"فورين أفيرز": أميركا بعد أميركا.. أمّة قابلة للاستغناء
قريباً، سيتجاوز الحلفاء الولايات المتحدة مع بقية العالم. لماذا؟
-
"فورين أفيرز": سياسات ترامب العدوانية تقوّض التحالفات الدولية وتدفع الدول نحو التخلي عن النظام الذي تقوده واشنطن
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً مطولاً يخلص إلى أنّ الرئيس الأميركي صوّر الولايات المتحدة كدولة منهكة ليروّج لنفسه، لكنه بالغ في تقدير قوتها الخارجية، متجاهلاً أنّ الهيمنة الأميركية استندت تاريخياً إلى التعاون لا الإكراه.
ووفق المقال، فإنّ سياسات ترامب العدوانية تقوّض التحالفات الدولية وتدفع الدول نحو التخلي عن النظام الذي تقوده واشنطن، وتضعف مؤسسات الداخل الأميركي، وتقلّص النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي عبر قرارات منفردة، ما فاقم الشكوك العالمية في موثوقية أميركا. وذكر أيضاً أنّ تجاهله لأهمية الشراكات يهدد الأمن القومي، وقد يؤدي إلى تآكل نفوذ الولايات المتحدة، إذ لم تعد تُخشى ولا تُحب. والنتيجة: قد يتجاوزها العالم.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
تصوير الرئيس دونالد ترامب للولايات المتحدة على أنّها كانت فاشلة ومنهكة وضعيفة ومدمّرة خلال صعوده إلى السلطة ساهم جزئياً في بناء جاذبيته السياسية، لكنّه وقع في تناقض ذاتي حين استندت سياسته الخارجية إلى المبالغة الكبيرة في تقدير القوة الأميركية.
على الرغم من المخاطر المزعومة المحدقة بالبلاد، يبدو أنّ ترامب ومستشاريه يعتقدون أنّ العمل الأحادي الأميركي لا يزال بإمكانه إجبار الآخرين على الاستسلام والخضوع لشروطه، مع أنّ القوة الأميركية تجذرت غالباً في التعاون والمشاركة، وليس الإكراه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والآن، يتجاهل فريق ترامب كلّ هذا التاريخ، ويعتبر أن الفوائد التي حقّقها النهج التعاوني لا قيمة لها. كما لا يمكن لإدارة ترامب تصوّر مستقبل تختار فيه دول أخرى الانسحاب من النظام الدولي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة، أو أن تتّجه إلى تبنّي نظام جديد من شأنه أن يتعارض مع المصالح الأميركية، لكن من يعجّل بالوصول إلى هذه النتيجة هي إدارة ترامب تحديداً.
يقول الخبير السياسي مايكل بيكلي إنّ الولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى مارقة. ليست دولية ولا انعزالية، بل عدوانية تتزايد شراستها في سعيها لتحقيق مصالحها. هذه التصوّر حقيقي لكنّه ناقص، لأنّه لا يكترث مطلقاً لقدرة القوى الأخرى على تقويض الهيمنة الأميركية أو تقييدها. في عهد ترامب، تكهّن الكثيرون حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب من دورها القيادي في العالم وإلى أيّ درجة، مع أنّ السؤال الأكثر إلحاحاً قد يكون: ماذا لو تغلّب بقية العالم على الولايات المتحدة، وانسحبوا من النظام الدولي التعاوني الذي تقوده، والذي كان حجر الأساس للقوة الأميركية؟
قد يردّ البعض أنّه، حتّى لو لم يعجب حلفاء الولايات المتحدة والدول المحايدة بالطريقة التي يمارس بها ترامب القوة الأميركية، فليس لديهم خيار سوى تقبلها الآن، وسوف يتكيفون معها على المدى الطويل لاسترضاء للولايات المتحدة. وبقدر الإمكان، لن يتخذوا إجراءات إلّا عند الضرورة القصوى. وبعد كل شيء، قد يكرهون الولايات المتحدة ولا يثقون بها، ولكن ليس بقدر كرههم وعدم ثقتهم بالفعل بالصين وروسيا ومنافسي أميركا الآخرين.
من هذا المنظور، فإن الولايات المتحدة التي يريد ترامب إنشاءها ستكون أسوأ قوة مهيمنة ممكنة، باستثناء بعض المرشّحين المحتملين الآخرين. إلى جانب ذلك، حتّى لو أرادت دول أخرى الانسحاب من النظام الذي تقوده الولايات المتحدة أو العمل حولها، فإنّها لا تملك القدرة على القيام بذلك، فردياً أو جماعياً. قد يتوقون إلى الأيام التي شكّلت فيها الولايات المتحدة الأكثر أممية وانفتاحاً وتعاوناً في النظام العالمي، وسيتعلّمون العيش مع الولايات المتحدة الأكثر قومية وانغلاقاً وطمعاً.
ينتج هذا الرأي عن قصور الخيال، وهو مصدر شائع للفشل الاستراتيجي، لأنّ فنّ إدارة الدولة يتطلّب توقع ردود الجهات الفاعلة الأخرى في النظام الدولي والقوى التي قد تحرّكها.
ونظراً إلى عجز فريق ترامب عن رؤية ذلك، تمسّكوا بنهج قائم على افتراضين خاطئين عن أنّ الدول الأخرى والمنظّمات الدولية والمجتمع المدني والشركات لا تملك بديلاً من الاستسلام في وجه المطالب الأميركية.
بالنسبة إليهم، حتّى لو ظهرت بدائل، فإنّ الولايات المتحدة تستطيع إبقاء هيمنتها من دون أيّ من الحلفاء، في أنانية متخفّية في هيئة استراتيجية. وبدلاً من إنتاج نظام أقلّ تقييداً يزدهر فيه الحضور الأميركي، سيؤدّي ذلك إلى نظام أكثر عدائية تتلاشى فيه القوة الأميركية.
لا تعرف قيمة ما تملكه حتّى تفقده
على الرغم من انتقادات ترامب، تتمتّع الولايات المتحدة بقوة وديناميكية لا مثيل لهما. ولا تعتمد أيّ دولة متقدّمة أخرى على أسواقها بقدر اعتمادها على التجارة المحلّية، إذ يجري نحو نصف التجارة العالمية و90% من معاملات الصرف الأجنبي العالمية بالدولار الأميركي، وهو رصيد استثنائي من القيمة يتيح لواشنطن رفاهية الإنفاق بالعجز الذي قد يكون مبالغاً فيه في أي مكان آخر.
وعلى عكس معظم الدول المتقدّمة الأخرى، تتمتّع الولايات المتحدة بقوة عاملة متنامية من الجيل اليافع في بلاد مواردها الطبيعية وفيرة، ولديها جيران ودودون، وتجذب أمهر الكفاءات في العالم إلى جامعاتها وشركاتها، وتعزّز الحراك الاجتماعي والاقتصادي الذي يقلّل من العداوات العرقية والدينية، ويحكمها نظام سياسي ملائم تماماً لمجتمع متنوّع.
لكنّ ترامب وفريقه يحرقون هذه المزايا بمستوى ينذر بالخطر. ومنذ تولّيه منصبه مطلع العام الجاري، قوّض عناصر الديمقراطية الدستورية في البلاد تسليحها لخدمة أغراض حزبية أو إشباع رغبات ترامب الشخصية. لقد وسّع الرئيس بشكل عدائي مساحة السلطة التنفيذية من خلال الدوس على سلطة الكونغرس التشريعية، ورفض ترامب الامتثال لأوامر المحكمة، وشكّك في استقلال المؤسّسات الحيوية مثل المصرف الاحتياطي الفيدرالي.
كذلك، استهدف ترامب الجامعات الأميركية النخبوية، وحرمها من التمويل الاتحادي الذي يصرف في مجالات الابتكار التكنولوجية والطبية وغيرها. كما سمح لإيلون ماسك، عملاق التكنولوجيا الملياردير الذي تبرّع بمبالغ ضخمة لحملته، بالسيطرة على البيروقراطية الفيدرالية، ما أجبر العديد من موظّفي الخدمة المدنية الموهوبين الذين يجعلون الحكومة الفيدرالية تعمل، وينفّذون السياسة الخارجية الأميركية، على الخروج من وظائفهم.
في الوقت نفسه، أدّت حرب ترامب التجارية غير المنظّمة، التي تستهدف المنافسين والحلفاء على حدّ سواء، إلى صدمة مفزعة المستثمرين، وأقنعت شركاء واشنطن بأنّهم لم يعودوا قادرين على الوثوق بها. لقد هدّد ترامب سيادة الدول الحليفة ووبّخ قادتهم علناً، فيما كان يغدق بالمديح للدكتاتوريين والبلطجية الذين يهدّدونهم.
كذلك، أدّى إلغاء إدارة ترامب الجذري والقطعي للمساعدات الخارجية الأميركية إلى إزالة رافعة من رافعات النفوذ الأميركي الأساسية، وأظهر مستوى من اللامبالاة لن تكون مجانية، فيما حلفاء البلاد يشاهدون ذلك برعب، ومنافسوها يشاهدونه بابتهاج، لتحوّل الولايات المتحدة من دولة لا غنى عنها إلى دولة لا تطاق.
تجربة الهيمنة الأميركية في النظام الدولي تعتبر شاذّة تاريخياً، لأنّها أدّت إلى قدر ضئيل جدّاً من التحوّط من قبل الآخرين، فعادة ما تدفع قوة صاعدة الدول الأخرى إلى موازنة نفوذها. مثلاً، في القرن 15 قبل الميلاد، أدّى صعود أثينا إلى سعي الدول المجاورة لطلب الحماية من إسبرطة. وفي حرب الشمال الكبرى مطلع القرن 18، أثارت طموحات الملك كارل الثاني عشر ملك السويد إنشاء تحالف معادٍ لبلاده. وبعد نحو قرن من ذلك، أفضى تصاعد قوة فرنسا إلى تشكيل التحالف الذي هزم نابليون في نهاية المطاف.
مع ذلك، النظام الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة وحلفاؤها من رماد الحرب العالمية الثانية حال دون تلك الحتمية الظاهرة. وقد منحت قواعد النظام المتّفق عليها والمشاركة إلى تعظيم نفوذ الدول الصغيرة والقوى المتوسطة التي تمتّعت بالأمان الذي وفّرته القوة الأميركية.
لقد كبحت الولايات المتحدة جماحها طواعية لتشجيع التعاون والمشاركة. ونتيجة لذلك، كان النظام الأميركي فعّالاً من حيث الكلفة بشكل ظاهر، لأن قواعده نادرا ًما كانت تتطلب أن تكون نافذة، إذ لم تحصل أي قوة مهيمنة على مثل هذا القدر من المساعدة من الآخرين في الحفاظ على هيمنتها.
هذا النظام ينهار الآن. ولدى ترامب قناعة أيديولوجية راسخة بأنّ الحلفاء عبء. وتكتيكه في المفاوضات هو استخدام النفوذ الأميركي لانتزاع تنازلات من الأطراف جميعها في الأوقات كلّها، لكنّ هذا النهج يتجاهل كيف يمكن للتعاون أن يكون عاملاً مضاعفاً للقوة. لنأخذ إيران مثلاً، لقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على الجمهورية الإسلامية منذ العام 1979، ولكن الضغط الأميركي لم يكن وحده كافياً لحمل طهران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي، وتطلب ذلك انضمام الصين وروسيا وحلفاء واشنطن الأوروبيين إلى نظام العقوبات.
الحرب في أوكرانيا مثال آخر. وفي سبيل إنهائها قد ترغب إدارة ترامب في تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا أو إجبار أوكرانيا على الاستسلام لعدوان موسكو، لكنّ الأمر سيتطلب إذعاناً أوروبياً حتّى يتعافى الاقتصاد الروسي، كما يمكن للدول الأوروبية أن تستمرّ في دعم أوكرانيا حتى من دون المساعدة الأميركية.
ولكن بدلاً من تأمين تعاون الحلفاء الأوروبيين في المفاوضات، جمّدهم ترامب. وعلى نحو مماثل، تريد الولايات المتحدة تقييد الصين من الحصول على أنواع معيّنة من التكنولوجيا المتقدّمة، مثل الأدوات والمكوّنات الضرورية لتصنيع أشباه الموصلات.
ولكن من دون امتثال الدول التي تصنع مثل هذه المواد، من ضمنها اليابان وهولندا، لن تذعن للقيود الأميركية. لن تكون التهديدات باستبعاد الدول من السوق الأميركية أو تجريدها من قدرتها على استخدام الدولار الأميركي في المعاملات فعالة إذا كانت واشنطن ستقيد الوصول إلى الأسواق أو إذا فقدت مركزية الدولار في الاقتصاد العالمي.
نهج ترامب نزعة ذاتية تتنكّر في زيّ استراتيجية
لم تقم إدارة ترامب وحدها في التحريض على تآكل النظام الدولي المفيد للولايات المتحدة، التي لطالما استخدمت الاعتماد الاقتصادي المتبادل كسلاح منذ عقود. وردّاً على اعتقاد واسع النطاق بين الناخبين الأميركيين بأنّ التجارة الحرّة تضرّ بالتصنيع الأميركي وتفرّغ الاقتصاد، كانت الإدارات الرئاسية الثلاث الأخيرة معادية لتوفير الوصول إلى الأسواق، حتّى للشركاء التجاريين المفضّلين الذين تعتبر وارداتهم ضرورية للإنتاج الأميركي.
لسنوات عديدة، ناشد حلفاء الولايات المتحدة، ولا سيّما في آسيا الذين يخشون قوة الصين المتنامية، اتباع استراتيجية اقتصادية من شأنها أن تسمح لهم بتقليل اعتمادهم على الصين. وخلال ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية، تفاوضت إدارته على الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي قدمت طريقة تعاونية للمضي قدماً. ولقد كان من شأن الاتفاق أن يربط بين 12 اقتصاداً، ويستفيد من الديناميكية الاقتصادية في آسيا، ويعد بالوصول إلى الأسواق الأميركية لإجبار معايير بيئية وعمالية أعلى من شأنها أن تجعل الإنتاج الأميركي أكثر قدرة على المنافسة.
مع ذلك، تركت إدارة أوباما الصفقة تضعف بدلاً من الضغط من أجل التصديق عليها في الكونغرس. كما تبرأ كلا المرشحين الرئاسيين من الأحزاب الرئيسية من ذلك عام 2016، ثمّ انسحب ترامب من المفاوضات عام 2017، واختار جو بايدن عدم الانضمام إلى الاتّفاقية بعدما أصبح رئيساً عام 2021.
عندما يتعلّق الأمر بإحراق الجسور، فلا شيء يضاهي سرعة وتدمير سياسات ترامب في الأشهر القليلة الماضية. ووفقاً لاستطلاع حديث أجرته شركة أبحاث الرأي "كلوستير 17" ومجلة "غراند كونتيننت"، فإنّ 51% من الأوروبيين "يعتبرون ترامب عدوّاً لأوروبا"، وهذا الشعور أقوى في البلدان التي كانت في السابق أكثر دعماً للولايات المتحدة، مثل الدنمارك وألمانيا.
وقد قال المستشار الألماني فريدريك ميرتس بعد فوزه في الانتخابات في شباط/ فبراير الماضي، إنّ "الأميركيين، على الأقلّ هذا القسم منهم وهذه الإدارة، غير مبالين إلى حدّ كبير بمصير أوروبا، فيما أولويتي المطلقة ستكون تعزيز وضع أوروبا في أسرع وقت ممكن بغية تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة". هذه الكلمات كان يمكن أن تكون اعتقاداً هامشياً قبل عقد من الزمن، ولكنّها أصبحت حكمة تقليدية في أوروبا الآن.
أميركا وحدها
في السنوات الأخيرة، كثّف خصوم الولايات المتحدة، من بينهم الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، تعاونهم في مواجهة جهود واشنطن لعزلهم ومساعدة بعضهم البعض على الالتفاف على العقوبات وتسليح جيوشهم وتنفيذ أعمال عدوانية مختلفة، وهذا ليس مفاجئاً، لأنّ صنّاع القرار السياسي الأميركي يتمتّعون بخبرة كبيرة في التعامل مع مثل هذه المكايد، لكنّهم يفتقرون إلى خبرة في التعامل حين يبدأ الحلفاء التقليديون والدول الأكثر حيادية العمل معاً ضدّ الولايات المتحدة.
قد تبدو العلامات الأولى لهذه العملية أكثر من مجرّد احتجاجات رمزية، إذ تبحث الدول والمؤسسات عن طرق لتجريد واشنطن من سلطتها التقليدية في عقد الاجتماعات، إذ سيتجنّب رؤساء الدول اجتماعات المكتب البيضاوي، وقد لا يكون المسؤولون الأجانب متاحين للمكالمات الهاتفية لتنسيق السياسة مع نظرائهم الأميركيين، وقد لا يحدّد رؤساء المنظمات الدولية جدولة أنواع القمم التي تمنح المسؤولين الأميركيين مكانة، وتسمح لهم بوضع جدول الأعمال والاجتماع مع العديد من قادة العالم في وقت واحد.
وسرعان ما سيبدأ الانسحاب العالمي من واشنطن في إحداث آثار ملموسة أكثر بكثير من خلال إلحاق أضرار بالاقتصاد الأميركي. قد تختار الدول عدم الاستثمار في سندات الخزانة الأميركية أو قد تشتريها فقط بأسعار فائدة أعلى، ما يفرض تكاليف باهظة على واشنطن لخدمة الدين الوطني.
كما لا يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على الإسراف اللافت للنظر في ديونها الوطنية فقط لأنّ المستثمرين يعتبرون الدولار الأميركي ملاذاً آمناً، لكنّ ترامب وحلفاءه الجمهوريين في الكونغرس يدمّرون هذا الامتياز الذي حصل عليه بشقّ الأنفس من خلال التعريفات الجمركية والميزانية التي ستدفع مستويات الديون إلى مستويات غير مسبوقة. ولم يكن من المفترض أن يكون مفاجئاً عندما خفّضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة في الشهر الماضي.
مع مرور الوقت، قد تعاني الولايات المتحدة من نزوح جماعي للمستثمرين، الذين لا يرون النمو الذي يتوقّعونه من الأسواق الأميركية ولا الاستقرار وسيادة القانون والاستقلال التنظيمي الذي يدعم الاقتصاد الأميركي. في أثناء ذلك، قد تبدأ الحكومات الأجنبية باستخدام الدعم واللوائح التنظيمية لإنشاء سلاسل توريد تتجنّب المكونات المصنّعة في الولايات المتحدة.
وإذا استمرّت واشنطن في إقامة حواجز كبيرة أمام السلع الأجنبية، فإن شركاءها التجاريين سيبحثون عن أسواق أخرى، ما يزيد شراكتهم مع بعضهم بعضاً على حساب الشركات الأميركية
منذ نحو 3 أشهر، عقدت اليابان وكوريا الجنوبية وهما حليفان آسيويان الأكثر اعتمادا على الولايات المتحدة، قمّة تجارية مع الصين، أعلنت بعدها الدول الثلاث سويا عن خطّة لمتابعة اتّفاقية تجارة حرّة جديدة بينها، وتعهّدت بالعمل معا لتطوير "بيئة تجارية واستثمارية مستقرة" في المنطقة.
كما أنّ واشنطن تحتاج إلى طوكيو وسيؤول إلى جانبها لمواجهة وفورات الحجم والتحايل على سلاسل التوريد الصينية، واليابان وكوريا الجنوبية هما مرتكزان الديناميكية الاقتصادية الآسيوية، وبدونهما لا يمكن للجهود الأميركية لتهميش الصين أن تنجح.
كذلك، إن ازدراء ترامب للتعدّدية يعرض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للخطر، وهما اللذان ساعدا على تشكيل الاقتصاد العالمي لمصلحة واشنطن، لكنّ إدارة ترامب اتّهمتهم بالتقصير، وطالبتهم بمواءمة أجنداتهم مع أجندات الرئيس، ما أثار مخاوف من أنّ واشنطن قد تنسحب منهما و"تجوعهما"، كما فعلت مع منظّمة التجارة العالمية.
راقب ظهرك
سيعاني الأمن القومي للولايات المتحدة إذا بدأت الدول بالانفصال عنها. لنتأمّل تبادل المعلومات الاستخباراتية، وهو مجال آخر على واشنطن أن تتوقّع فيه تعاوناً أقلّ في المستقبل. كما سيطلب شركاء الولايات المتحدة الثقة بأنّ أيّ معلومات يشاركونها معها لن تستخدم لإلحاق الضرر بهم، وأن تبقى مصادر وأساليب الحصول على هذه المعلومات الاستخباراتية سرّية.
في ولاية ترامب الأولى، سرعان ما اكتشف حلفاء الولايات المتحدة عجرفة الرئيس ترامب بالتعامل مع المعلومات السرية. وعام 2017، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أنّ الرئيس ترامب ناقش بشكل عابر معلومات سرّية حول مؤامرة إرهابية قدّمتها "إسرائيل" للولايات المتحدة أمام مسؤولين روس خلال زيارتهم البيت الأبيض.
ازداد هذا القلق الآن مع الولاية الثانية لترامب؛ ففي آذار/ مارس الماضي، استخدم عدد من مسؤولي حكومة ترامب تطبيق "سيغنال" لمشاركة ومناقشة تفاصيل سرّية حول ضربة أميركية وشيكة على الحوثيين في اليمن. قد يدفع هذا التراخي الدول الأخرى إلى أن تصبح أكثر حذراً بشأن ما تشاركه مع واشنطن، وكذلك كيف ومتى تقوم به.
كذلك، يمكن لنهج ترامب في إدارة الجيش الأميركي أن يساهم في إضعاف القيادة الأميركية، إذ يتمّ الآن تحويل استخدام بعض الوحدات العسكرية الأكثر تدريباً من الاستعدادات القتالية العالية في مركز التدريب الوطني التابع للجيش من أجل المساعدة على إنفاذ قوانين الهجرة على الحدود مع المكسيك. وفي السعي لتحقيق مثل هذه الأولويات الرئاسية، ستفقد القوات المسلحة للبلاد الكفاءة العملياتية، ما يجعلها شريكاً أقلّ قيمة وتوفّراً أيضاً.
وقد يختار الحلفاء تجنّب الحصول على أسلحة أميركية الصنع خوفاً من أن تمنعهم واشنطن أو شركة أميركية من الإذن باستخدامها في الأزمات، تماماً كما حرم ماسك أوكرانيا من القدرة على استخدام شبكة اتّصالات "ستار لينك" الخاصة به لتنفيذ هجوم على القوات الروسية في شبه جزيرة القرم عام 2022. وقد يؤدّي هذا التجنّب بدوره إلى حدوث مشكلات في قابلية التشغيل البيني، ما يجعل من عمل القوات العسكرية معاً بشكل وثيق أمراً صعباً للغاية.
لطالما اعتمدت قدرة الجيش الأميركي على إبراز قوته في جميع أنحاء العالم على الشركاء والحلفاء. مثلاً، لا يمكن للبنتاغون توفير زيادة في القوات إلى الشرق الأوسط دون استخدام الموانئ في بلجيكا وألمانيا أو إرسال قوات عبر المحيط الهادئ، ناهيك بالحفاظ على العمليات القتالية ضد الصين دون استخدام القواعد في اليابان والفلبين.
ولا يمكن للولايات المتحدة تنفيذ ضربات جوية على الإرهابيين في أفغانستان من دون إذن بعبور المجال الجوي الباكستاني، وكان العديد من الجنود الأميركيين سيموتون في الحروب في تلك المنطقة والعراق لو لم يحتفظ الجيش الأميركي بإمكانية الوصول إلى قاعدة "رامشتاين" الجوية ومستشفى "لاندشتول" في ألمانيا.
لن تكون واشنطن قادرة على تنفيذ خطط الحرب بالسرعة المطلوبة دون المرور التفضيلي عبر قناتي بنما والسويس. القوة العسكرية الأميركية ليست مستقلّة، وهي تعتمد على الآخرين، لكنّ الكراهية المتزايدة للسياسات الأميركية ستؤدي إلى تنفير الجماهير في البلدان الأخرى وتجعل من الصعب على حكوماتها تقديم الدعم للعمليات العسكرية الأميركية، ناهيك بالمشاركة فيها. لنتخيّل لو نفذ الإرهابيون هجوماً هائلاً على الولايات المتحدة، ولم يسارع الحلفاء إلى المساعدة، كما فعلوا بعد هجمات 11 سبتمبر الشهيرة، ماذا سيكون الوضع؟
كما أنّ شبكة التحالفات والشراكات الكثيفة للولايات المتحدة تمكّن أيضاً من "الردع الموسّع" الذي يحمي أصدقاء واشنطن من أعدائهم، لكنّ ترامب أضعف بالفعل تلك الركيزة من نظام ما بعد الحرب الباردة. وعام 2019، بعدما هاجم حلفاء إيران منشآت معالجة النفط الكبرى في السعودية، لاحظ حلفاء الولايات المتحدة أنّ ترامب اختار عدم الانتقام.
يبدو أن إدارة ترامب تعتقد أنّه إذا أجبرت واشنطن حلفاءها على الوقوف بمفردهم، فإنّهم سيتّخذون خيارات من شأنها أن تفيد الولايات المتحدة، لكن من غير المرجّح أن يكون هذا صحيحاً. وعلى الرغم من أنّ معظم الحلفاء الأميركيين لديهم جيوش أرفع من جيوش خصومهم المحتملين، فإنّهم يفتقرون عموماً إلى الثقة العملانية. ويمكن لحلفاء واشنطن الأوروبيين بلا جدال هزيمة الجيش الروسي في حرب تقليدية غير نووية. وربّما من المحتمل أن تهزم فنلندا وحدها روسيا في مثل هذه المعركة إذا كانت مدعومة بضمانات أمنية من واحدة على الأقلّ من حلفائها المسلّحين نوويا، مثل فرنسا أو بريطانيا.
حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا لديهم ثقة ضئيلة جداً بقوتهم. وإذا ابتعدت الولايات المتحدة عنهم، فمن المرجح أن يقدّموا تنازلات إلى المعتدين من شأنها أن تضرّ بمصالحهم ومصالح واشنطن معاً. هذا ما فعلته فرنسا وألمانيا بعد غزو روسيا لأوكرانيا عام 2014، إذ كانت استجابة إدارة باراك أوباما طفيفة لا تذكر، ما دفع القوى الأوروبية إلى الضغط على أوكرانيا لقبول اتّفاقيات مينسك، التي أضفت الطابع الرسمي على منطقة عازلة للاحتلال الروسي على الأراضي الأوكرانية، لكنّ هذا لم يوقف القتال، فقامت روسيا بتعزيز مواقعها وهاجمت أوكرانيا مرّة أخرى عام 2022.
في السنوات المقبلة، يمكن أن يتصاعد التعدّي الروسي على أراضي عضو في حلف شمال الأطلسي، إلى جانب التهديدات باستخدام الأسلحة النووية بمواجهة "الناتو" وتمزيق الغرب. قد تكون إدارة ترامب غير راغبة في مقايضة نيويورك بتالين، وقد تنهار فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة أيضاً، ولن تكون أوروبا في مثل هذا الانعدام الأمني حريصة بشكل خاص على مساعدة واشنطن في التعامل مع العدوان العسكري والتجاري الصيني أو المساعدة على تقييد البرنامج النووي الإيراني.
يشكّكُ ترامب بشكل روتيني في موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية من خلال إظهار عدم اكتراثه بأمن حلفاء "الناتو" الذين لا ينفقون ما يعتبره المبلغ المناسب على الدفاع. والطريقة المخزية التي يساوي بها بين عدوان روسيا على أوكرانيا ودفاع ذلك البلد البطولي عن سيادته أدّيا إلى تآكل الإحساس بالأخلاق الأميركية الأساسية، التي تجتذب التعاون من الدول ذات التفكير المماثل.
وإذا كانت سياسات الولايات المتحدة غير أخلاقية على نحو علني، وبالتالي لا يمكن تمييزها عن سياسات منافسيها، فقد تختار دول أخرى الوقوف إلى جانب تلك القوى، مراهنة على أنّ سلوكها سيكون على الأقلّ أكثر قابلية للتكهّن.
رهان سيّئ
قد تعتمد إدارة ترامب على الكراهية التي يشعر بها حلفاء الولايات المتحدة تجاه الأيديولوجيات التي توجّه المنافسين الأميركيين، مثل الصين، وإيران، وكوريا الشمالية، وروسيا. ومن وجهة النظر هذه، حتّى لو لم يعجب شركاء الولايات المتحدة بأشياء معينة تفعلها واشنطن، فإنّهم في النهاية سيلتزمون مع الولايات المتحدة بدافع الشعور بالتضامن الديمقراطي.
كذلك، هؤلاء الحلفاء تغلّبوا بسهولة على أيّ اعتراضات أيديولوجية قد تكون لديهم، واستمرّوا في التجارة مع روسيا بعد غزو أوكرانيا عام 2014، ومع الصين على الرغم من قمعها للإيغور، وفي هونغ كونغ في السنوات الأخيرة. إلى جانب ذلك، لا تعتبر إدارة ترامب نفسها الاختلافات الأيديولوجية عقبة أمام التعاون، ولم يمنع عدم التوافق بين القيم الأميركية والروسية ترامب من الوقوف إلى جانب موسكو في حرب أوكرانيا.
وفي ظل إدارته، لن "تقوم واشنطن بمحاضرات حول كيفية العيش أو كيفية إدارة شؤونك الخاصة"، كما أكّد ترامب في تجمع للمستثمرين والقادة السعوديين مؤخّراً. وإذا لم تتصرّف واشنطن كما لو أنّ الأيديولوجية مهمّة، فلا ينبغي أن توقع أن يفعل الآخرون ذلك.
قد يعتقد ترامب أن تقارب القوى الصينية والإيرانية والكورية الشمالية والروسية بالغ الأهمّية، إلى درجة أنّ المقاومة الأوروبية ستكون من دون جدوى بلا الثقل الأميركي. من هذا المنظور، من الأفضل إحياء ممارسة القرن الـ19 للقوى العظمى في تقسيم العالم، لكنّ القيام بذلك سيسلّم أوروبا لروسيا وآسيا للصين، ما سيشكّل خسارة فادحة للولايات المتحدة، إضافةً إلى أنّه لا يوجد سبب للافتراض بأنّ مثل هذه التنازلات ستخمد الطموحات الصينية والروسية.
هناك تفسير محتمل آخر لنهج إدارة ترامب، وهو أنّها ترى أنّ معظم أشكال إدارة التحالفات تعتبر في أحسن الأحوال تشتيتاً للانتباه، وعائقاً أمام الفوز في المنافسة مع الصين. قد يكره مسؤولو إدارة ترامب هذه المقارنة، لكنّ هذا الموقف يمثل استمراراً لحجّة إدارة بايدن القائلة إنّ أهمّ شيء للولايات المتحدة هو تعزيز قوتها داخلياً بأن يكون لديها أفضل اقتصاد، وأكثر التقنيات ابتكاراً، وأقوى جيش.
وفقاً لهذا المنطق، سيحظى الفوز في هذه الأبعاد بدعم عالمي، لأنّ الناس يميلون إلى الوقوف إلى جانب الفائز، لكن هذا لن يكون الحال إذا لم يتمكن الآخرون من الوصول إلى السوق الأميركية، أو إذا اعتبروا التكنولوجيا الأميركية خطراً عليهم والجيش الأميركي لا يوفّر لهم حماية حقيقية. وإذا كان ترامب يهدف حقاً إلى جعل البلاد أقوى في الخارج من خلال جعلها أقوى في الداخل، فهو يفعل ذلك بطريقة مستهجنة.
إنّ التعرفات الجمركية السيئة التي فرضتها الإدارة تزيد تقلّبات السوق، وتجعل التخطيط للأعمال مستحيلاً عملياً. ومن المرجّح أن يؤدّي التشريع الجمهوري الذي يدعو إليه ترامب إلى تفجير العجز وزيادة التضخّم. كما أنّ ارتباط عمالقة التكنولوجيا الأميركية بهجوم الإدارة على الوكالات الحكومية وسيادة القانون يضرّ بعلاماتهم التجارية ويعرض قيمهم السوقية للخطر.
ووفقاً لمحلّل الدفاع تودّ هاريسون، فإنّ اقتراح الميزانية التي يدافع عنها ترامب سيؤدّي إلى خفض الإنفاق الدفاعي بمقدار 31.5 مليار دولار عام 2026 مقارنة بما توقّعته إدارة بايدن لذلك العام، والذي كان في حدّ ذاته غير كاف للتحدّيات الأمنية التي تواجهها البلاد، و"هذه أجندة للضعف، وليس القوة".
لا تُخشى منها ولا تُحب
يدمّر ترامب وفريقه كلّ ما يجعل الولايات المتحدة شريكاً جذّاباً، ويفشلون في تخيّل مدى سوء النظام المعادي للمصالح الأميركية، إذ لم يكن لا غنى عن الولايات المتحدة أمراً حتمياً في السابق. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة، أصبحت البلاد لا غنى عنها من خلال تحمّل المسؤولية عن أمن وازدهار البلدان التي وافقت على اللعب وفقاً للقواعد التي وضعتها واشنطن وفرضتها. وإذا تخلّت الولايات المتحدة نفسها عن هذه القواعد والنظام الذي أنشأته، فستصبح قابلة للاستغناء وبلا قيمة. ومن المرجّح أن يحيّر التدمير الذاتي للقوة الأميركية في عهد ترامب مؤرّخي المستقبل.
خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، حقّقت الولايات المتحدة هيمنة غير مسبوقة، وكان الحفاظ عليها سهلاً وغير مكلف نسبياً، لكن، لقد ارتكب جميع أسلاف ترامب في تلك المدّة أخطاء قلّل بعضها بشكل كبير من نفوذ الولايات المتحدة، وساعد خصوم البلاد في الحدّ من قدرة واشنطن على حثّ التعاون أو الامتثال من جانب الدول الأخرى، لكن أياً من هؤلاء الأسلاف لم يقصد مثل هذه النتائج.
يريد ترامب عالماً لا تشكّل فيه الولايات المتحدة النظام العالمي لمصلحتها بنشاط، على الرغم من أنّها لا تزال غنية وقوية، ويفضّل قيادة دولة يُخاف منها ولا تُحب، لكن من غير المرجّح أن يعزّز نهجه أياً من تمتين العلاقات والمشاركة. وإذا استمرّت البلاد على المسار الذي بدأه ترامب، فإن الولايات المتحدة تخاطر بأن تصبح شديدة القسوة وغير ذات أهمية بحيث لا تُخشى.
في السنوات المقبلة، ستبدأ التحالفات التي استغرق بناؤها عقوداً بالذبول، ولن يفقد خصوم الولايات المتحدة أيّ وقت في الاندفاع إلى استغلال الفراغ الناتج. قد ينتظر بعض شركاء واشنطن قليلاً، على أمل أن يستعيد أصدقاؤهم الأميركيون رشدهم، ويحاولوا إعادة إرساء ما يشبه الدور القيادي الأميركي التقليدي، لكن لا سبيل للعودة إلى الوراء، فقد تضرّر إيمانهم وثقتهم بمستوى لا يعوّض، ولن ينتظروا طويلاً، قريباً، وسيتجاوزون الولايات المتحدة مع بقية العالم.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.