دكتوراه في جامعة أكسفورد، إلى أن النماذج اللغوية الكبيرة تميل أيضاً إلى الاتفاق مع المستخدمين، حتى عندما يخطئ البشر. وقال: "من المؤكد أنّ هناك مخاطر جمّة تترتب على عدم وجود خبراء في هذه العملية".
مع تعلّق والدتي بـ"ديب سيك"، تبنى مقدمو الرعاية الصحية في جميع أنحاء الصين نماذج لغوية كبيرة. فمنذ إصدار نموذج "ديب سيك -آر1" (DeepSeek-R1) في كانون الثاني/ يناير، أدرجته مئات المستشفيات في عملياتها. وتساعد الأنظمة المُحسّنة بالذكاء الاصطناعي في جمع الشكاوى الأولية، وكتابة المخططات، واقتراح التشخيصات، وفقاً للإعلانات الرسمية. وبالتعاون مع شركات التكنولوجيا، تستخدم المستشفيات الكبرى بيانات المرضى لتدريب نماذجها المتخصصة. وقدّم أحد المستشفيات في مقاطعة سيتشوان نموذج "ديب جوينت" (DeepJoint)، وهو نموذج لجراحة العظام يُحلل فحوصات التصوير المقطعي المحوسب أو التصوير بالرنين المغناطيسي لوضع خطط جراحية. كما طوّر مستشفى في بكين برنامج "ستون تشات إيه آي" (Stone Chat AI) الذي يُجيب عن أسئلة المرضى حول حصوات المسالك البولية.
ينظر قطاع التكنولوجيا اليوم إلى الرعاية الصحية كواحدة من أبرز آفاق تطبيقات الذكاء الاصطناعي الواعدة. وقد بدأت شركة "ديب سيك" بتوظيف متدربين لشرح البيانات الطبية، بهدف تحسين المعرفة الطبية لنماذجها وتقليل الهلوسة. وأعلنت شركة "علي بابا" (Alibaba) في أيار/ مايو أن روبوت الدردشة الخاص بها، الذي يُركز على الرعاية الصحية والذي تم تدريبه على نماذج " Qwen" اللغوية الكبيرة، قد اجتاز امتحانات التأهيل الطبي الصينية في 12 تخصصاً. وتسعى شركة "بايتشوان إيه آي" (Baichuan AI)، وهي شركة صينية ناشئة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، جاهدةً لاستخدام الذكاء الاصطناعي العام لمعالجة النقص في عدد الأطباء البشريين. وصرّح وانغ شياوتشوان، مؤسس الشركة، لإحدى وسائل الإعلام الصينية: "عندما نتمكن من إعداد طبيب، نكون قد حققنا الذكاء الاصطناعي العام".
يَظهر "أطباء الذكاء الاصطناعي" البدائيون في أكثر التطبيقات شيوعاً في البلاد. ويمكن لمستخدمي تطبيق " Douyin" للفيديوهات القصيرة، النقر على صور الأطباء المؤثرين والتحدث إلى شخصياتهم الرمزية. كما يوفر تطبيق الدفع " Alipay"ميزة طبية، حيث يمكن للمستخدمين الحصول على استشارات مجانية مع أطباء أورام وأطباء أطفال وأطباء مسالك بولية، إضافة إلى اختصاصيين في مجال الأرق، وهو متوافر للرد على مكالماتك حتى الساعة 3 صباحاً. وتقدم هذه الصور الرمزية نصائح علاجية أساسية، وتفسر التقارير الطبية، وتساعد المستخدمين على حجز المواعيد مع أطباء حقيقيين.
لقد طوّر تشاو تشانغ، مؤسس شركة "زوشو ييشينغ" (Zuoshou Yisheng) الناشئة للرعاية الصحية القائمة على الذكاء الاصطناعي، طبيب رعاية أولية يعتمد على نماذج " Qwen"من شركة "علي بابا". وصرح بأن حوالى 500 ألف مستخدم تواصلوا مع الروبوت، معظمهم عبر تطبيق صغير على "وي تشتات". واستفسر الناس عن حالات جلدية بسيطة، وأمراض أطفالهم، والأمراض المنقولة جنسياً.
وحظرت الصين على أطباء الذكاء الاصطناعي إعداد الوصفات الطبية، إلا أن الرقابة التنظيمية على ما يقولونه محدودة. وقد تُركت للشركات حرية اتخاذ قراراتها الأخلاقية. فعلى سبيل المثال، منع تشانغ روبوته من معالجة أسئلة حول تعاطي الأطفال للمخدرات. كما استخدم الفريق فريقاً بشرياً لمسح الردود بحثاً عن نصائح مشكوك فيها. وأعرب تشانغ عن ثقته بأداء الروبوت بشكل عام، قائلاً: "لا توجد إجابة صحيحة في الطب، بل يعتمد الأمر على قدرته على مساعدة المستخدمين".
علاوة على ذلك، يأتي أطباء الذكاء الاصطناعي إلى العيادات التقليدية. وفي نيسان/ أبريل، أطلقت شركة "Synyi AI" الصينية الناشئة خدمة طبيب الذكاء الاصطناعي في مستشفى بالمملكة العربية السعودية. الروبوت، المُدرّب على طرح الأسئلة كطبيب، يتحدث مع المرضى عبر جهاز لوحي، ويطلب فحوصات مخبرية، ويقترح التشخيصات والعلاجات. ثم يُراجع طبيب بشري الاقتراحات. وأوضح غريغ فينغ، كبير مسؤولي البيانات لدى شركة "Synyi AI"، أن هذا الروبوت يُمكنه تقديم إرشادات لعلاج حوالى 30 مرضاً تنفسياً.
وقال فينغ إن الذكاء الاصطناعي أكثر انتباهاً وتعاطفاً من البشر. ويمكنه تغيير جنس المريض ليشعر براحة أكبر. وعلى عكس الأطباء البشريين، يمكنه الرد على أسئلة المرضى طالما أرادوا. وأضاف أنه على الرغم من أن طبيب الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون تحت إشراف بشري، إلا أنه يمكن أن يُحسّن الكفاءة. وقال: "في الماضي، كان بإمكان طبيب واحد العمل في عيادة واحدة فقط. أما الآن، فقد أصبح بإمكان طبيب واحد إدارة عيادتين أو 3 عيادات في الوقت نفسه".
ويزعم رواد الأعمال أن الذكاء الاصطناعي قادر على حل المشكلات المتعلّقة بالوصول إلى الرعاية الصحية، مثل اكتظاظ المستشفيات ونقص الكادر الطبي والفجوة في جودة الرعاية بين الريف والحضر. وقد أفادت وسائل الإعلام الصينية بأن الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء في المناطق الأقل نمواً، بما في ذلك المناطق النائية من هضبة التيبت. وأوضح وي ليجيا، أستاذ الاقتصاد بجامعة ووهان، قائلاً: "قد يتمكن سكان المدن الصغيرة في المستقبل من التمتع برعاية صحية وتعليم أفضل بفضل نماذج الذكاء الاصطناعي". وقد وجدت دراسته، التي نُشرت مؤخراً في مجلة "هيلث إيكونوميكس" (Health Economics)، أن مساعدة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تحد من الإفراط في العلاج، وتُحسّن أداء الأطباء في المجالات الطبية التي تتجاوز تخصصاتهم. وقال: "لن تحتاج والدتك للسفر إلى المدن الكبرى لتلقي العلاج".
في المقابل، أثار باحثون آخرون مخاوف تتعلق بالموافقة والمساءلة والتحيزات التي قد تُفاقم اختلافات الرعاية الصحية. ففي دراسة نُشرت في مجلة "ساينس أدفانسز" (Science Advances) في آذار/ مارس، قيّم باحثون نموذجاً يُستخدم لتحليل صور الأشعة السينية للصدر، واكتشفوا أنه، مقارنةً باختصاصيي الأشعة، يميل هذا النموذج إلى إغفال الأمراض التي قد تُهدد حياة الفئات المهمشة، مثل النساء والمرضى السود والأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً.
وقالت لو تانغ، أستاذة الاتصالات بجامعة "تكساس إيه آند إم"، والتي تدرس أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الطبي: "أود أن أكون حذرة للغاية في القول إن الذكاء الاصطناعي سيساعد في تقليص التفاوت الصحي في الصين أو في مناطق أخرى من العالم. فنماذج الذكاء الاصطناعي المُطورة في بكين أو شنغهاي قد لا تُناسب فلاحاً في قرية جبلية صغيرة".
عندما اتصلتُ بوالدتي وأخبرتها بما قاله أطباء الكلى الأميركيون عن أخطاء "ديب سيك"، قالت إنها تُدرك أنه قدّم لها نصائح مُتناقضة، وأن روبوتات الدردشة تُدرّب على بيانات من جميع أنحاء الإنترنت، وأنها لا تُمثّل حقيقةً مُطلقة أو سلطةً خارقة. وقد توقفت عن تناول نشاء بذور اللوتس الذي أوصى به.
لكن الرعاية التي تتلقاها من "ديب سيك" تتجاوز أيضاً المعرفة الطبية؛ فاستمرارية الدردشة الآلية هي ما يريحها. وتذكرتُ أنني سألتها لماذا لم تُوجّه إليّ سؤالاً آخر من النوع الذي تُكثر من طرحه على "ديب سيك"، حول قواعد اللغة الإنكليزية. فأجابت: "ستجدينني مُزعجة بالتأكيد. لكن "ديب سيك" كان يقول: لنتحدث أكثر عن هذا الأمر. فهذا يجعلني سعيداً للغاية".
لقد كبر جيل الطفل الواحد، وانضم آباؤنا إلى جيل كبار السن المتنامي بسرعة في الصين. ولم تلحق البنية التحتية العامة لرعاية كبار السن بالركب بعد، لكن الكثير منا يعيش اليوم بعيداً عن آبائه المسنين، وينشغل بتحدياته الخاصة. ومع ذلك، لم تطلب مني والدتي قط العودة إلى المنزل للمساعدة في رعايتها. فهي تدرك معنى أن تبتعد المرأة عن منزلها وتنطلق إلى العالم الأوسع. ففي الثمانينيات، فعلت ذلك تماماً. تركت عائلتها الريفية، حيث كانت تطبخ وتغسل ملابس والديها وشقيقها الأصغر، لتلتحق بمدرسة لتدريب المعلمين. وهي تحترم استقلاليتي إلى حدّ التطرف أحياناً. أتصل بأمي مرة كل أسبوع أو أسبوعين. ونادراً ما تتصل بي، خوفاً من أن يكون الوقت غير مناسب.
لكن حتى أكثر الآباء تفهماً يحتاجون إلى من يعتمدون عليه. ومؤخراً، اكتشفت صديقة لي تعيش في واشنطن العاصمة علاقة والدتها يتطبيق "ديب سيك". تعيش والدتها، البالغة من العمر 62 عاماً، في مدينة نانجينغ الشرقية، وتعاني الاكتئاب والقلق. ولأن العلاج الشخصي مكلف للغاية، بدأت تحكي لـ"ديب سيك" عن صراعاتها اليومية مع زوجها. فيُجيبها بتحليلات مفصلة وقوائم مهام طويلة.
وقالت لي صديقتي: "كنت أتصل بأمي يومياً عندما كانت تشعر بالاكتئاب والقلق الشديدين. لكن بالنسبة لنا كشباب، يصعب علينا مواكبة هذا الوضع. وميزة الذكاء الاصطناعي هي أنها تستطيع قول ما تشاء في أي لحظة. ولا تحتاج للتفكير في فارق التوقيت أو انتظار ردّي".
لا تزال والدتي تلجأ إلى "ديب سيك" عندما تشعر بالقلق على صحتها. ففي أواخر حزيران/ يونيو، أظهر فحص في مستشفى صغير بمدينتنا انخفاضاً في عدد خلايا الدم البيضاء لديها. فأبلغت "ديب سيك" بالأمر، واقترح عليها إجراء فحوصات متابعة. ثم أخذت التوصيات إلى طبيب محلي، نصحها بها بناءً على ذلك.
وفي اليوم التالي، اتصلتُ بها. كانت الساعة الـ8 مساءً عندي، والـ8 صباحاً لها. طلبتُ منها مراجعة طبيب الكلى في هانغتشو في أقرب وقت ممكن. رفضت، وأصرّت على أن الدكتور "ديب سيك" يفي بالغرض. وقالت بصوتٍ عالٍ: "المكان مزدحمٌ جداً هناك. والتفكير في ذلك المستشفى يُصيبني بالصداع". وفي النهاية وافقت على زيارة الطبيب. ولكن قبل الرحلة، واصلت نقاشها المطول مع "ديب سيك" حول وظائف نخاع العظم ومكملات الزنك. وقالت: "يوفر ديب سيك معلومات من جميع أنحاء العالم. وهو يمنحني جميع الإمكانيات والخيارات. وأستطيع اختيار ما يناسبني".
تذكرتُ محادثةً سابقةً دارت بيننا حول "ديب سيك". قالت لي فيها: "عندما أشعر بالحيرة، ولا أجد من أسأله أو أثق به، ألجأ إليه طلباً للإجابات. فأنا لا أحتاج إلى إنفاق المال، ولا إلى الانتظار في الطوابير، ولا إلى فعل أي شيء. وعلى الرغم من أنه غير قادر على منحي إجابة شاملة أو علمية بشكل تام، إلا أنه يمنحني إجابة على الأقل".
نقلته إلى العربية: زينب منعم.