"ذا إنترسبت": كوباني.. مدينة على حافّة الهاوية
قاتل الأكراد تنظيم "داعش"، وعلى الرغم من الهجمات المتكرّرة من قبل الجيش التركي ووكلائها في سوريا، أنشأوا دويلة لأنفسهم، وسعوا إلى ثورة اجتماعية جذرية شهدت تمكين المرأة واستقراراً نسبيّاً لم تنعم به معظم نواحي ومدن سوريا.
-
سوق مدينة كوباني يسوده الظلام بسبب انقطاع الكهرباء
موقع "ذا إنترسبت" الأميركي ينشر تقريراً يتناول فيه أوضاع مدينة كوباني، منذ بدء هجمات "داعش"
عام 2024، وصولاً إلى اليوم بعد سقوط النظام السوري، وشنّ تركيا غارات عليها.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
اشتهرت مدينة كوباني في شمال سوريا بالقرب من الحدود مع تركيا، والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من 100 ألف نسمة، حين حوصرت من قبل تنظيم "داعش" بشراسة بين عامي 2014 و2015، إذ قام التنظيم بإرسال موجات من الانتحاريين والسيارات المفخّخة لمحاولة انتزاع المدينة من وحدات حماية الشعب (قسد). بعد ذلك، تعرّضت المدينة لجولات من القتال بين تحالف من الفصائل السورية المسلّحة المدعومة من تركيا ضدّ الميليشيات الكردية المتحالفة مع بعض العشائر العربية في المنطقة. والآن، عقب سقوط نظام الحكم في سوريا، تشنّ الميليشيات ذاتها هجوماً عنيفاً على "قسد" وحلفائها، ودفعتها إلى الخلف حيث أصبح نهر الفرات الفاصل بين الطرفين. وفي الأسبوع الماضي، لم تتوقّف الضربات الجوّية التركية ضدّ قوات "قسد"، لكنّها أصابت الأماكن السكنية، ما أسفر عن مقتل 8 مدنيين وإصابة أكثر من 20 آخرين، بينما قتلت غارة أخرى بطائرة من دون طيّار زوجين شابّين في منزلهما.
يقول حامد، سائق سيّارة إسعاف، وهو يقف في فناء منزله المشرف على مسقط رأسه في مدينة كوباني، التي تزأر في سمائها الطائرات التركية وتلقي القنابل، إنّ "الحرب تقترب كلّ يوم أكثر، ومهنتي تفرض عليّ أن أكون وسط المخاطر ونيران المعارك. نحن الكرد نحبّ الحرّية والسلام لا نريد القتال، لكنّ الحرب عادت لتدقّ أبوابنا". ومؤخراً، قتل 3 من الطاقم الطبي المكوّن من 6 أشخاص من زملاء حامد.
وقال حامد بعد وقت قصير من نقل صديقه المصاب بجروح قاتلة إلى المستشفى: "إنّه أمر غير أخلاقي، إن الكرد يتعرّضون للضرب في كلّ مكان يوجدون فيه، حتّى في سيارات الإسعاف"، مضيفاً أنّه "لا يمكننا حماية أنفسنا بأيّ حال من الأحوال. نحن نضع علامة على سيارات الإسعاف بوضوح، وهناك قوانين دولية تمنع الاعتداء على الطواقم الطبية".
مع تركيز الاهتمام الدولي على عملية بناء الدولة الوليدة في سوريا ما بعد نظام الأسد، تصاعد القتال على طول نهر الفرات إلى حدّ كبير، حيث تشنّ الفصائل المتحالفة مع تركيا والمعروفة باسم "الجيش الوطني السوري" هجمات عنيفة، كانت قد أدانتها منظّمة "هيومن رايتس ووتش"، وخصّت بالتحديد الهجمات على المسعفين وسيارات الدفاع المدني.
وكان مراسلو "ذا إنترسبت"، قد أمضوا مؤخّراً 12 يوماً في كوباني، ووجدوها فعليّاً تحت الحصار، ومن دون كهرباء أو مياه شرب موثوقة منذ ما يقرب من شهرين، بسبب الأضرار بسدّ تشرين ومحطّة الطاقة الكهرومائية على نهر الفرات والذي أحدثته الضربات الجوية التركية.
وبصرف النظر عن تلك العائلات القادرة على شراء الألواح الشمسية، فإنّ معظم الكهرباء في كوباني تأتي من مولدات الغاز والديزل، التي تنتشر أبخرتها في ضباب دخاني في الهواء الطلق وسط المدينة حيث تكتظّ مئات المحالّ في منطقة صغيرة، والآن تغطّى الشوارع بأكملها بسقوف الألمينيوم والبطّانيات والأقمشة كإجراء دفاعي يحميهم من الطائرات المسيرة التركية ويحرمها من الرؤية لتنفيذ ضربات.
يكافح الباعة الكرد والعرب على حدّ سواء لتغطية نفقاتهم، لكنّ الأعمال التجارية مستمرّة، وما تزال المخابز والمطاعم وأكشاك الهواتف المحمولة وصالونات الحلاقة مفتوحة. يقول محمود (40 عاماً)، الذي يدير مطعماً للفلافل في سوق المدينة: "اعتدنا العمل حتّى الساعة 10 أو 11 مساء، لكن مع انقطاع التيار الكهربائي، يبدأ الظلام نحو الساعة 4 أو 5 مساء، فتغلق المتاجر كافة ويعود الجميع إلى بيوتهم".
في الأسابيع التي أعقبت قطع الكهرباء والمياه من سدّ تشرين، اعتمدت كوباني على إمدادات المياه الطارئة، التي تضخّ إلى المدينة عن طريق مولّدات تعمل بالديزل من موقع آخر في أعالي الفرات، شمال السدّ، حيث مضخّة واحدة تعمل فقط من بين 4 مضخّات، لكن، في بداية الشهر الجاري دمّرت غارة جوّية المضخة الأخيرة ونظام المياه الاحتياطي بالكامل. وقد ترك ذلك السكّان يستفيدون من إمدادات محدودة من المياه الجوفية، لكن، لا يزال العديد منهم من دون الحصول على المياه الكافية، وفقاً لرئيس إدارة مديرية المياه العامّة في كوباني مسعود بوزي، الذي يضيف أنّ "كثيرين ليس لديهم المال لحفر الآبار أو شراء المياه المعبّأة في عبوّات تجارية، لكنّ، الناس يداومون البحث عن حلول، حتّى لو كان ذلك يعني شرب المياه القذرة".
الطريق الوحيد الذي يربط كوباني بالمناطق الصديقة يمرّ بطريق ملتو بمنعطفاته، ما يضني المسافرين لساعات طويلة في أيّ رحلة يقومون بها، وهم وقوافل الإمداد معرّضون في الأوقات كافة للغارات الجوّية التركية، أو لغارات من قبل فلول تنظيم "داعش" الذين ما زالوا يحتفظون بقدرة على تنفيذ عمليات مطاردة من جهتي البادية في الجنوب والشرق. وإذا عبرت القوّات المدعومة من تركيا نهر الفرات، فيمكنها محاصرة كوباني بالكامل ببساطة.
وفي الشهر الماضي، بدأ المتظاهرون المدنيون في التجمّع عند سدّ تشرين للمطالبة بإنهاء الهجمات، لكنّ الطائرات التركية هاجمتهم مراراً وتكراراً على الطريق واستهدفتهم بشكل مباشر. وفي أحد مقاطع الفيديو التي نشرت على شبكة الإنترنت، يمكن رؤية طائرة من دون طيّار تسقط قنبلة يدوية على مجموعة من المدنيين يؤدّون رقصة كردية تقليدية.
طوال الحرب الأهلية السورية، تعاملت تركيا مع "الحكم الذاتي" الكردي غير الرسمي في شمال سوريا، بعدم الثقة والعداء، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير بسبب الروابط الأيديولوجية والتنظيمية بين "قسد" و"حزب العمال الكردستاني"، الذي يشنّ تمرّداً ضد الدولة التركية منذ ما يقرب من نصف قرن.
ويعتبر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحدات حماية الشعب أكثر من مجرّد فرع سوري للحزب المذكور، وأنّ الإقليم الذي تحت سيطرتها يشكّل ملاذاً آمناً لأعدائه، ومنطقة انطلاق محتملة لهجمات داخل تركيا. وفي بعض الأحيان، بدا أنّ إردوغان يتّخذ موقفاً أكثر صرامة ضدّ "قسد" مقارنة بموقفه من "داعش".
بالنسبة إلى سكان كوباني الذين نجوا من الدمار الذي خلّفته الحرب وعملوا بجدّ لإعادة بناء مدينتهم، فإنّ الأزمة الحالية التي تقترب الآن من مدّة شهرين على اندلاعها، تبدو مألوفة بشكل مخيف. وقال صاحب أحد المطاعم في سوق كوباني "لقد هزمنا داعش في كوباني، لكنّهم أحرقوا كل شيء في الوقت ذاته"، و"ذهبنا إلى تركيا أو كردستان العراق أو أوروبا وعدنا لبناء كلّ شيء من الصفر. والآن تركيا تفعل الشيء نفسه، وتريد إبادة الكرد في هذه المنطقة".
كوباني مدينة تتذكّر ماضيها
في ضواحي كوباني تقع مقبرة الشهداء، حيث يقيم السكّان احتفالاً شهرياً لتكريم إخوانهم الذين ضحوا بحيواتهم على مر السنين. والجولة فوق تلك التربة كأنّها جولة في التاريخ الحديث، تكشف عن المراحل المؤلمة والخسائر التي ضربت كوباني وبقية المنطقة.
وتضمّ المقبرة أولئك الذين سقطوا في وقت مبكّر من الحرب، من المدنيين في تفجير انتحاري لتنظيم "القاعدة"، وأعداداً كبيرة من الرجال والنساء الذين لقوا حتفهم وهم يدافعون عن المدينة من "داعش" بين عامي 2014 و 2015 بقيادة "قسد"، حيث صمد المدافعون على أرضهم رغم الصعاب لأشهر من القتال الشاقّ من منزل إلى منزل، بمساعدة الولايات المتّحدة من خلال شنّ غارات جوّية ضد أهداف "داعش" التي حدد إحداثياتها مقاتلو "قسد".
حينئذ، ظهر تنظيم "داعش" كأنّه لا يمكن إيقافه. لكنّ كوباني أثبتت أنّ هذا خطأ، وأصبحت رمزاً للمقاومة بين الكرد، وجذبت تعاطفاً عالمياً، إلى جانب موجة من المتطوّعين الأجانب الذين التحقوا بـ "قسد". كما لفتت كفاءة مقاتلي وحدات حماية الشعب في صدّ "داعش" انتباه البنتاغون، الذي كان يبحث عن شريك موثوق به على الأرض في سوريا وفشل بشكل ذريع في العثور عليه، إلى أن أصبحت هذه الحاجة حاسمة على نحو خاصّ مع تحوّل اهتمام الولايات المتحدة بالحرب الأوسع نطاقاً بعيداً من نظام الأسد، وصبّ تركيزها بالكامل تقريباً على هزيمة "داعش"، حيث شدّت أواصر العلاقة بين قوّات التحالف بقيادة واشنطن مع "قسد" التي تقاتل على الأرض مدعومة بالقوّة الجوية، ما مكنها من استعادة المدن والبلدات التي يسيطر عليها التنظيم على مدى 3 سنوات.
ونظراً للحاجة إلى الحليف الكردي، اختارت إدارة باراك أوباما التغاضي عن صلات "قسد" غير الدقيقة بـ "حزب العمال الكردستاني" المصنّف جماعة إرهابية محظورة في الولايات المتّحدة، ما تسبّب بخلاف مع الحليف التركي في "الناتو" والرئيس رجب طيب إردوغان، الذي اقتطع مساحة من النفوذ في تلك المنطقة عبر علاقات متينة مع مختلف الجماعات المتمرّدة. ومع اكتساب "قسد"، القوّة والاستقرار من خلال شراكتها مع واشنطن، استخدم إردوغان هذه الجماعات المدعومة من أنقرة كهراوة في خدمة الأهداف والمصالح التركية. وفي عام 2017، اتّحدت عشرات الفصائل تحت مظلّة "الجيش الوطني السوري" وانضمّت بشغف إلى الحرب التركية ضدّ الميليشيا الكردية. وتصاعد القتال في عام 2019، عندما غزت تلك الجماعات شريطاً من الأرض إلى الشرق من كوباني، واستولت على العديد من البلدات الرئيسية، ولا تزال تسيطر عليها.
وكشرط لاتّفاق وقف إطلاق النار عام 2019، وافقت "قسد" على سحب قواتها وأسلحتها الثقيلة من كوباني. وحتّى يومنا هذا، لا يزال الوجود العسكري في المدينة منخفضاً بشكل ظاهر، وإن وجد فهو لرجال الشرطة المسلّحين بأسلحة خفيفة.
حين بدأ نظام الحكم في سوريا بالتهاوي في إثر هجوم الثوّار الخاطف الذي أسقطه في نهاية الأمر، ونصب حكومة انتقالية بقيادة "هيئة تحرير الشام"، وهي فرع سابق لتنظيم "القاعدة" وزعيمها أحمد حسين الشرع، المعروف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، وبينما كان مقاتلو "هيئة تحرير الشام" يتسارعون نحو دمشق، حوّل "الجيش الوطني السوري" انتباهه نحو قوّات "قسد"، وحقّق مكاسب سريعة بدعم من القوّات الجوّية التركية. ومع تقدّمه، نزح ما يقدّر بنحو 100,000 كردي سوري، معظمهم نزحوا في السابق بسبب غزوات من قبل تركيا ووكلائها.
وبحلول منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر، كان القتال يتركّز إلى حدّ كبير على المنطقة المحيطة بالسدّ ومحطّة الطاقة الكهرومائية في تشرين. ومنذ ذلك الحين، استمرّ القتال على الأرض شرق النهر، واستهدفت الغارات الجوّية التركية السدّ مراراً وتكراراً، وفقاً للإدارة المدنية في المنطقة.
ولم تردّ وزارة الخارجية التركية على طلبات التوضيح من الصحافيين. لكن في تقارير صادرة عن وكالة الأناضول المملوكة للدولة، اتهم مسؤولون أتراك لم تذكر أسماءهم قوّات "قسد" باستخدام المدنيين كدروع بشرية في المنطقة، وأشاروا إلى أنّه "لن يسمح للمنظمة الإرهابية باستخدام مرافق البنية التحتية الإنسانية أو جهود الوقاية من الكوارث أو المدنيين الأبرياء كأوراق مساومة". لكنّ مسؤولي "قسد" نفوا مزاعم الاتهام التركي، وقال المتحدّث باسمها فرهاد الشامي لموقعنا: "لا وجود لقوّات قسد في تلك المنطقة".
وفي الأسابيع الأولى من القتال في كانون الأوّل/ديسمبر، كان المسؤولون الأميركيون يعملون في الكواليس لإيقافه، وفي 24 كانون الأوّل/ديسمبر، وصل الجنود الأميركيون إلى كوباني وأقاموا قاعدة صغيرة بالقرب من وسط المدينة، ورفعوا العلم الأميركي بجوار المجمع الإداري الرئيسي في إشارة واضحة على الردع لتركيا، ولكنّهم غادروا بعد وقت قصير، وبحلول منتصف الشهر الماضي كانت القاعدة فارغة والعلم قد أخفض.
تحدّث ماركو روبيو وزير خارجية ترامب الجديد، مؤخّراً عن الدعم لقوّات "قسد". لكن من المعروف أنّ ترامب يتجاهل آراء حكومته، وفي فترة ولايته الأولى، كان موقفه من الكرد السوريين مبعثراً بشكل فاضح. وقد اتّبعت إدارته في البداية سياسة عهد أوباما المتمثّلة في التنسيق الوثيق مع الميليشيا الكردية، ما دفع البعض في كوباني إلى النظر إلى ترامب بإعجاب كبير لدرجة أنّ أحدهم أطلق على مطعمه اسم ترامب.
لكنّ هذا الحب لم يدم طويلاً، وعلى الرغم من الدور الحاسم الذي لعبته "قسد" في الحرب ضدّ "داعش"، وقدّمت أكثر من 10,000 مقاتل سقطوا في المعارك خلال تلك السنوات، ترك ترامب الكرد طيّ النسيان في عام 2019، حين قرّر فجأة بعد مكالمة هاتفية مع إردوغان سحب جميع القوّات الأميركية من شمال شرق سوريا، ما مهّد الطريق للغزو التركي للمنطقة في ذلك العام. وهذا دفع بالكرد السوريين إلى الشعور بالخيانة العميقة. أزال المطعم الذي سمّي على اسم الرئيس أيّ ذكر له. ومن غير الواضح الآن، ما هو الموقف الذي ستتّخذه إدارة ترامب، إن وجد، في ظلّ صمت وزارة الخارجية في الأسبوع الماضي على العدوان التركي على الكرد.
قاتل الكرد تنظيم "داعش"، وعلى الرغم من الهجمات المتكرّرة من قبل الجيش التركي ووكلائه في سوريا، أنشأوا دويلة لأنفسهم، وسعوا إلى ثورة اجتماعية جذرية شهدت تمكين المرأة واستقراراً نسبيّاً لم تنعم به معظم نواحي ومدن سوريا.
وبالعودة إلى السوق في وسط كوباني الذي تستمرّ الحياة فيه، يقول برادر صاحب أحد المتاجر: "بالنسبة لنا، لا يهمّ إذا كنّا جائعين، ومن دون ماء أو كهرباء، فالمرونة والتكيّف يميّزاننا".
نقله إلى العربية: حسين قطايا