"ذا ناشونال إنترست": هيمنة "إسرائيل" المحدودة
"إسرائيل" تفتقر إلى الثقل الديموغرافي الذي يمكّنها من فرض نظامها المهيمن على الشرق الأوسط.
-
"ذا ناشونال إنترست": هيمنة "إسرائيل" المحدودة
مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية تنشر مقالاً يتناول الاستراتيجية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد هجمات 7 أكتوبر 2023، مركّزاً على تحليل قدرتها على الهيمنة الإقليمية والقيود التي تواجهها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
منذ هجمات 7 أكتوبر 2023، انتقلت "إسرائيل" من موقف الدفاع النشط إلى موقف الهجوم النشط. وقد تجلّى هذا التحوّل من خلال حملة واسعة النطاق على مستوى مسرح العمليات، امتدت من غزة وجنوب لبنان إلى سوريا واليمن، ومؤخّراً مباشرة داخل إيران. ورغم أنّ إيران وحلفاءها كانوا الهدف الأساسي للقوات الإسرائيلية، فإن ضرباتها لم تقتصر عليهم فقط، بل استهدفت أيضاً عناصر من النظام السوري المُعاد تشكيله، رغم معارضة الحكومة السورية الجديدة لإيران وقربها من أنقرة.
"إسرائيل" لا يمكن أن تكون المهيمن الجديد في الشرق الأوسط
أدّت شمولية هذه العمليات إلى استنتاج العديد من المراقبين أنّ "إسرائيل" تطمح إلى أن تصبح مهيمنة على الشرق الأوسط. وهذه الفكرة ليست بعيدة عن التصوّر. فالنظريون الواقعيون، مثل جون ميرشايمر، يجادلون بأن السعي وراء الهيمنة الإقليمية هو ضرورة طبيعية للدول. ومع ذلك، قد تكون الطريق أمام "إسرائيل" نحو الهيمنة مسدودة بقيود هيكلية ملموسة. فالهيمنة المستدامة تقوم على ركيزتين: الأولى تتمثّل بالقدرة المادية، والقوة العسكرية، والاستخبارات المتقدّمة، والردع الموثوق أمام الخصوم المحتملين. أما الثانية فهي مخزون من القوة البنيوية أي السكان، والمساحة، والعمق الاستراتيجي، والموارد الطبيعية، والوزن الديموغرافي القادر على دعم مكانة قوة عظمى.
في الركيزة الأولى، "إسرائيل" مجهّزة جيداً للهيمنة. أما في الثانية، فهي بوضوح أقل من المطلوب. فبالرغم من إنجازاتها اللافتة لـ "دولة" صغيرة الحجم، فهي في نهاية المطاف "دولة" لا يتجاوز عدد سكانها تسعة ملايين نسمة، مضغوطة في مساحة أصغر من ولاية نيوجيرسي. لا شكّ أنّ "إسرائيل" قوية، لكن على المستوى البنيوي، تفتقر إلى المقوّمات الديموغرافية والجغرافية اللازمة للهيمنة طويلة الأمد. فإذا كانت الهيمنة الكاملة بعيدة المنال، فما الهدف الذي تسعى إليه "إسرائيل" إذاً؟
تشير الأدلة إلى أنّ "إسرائيل" تتبع نموذجاً مختلفاً تماماً. فبدلاً من أن تصبح "أميركا" الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، القوة العظمى القادرة على فرض إرادتها على الدول الأصغر من خلال التعاون الدبلوماسي أو القوة، تتبنّى "إسرائيل" نموذج بريطانيا في القرن التاسع عشر. إنها تنتهج استراتيجية "الموازنة من الخارج"، مركّزة على منع أيّ دولة منافسة من السيطرة أكثر من اهتمامها بحكم المنطقة بنفسها.
دروس الإمبراطورية البريطانية لـ "إسرائيل"
من منتصف القرن الثامن عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حافظت بريطانيا على توازن أوروبا عبر رافعتين: دبلوماسية توازن القوى والسيطرة المطلقة على البحار. وكلما هدّد طامح قاري كفرنسا البوربونية، فرنسا النابليونية، أو ألمانيا القيصرية، بزعزعة التوازن، تحالفت لندن مع الدول الأضعف لاستعادة التكافؤ. وكانت بحريّتها التي لا تضاهى تضمن حرية الحركة البحرية لتجارتها، بينما تمنحها القدرة على الحصار أو القصف أو الاستيلاء على موانئ الخصوم.
الإجابة الإسرائيلية في القرن الحادي والعشرين هي صيغة ثلاثية: (1) الموازنة الإقليمية، (2) السيطرة على الأجواء، و(3) الهيمنة في الظل.
أولاً، الموازنة الإقليمية. تبني "إسرائيل" بانتظام تحالفات مؤقتة حول تصوّرات مشتركة للتهديد. المثال الأكثر وضوحاً هو علاقاتها الوثيقة والمتنامية مع الملكيات الخليجية وبنيتها الأمنية المشتركة رداً على التهديد الإيراني. والأقل ملاحظة كان ضغطها الهادئ في واشنطن لعدم إجبار روسيا على مغادرة سوريا بعد الحرب. فرغم الخلافات الأميركية مع الكرملين في أماكن أخرى، ساعد الوجود الروسي في سوريا على كبح القوة التركية، مما حافظ على توازن هشّ على الحدود الشمالية لـ "إسرائيل".
حتى إقناع "إسرائيل" الأخير للولايات المتحدة بالتدخّل العسكري ضد إيران، مما أدى إلى قصف منشأة فوردو النووية الإيرانية وغيرها بواسطة قاذفات "B-2" الأميركية المزوّدة بقنابل خارقة للتحصينات في 22 حزيران/يونيو، يعكس الاستراتيجية البريطانية الكبرى أثناء حرب السنوات السبع في منتصف القرن الثامن عشر. حينها، وبالرغم من تفوّقها البحري، افتقرت بريطانيا لقوة برية فعّالة في أوروبا، فتحالفت مع فريدريك الأكبر ملك بروسيا لتعويض هذا النقص. وبالمثل، لجأت "إسرائيل"، غير القادرة على اختراق التحصينات العميقة للمنشآت النووية الإيرانية، إلى الولايات المتحدة، وبهذا عوّضت تهديد البنية النووية الإيرانية بالقوة الجوية الأميركية، تماماً كما فعلت بريطانيا مع حلفائها القاريين.
ثانياً، السيطرة على الأجواء. تماماً كما سيطرت بريطانيا على البحار في القرن التاسع عشر، تسيطر "إسرائيل" على الأجواء فوق الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين. فالقوات الجوية الإسرائيلية تمتلك أكثر شبكات الضربات والاستخبارات والمراقبة والدفاع الجوي تطوراً في المنطقة، وتستخدم هذه الميزة بدقة منهجية. فمنذ بدء عملياتها المستمرة فوق سوريا عام 2015، خسرت "إسرائيل" طائرة مأهولة واحدة فقط هي مقاتلة "F-16" في 2018، بينما دمّرت باستمرار أهدافاً عالية القيمة على الأرض. والغارات الأخيرة ضد الحوثيين في اليمن والضربات الدقيقة في عمق إيران أظهرت قدرة على التزوّد بالوقود جواً لمسافات طويلة، ما يتجاوز حدودها الجوية التقليدية.
بالنسبة لـ "إسرائيل"، فإنّ التفوّق الجوي هو درع ورمح في آن واحد: فهو يسبق التهديدات قبل نشوئها، ويضعف محاولات الدول الأخرى لبسط نفوذها، كما في القصف المكثّف ضد النظام السوري المُعاد تشكيله. ويرى المسؤولون الإسرائيليون أيضاً في دمشق ممراً محتملاً لعودة النفوذ التركي؛ وقد صرّح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو علناً بأن "الإمبراطورية العثمانية لن تعود قريباً"، في إشارة ضمنية إلى عزم تل أبيب على منع أنقرة من بسط نفوذها في المشرق.
ثالثاً، "الهيمنة في الظل". أيّ التفوّق الشامل على مستوى المنطقة في مجال التجسس والتخريب والعمليات السرية. قلّة من الدول تضاهي قدرة "إسرائيل" على جمع وتنفيذ معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ عبر مسارح متعددة في وقت واحد. من اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية داخل دار ضيافة بطهران، إلى الهجوم على البنية التحتية للاتصالات التابعة لحزب الله، وصولاً إلى محاولة اغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله، كان دور "إسرائيل" واضحاً. وفي داخل إيران نفسها، أنشأ الموساد شبكة معقّدة من الخلايا النائمة، ونفّذ اغتيالات لعلماء نوويين، وحتى شغّل طائرات مسيّرة من قاعدة جوية سرية داخل الأراضي الإيرانية.
كما تبنّت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تقنيات الذكاء الاصطناعي والمراقبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعّال. وتستخدم وحدة "9900" في "الجيش" الإسرائيلي، المسؤولة عن جمع وتحليل البيانات عبر الأقمار الصناعية، خوارزميات متقدّمة لتحليل تيرابايتات من البيانات البصرية، واكتشاف تغييرات طفيفة قد تشير إلى تحرّكات أو بنى تحتية لحزب الله. ومع دمج الاستخبارات البشرية (HUMINT) والإشاراتية (SIGINT) وصور الأقمار الصناعية الفورية، تنتج شبكة استخبارات متعدّدة الطبقات قادرة على تعقّب التهديدات. وفي هذا المعنى، لا يعدّ التجسس مجرّد قدرة مستقلة، بل هو طبقة استشعار تغذّي السيطرة الجوية وتمكّن الموازنة الاستراتيجية.
وباختصار، إذا كانت "إسرائيل" تفتقر إلى الوزن الديموغرافي والجغرافي لفرض نظام مهيمن خاص بها في الشرق الأوسط، فإنها أنشأت، بدلاً من ذلك، نظاماً مصمّماً لمنع أيّ طرف آخر من فعل ذلك. إنّ مزيج الموازنة الانتقائية، والتفوّق الجوي، والهيمنة الاستخباراتية يشكّل عقيدة "الحرمان من الهيمنة". إنها وضعية تهدف إلى الحيلولة دون حكم الآخرين أكثر من سعيها للحكم، بهدف الحفاظ على توازن مستقر للقوى في الشرق الأوسط ومنع أي منافس خارجي من تهديد بقاء "إسرائيل" على المدى الطويل.
نقله إلى العربية: الميادين نت.