"فورين أفيرز": حرب السودان صورة عمّا سيأتي
لماذا يواجه الوسطاء صعوبة في إنهاء هذا النوع الجديد من النزاعات؟
-
"فورين أفيرز": حرب السودان صورة عمّا سيأتي
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول محاولة جديدة لإنهاء الحرب الأهلية في السودان عبر "خارطة طريق" أعلنتها الرباعية (مصر، السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة)، وما يحيط بها من تعقيدات داخلية وإقليمية ودولية.
المقال يرسم صورة لسودان غارق في حرب بلا سلام، تتحول فيه البلاد إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي، بينما يتراجع النفوذ الأميركي ويصعب الوصول إلى حل مستدام.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في الـ22 من الشهر الماضي أعلنت مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، عن خارطة طريق مشتركة لإنهاء الحرب الأهلية المدمرة في السودان والمستمرة منذ عامين ونصف. وقد اعتبر هذا الإعلان بحد ذاته اختراقاً مهماً. فبعد فترة وجيزة من اندلاع الصراع في الخرطوم في العام 2023، ولجت واشتبكت أطراف إقليمية متنوعة في النزاع. فقد دعمت مصر وعدد من الدول المجاورة الأخرى الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني ورئيس الحكومة المتمركزة حالياً في بورتسودان، بينما دعمت الإمارات وبشكل متزايد دولاً أخرى تعتمد على أبو ظبي مثل تشاد، قائد قوات الدعم السريع المتمردة، محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي الذي كان نائب البرهان في المجلس العسكري السوداني السابق.
يُذكر أنّ الجهات الراعية للخطة، المعروفة باسم "الرباعية"، هي دول عربية لها تأثير كبير في السودان، من ضمنهم السعودية التي سعت في الغالب إلى الحفاظ على الحياد، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية. ولقد كان التوصل إلى اتفاق بين هذه الدول الخارجية أمراً صعب المنال لفترة طويلة، واستغرقت المفاوضات التي قادتها واشنطن على مستوى عالٍ عدة أشهر، حتى تم التوافق على خارطة طريق مشتركة.
وقد نصّت الخطة على هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر بين الطرفين المتحاربين، يليها وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية يقودها السودانيون لاختيار حكومة مدنية جديدة. فبعد سنوات من القتال الشرس، تصاعد الأمل في إمكانية إيجاد سبيل لإنهاء الكارثة التي أودت بحياة ما يصل إلى 150,000 شخص، وتسببت في تهجير ربع سكان البلاد البالغ عددهم 50 مليون نسمة، وتركت عدداً لا يحصى من السودانيين من دون خدمات أساسية.
مع ذلك يبدو أنّ الخطة تواجه بالفعل عقبات، فالقتال مستمر في السودان بلا انقطاع، بينما أعلن الجيش السوداني رفضه العلني للخطة المقترحة. ولقد كان تقريب وجهات النظر بين مصر والسعودية والإمارات خطوة أولى ضرورية، لكن هوة كبيرة لا تزال تفصل بين الأطراف المتحاربة. كما أنه من غير الواضح حتى الآن إذا ما كانت الإدارة الأميركية الجديدة مستعدة للانخراط على المدى الطويل والصعب الذي يتطلبه تنفيذ الخطة بنجاح.
وفي ظل التراجع الواسع للولايات المتحدة من المنطقة وصعود قوى متوسطة طموحة في الجوار، تكمن القصة الأكبر في أن الولايات المتحدة لم تعد تملك النفوذ الذي كانت تتمتع به سابقاً لرعاية عمليات الوساطة في العديد من مناطق أفريقيا، ما استلزم اللجوء إلى صيغ غير عملية مثل "الرباعية".
ومن بين الفاعلين الخارجيين، كانت واشنطن تتمتع بأكبر قدر من التأثير في منطقة القرن الأفريقي في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن. وعلى الرغم من أنها تجاوزت حدودها بشكل كبير في بعض تدخلاتها، لكنها منحت جهود صنع السلام ثقلاً محورياً.
وخلال الـ15 عاماً الماضية، تضاءل نفوذ الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، رصدت القوى الإقليمية الصاعدة فرصاً تجارية ودبلوماسية، وحاولت تقريب القرن الأفريقي سياسياً واقتصادياً من منطقة الشرق الأوسط. وقد جلب ذلك للمنطقة بعض الاستثمارات الضرورية، وأثبت بعض هذه القوى قدرته على الوساطة بمرونة. ومع ذلك، فإن رعاية دول الخليج للأطراف المتحاربة جعلت حل النزاعات أكثر صعوبة بشكل عام.
وبهذا المعنى، أصبحت الحرب في السودان مؤشراً لما قد تبدو عليه الحروب المستقبلية، فهي معقدة ويصعب حلها، وتستقطب المزيد من القوى الخارجية المتنافسة، وكل منها لديه مصالح متعارضة لا يمكن التوفيق بينها. وبمجرد اندلاع مثل هذه الحروب، يصبح من الصعب جداً إيقافها، إذ لا يمتلك أي طرف منفرد السلطة على جميع الأطراف أو ضبط بقية القوى الخارجية. ويمكن أن تكون هذه الحروب مدمرة للغاية، نظراً للأسلحة المتقدمة التي يمكن أن يوفرها الفاعلون الخارجيون الآن.
نقطة ارتكاز
لطالما كانت منطقة القرن الأفريقي عرضة لتأثير التحولات الجيوسياسية الواسعة، وكانت خلال الحرب الباردة مركزاً للحروب بالوكالة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ومع اقتراب نهاية تلك الحرب شهدت المنطقة اضطرابات سياسية تمثلت في تغيير النظام في إثيوبيا، وانهيار الدولة في الصومال، واندلاع الحروب الأهلية في السودان.
ومع أنّ فترة ما بعد الحرب الباردة بدأت بصدمة، إلا أنّها استقرت إلى حد ما مع بروز الولايات المتحدة كمصدر رئيسي للتأثير الخارجي. وقد استخدمت واشنطن العديد من وسائل الترغيب والترهيب، إضافة إلى قوتها الدبلوماسية على المستوى الإقليمي، لتؤدي دوراً كبيراً في محاولة تحقيق الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي المتقلبة.
وكان سجلها متبايناً للغاية، فمنذ أن أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لغزو إثيوبيا للصومال عام 2006، سيطر تمرد إسلامي على أجزاء واسعة من البلاد. وبدءاً من تسعينيات القرن الماضي في السودان، ساعدت الولايات المتحدة في دعم تمرد في الجنوب للضغط على الحكومة الإسلامية في الخرطوم، ما أدّى إلى انفصال جنوب السودان، حيث سرعان ما انزلقت الدولة الجديدة إلى حرب أهلية، وواجه شمال السودان صعوبات اقتصادية. وبصورة عامة، لم تؤدِّ أجندة الولايات المتحدة الليبرالية إلى تعزيز الحوكمة في الدول الضعيفة.
مع ذلك، ساعدت الهيمنة النسبية للولايات المتحدة وحضورها في دعم الاستقرار الأساسي بين الدول وتعزيز جهود صنع السلام. وعلى الرغم من استمرار النزاعات الحدودية بين دول القرن الإفريقي، إلا أنّ قلة من القادة المحليين خاطروا بالتعرض للانتقاد الذي قد ينجم عن محاولات ضم أراض مجاورة على نحو صريح
وعندما اندلعت حروب حدودية أو حروب أهلية كبرى، وجهت الولايات المتحدة الجهود نحو حلول دبلوماسية، غالباً من خلال دعم المبادرات متعددة الأطراف. فعلى سبيل المثال، أيّد المسؤولون الأميركيون اتفاقية الجزائر التي صاغتها الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية، والتي وقعتها إثيوبيا وإريتريا في عام 2000. كما جذبت أزمة دارفور في السنوات الأولى من القرن الجاري اهتمام القادة الأميركيين والرأي العام الأميركي، حيث ضغطت واشنطن على المفاوضين السودانيين لقبول عملية السلام التي قادتها كينيا عام 2005، والتي أنهت الحرب الأهلية السابقة في السودان وتنسيقها الوثيق مع إشراف الاتحاد الأفريقي على تقسيم السودان وجنوب السودان.
وفي عام 2012، كان الضغط الأميركي عاملاً رئيسياً في وقف الغزو قصير الأمد الذي شنّه جنوب السودان على السودان، والذي كان يهدد بالتحول إلى حرب بين دولتين. وبشكل عام، اتبعت الدول الأوروبية قيادة الولايات المتحدة في السودان، لكن لم تتحد القوى الإقليمية في الغالب تحت العمليات الدبلوماسية المدعومة من الولايات المتحدة. وعندما لم تحظَ مبادرة سلام متعددة الأطراف بدعم الولايات المتحدة مثل محاولة الاتحاد الأفريقي عام 2011 للوساطة في ليبيا قبل سقوط نظام معمر القذافي، نادراً ما حققت واشنطن تقدماً يذكر.
الانجراف القاري
خلال العقد الماضي تراجعت قدرة الولايات المتحدة على تشكيل النهج الدولي تجاه السودان بشكل مطرد. وفي الوقت الذي حاولت فيه مراراً تحويل تركيزها نحو الصين ظلت متشابكة بشكل يصعب فكه في نزاعات الشرق الأوسط، حيث تراجعت أهمية استقرار منطقة القرن الأفريقي على قائمة أولويات واشنطن، فأصبح يُنظر إليه على أنّه أمر "جيد الحصول عليه"، لكنّه ليس ضرورياً.
ولقد كان المبعوث الخاص للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السودان وجنوب السودان، برينستون لايمان، يدير مكتباً كبيراً يضم أكثر من 20 موظفاً، من بينهم بعض الموظفين المنتدبين من وزارتي الدفاع والخزانة، وكان يرفع تقاريره مباشرة إلى البيت الأبيض، ومُنح وضعاً يختلف كثيراً عن الموارد التي أُتيحت للمبعوثين الأميركيين الخاصين إلى المنطقة في السنوات الأخيرة، والذين يفتقرون إلى فرق عمل ويقدمون تقاريرهم إلى مكتب أفريقيا بوزارة الخارجية.
وبينما كانت الولايات المتحدة ترى في الغالب مشكلات وصداعاً في القرن الأفريقي يجب حله، رأى بعض القوى الإقليمية المتوسطة فرصاً جديدة. وقد أرسلت الولايات المتحدة مساعدات خارجية تُدار عبر إداراتها الخاصة، في حين بدأت دول الخليج وتركيا في تقديم الاستثمارات المباشرة إلى منطقة القرن الأفريقي. وفي عام 2006، فازت شركة دبي العالمية للموانئ، وهي شركة لوجستية عملاقة مقرّها الإمارات، بعقد مدته 30 عاماً لتشغيل الميناء الرئيسي في جيبوتي، ما أطلق جهوداً أوسع من قبل أبو ظبي للسيطرة على الموانئ في جميع أنحاء شرق أفريقيا.
ثم توسعت استثماراتها في البنية التحتية لتشمل صفقات المعادن، ومشاريع الطاقة، وممرات التجارة في مجموعة متنوعة من الدول. ومن جانبها، خصصت تركيا أيضاً موارد للشراكات التجارية والأمنية الجديدة في منطقة القرن الأفريقي، ولا سيّما في الدول التي كانت أراضيها مرتبطة سابقاً بالإمبراطورية العثمانية.
ألقت السعودية والإمارات اللوم على قطر وتركيا لدعمهما الانتفاضات الشعبية، ما فتح الباب أمام تصاعد التنافس على النفوذ في منطقة القرن الأفريقي بعد أحداث الربيع العربي عام 2011. وقد سعى كل بلد إلى تقليص نفوذ قطر من خلال محاولات لإقصائها من المنطقة، والضغط على دول القرن الأفريقي لاختيار جانب معين في التنافس.
كما زادت هذه الدول من استثماراتها التجارية هناك. ووفقاً لمذكرة منتدى الاقتصاد العالمي الصادرة في نيسان/ أبريل العام الماضي، ضخت دولة الإمارات خلال العقد الماضي 59 مليار دولار في أفريقيا، ما جعلها 4 أكبر مستثمر أجنبي مباشر في القارة، مقتربة من موقع الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في حين استثمرت السعودية 26 مليار دولار في المنطقة.
ومع بدء القوى الخليجية في التشكيك في مدى استمرار الالتزامات الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط، عمل بعضها على تعزيز نفوذه بشكل متعمد عبر البحر الأحمر لحماية مصالحه، كما أدى تراجع المشاركة الأميركية مع القرن الأفريقي، وأجزاء أخرى من القارة إلى توسيع المجال أمام تدخل القوى المتوسطة، ثم أدى تزايد نفوذ هذه القوى إلى تقليل مردود الاستثمارات الدبلوماسية الأميركية، ما سرّع من انسحابها الاستراتيجي.
وقد ضخّت هذه القوى المتوسطة استثمارات أجنبية مباشرة في القرن الأفريقي، وسعت أحياناً للمساهمة في حل النزاعات. فعلى سبيل المثال، ساعدت قطر مؤخراً في الوساطة لتهدئة التصعيد بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، وفي العام الماضي هدأت تركيا التوترات بين إثيوبيا والصومال. ولكن من المحتم أنّ الجهود المختلفة تنافست أحيانا، أو عملت في اتجاهات متعارضة ما أدى إلى حدوث عدم استقرار.
المسألة المركزية
لقد أصبح السودان مركز الصراع بين القوى المتوسطة. فالأراضي الزراعية الخصبة على ضفاف النيل، وموقعه الاستراتيجي عند ملتقى العالمين الأفريقي والعربي، حيث الربط بين وسط أفريقيا بالبحر الأحمر وشرق القارة، يجعلانه ذا أهمية كبيرة لاقتصادات وأمن القوى المجاورة.
في عام 2018، انتهى حكم الديكتاتور عمر البشير الذي استمر حكمه 3 عقود، عندما أطاحته ثورة بدأها شباب السودان. وقد أُسست حكومة مدنية كان لدى واشنطن المصلحة كلها في دعم نجاحها، وكانت هذه فرصة تاريخية للسودان. وبعد أن فرض القادة العسكريون بقيادة البرهان وحميدتي مجلساً عسكرياً عقب سقوط البشير، بذلت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والأفريقية جهوداً لدعم القادة المدنيين والمتظاهرين في الشوارع. وساهموا في التوسط لإبرام اتفاق لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري والسياسيين المدنيين، يتضمن انتقالاً تدريجياً إلى حكم مدني كامل.
لكنّ متغيرات ميزان القوى في المنطقة كانت في مصلحة الجنرالات، الذين تربطهم علاقات وثيقة بمصر والسعودية والإمارات، بينما لم تنتهز الولايات المتحدة وكذلك أوروبا الفرصة لدعم الانتقال المدني في السودان. وعلى سبيل المثال، لم ترفع واشنطن القيود المالية المفروضة على الخرطوم منذ عهد البشير حتى نهاية العام 2020، ما أضعف الإدارة المدنية في بدايتها. وفي عام 2021، أطاح البرهان وحميدتي الحكومة الانتقالية القصيرة الأجل بانقلاب.
وبعد اندلاع الحرب بعد عامين بين قوات البرهان أي القوات المسلحة السودانية وحميدتي أي قوات الدعم السريع، سارعت مصر إلى زيادة دعمها العلني والسري للجيش السوداني، كذلك فعلت تركيا ودعمت القوات البرهان، فأنقرة مثل الإمارات تسعى للسيطرة على ميناء على البحر الأحمر في السودان، إضافة إلى الجزائر وإيران وقطر. وقد اعترفت جميع هذه الدول بنظام البرهان باعتباره الحكومة الشرعية للسودان.
تواصل دولة الإمارات العربية المتحدة نفيها لتسليح وتمويل قوات الدعم السريع، إلا أنّ المسؤولين الأفارقة والعرب والأميركيين والأوروبيين يعتقدون على نطاق واسع أنّ الإمارات تقف وراء العملية اللوجستية الضخمة التي أبقت قوات حميدتي مزودة بالإمدادات. ويعد الطريق الرئيسي لإمداد هذه المجموعة حالياً عبر الأراضي الليبية التي يسيطر عليها الجنرال والسياسي القوي خليفة حفتر، الحليف المقرب للإمارات.
ورغم أن للإمارات مصالح عديدة في السودان من ضمنها معدن الذهب، فإنّه من السهل المبالغة في تقدير مدى كون تدخلها في النزاع محاولة للاستحواذ على الموارد. إذ تبدو جهود الإمارات مدفوعة برغبة أوسع في إبراز قوتها من خلال النفوذ الاقتصادي، بما يشمل شمال ووسط وشرق أفريقيا، إلى جانب رفضها الواضح لإرساء سابقة بالتخلي عن وكيل عدائي. كما أعربت الإمارات علناً عن اعتراضها على التحالف التكتيكي الذي عقده البرهان خلال الحرب مع مسؤولين سابقين من نظام البشير، نظراً لرفض أبوظبي الأيديولوجية الإسلامية.
على المستوى الرسمي حافظت السعودية على الحياد في الصراع السوداني. إلا أنّها عززت دعمها الدبلوماسي والاقتصادي للقوات المسلحة السودانية، بما في ذلك تقديم المشورة الوثيقة لقيادتها والدفاع عن موقفها في المحافل الدولية. ويذكر أنّ شرق السودان يقع مباشرة على البحر الأحمر مقابل جدة والمشاريع التنموية الضخمة في شمال ساحل السعودية.
كذلك تخشى الرياض أنّه إذا انهارت الدولة السودانية بالكامل، فقد يتمكن خصومها من إيجاد موطئ قدم هناك، وقد يمتد عدم الاستقرار إلى البحر الأحمر، ما يؤدي إلى زيادة انعدام الأمن والاتجار والتطرف، ويقلل من قدرة المملكة على الاستفادة من إمكانات ساحلها كمركز لوجستي وسياحي. كما أنها قلقة من امتداد التأثيرات السلبية إلى مصر، الحليف الرئيسي لها.
ويعكس هذا التشابك في التأثيرات الخارجية اتجاهاً على مستوى القارة. فقد وجد "معهد أبحاث السلام في أوسلو" في تقرير صدر عام 2024 أن عدد النزاعات في أفريقيا قد تضاعف خلال العقد الماضي، وأنّ "النزاعات الأهلية أصبحت أكثر تدويلاً، وتشارك حكومة أو أكثر من الخارج في النزاعات من خلال تقديم أو نشر عناصر قتالية لدعم أهداف أي من الطرفين المتصارعين".
حرب بلا سلام
مع توسع النزاع أصبح الصراع يستقطب المنطقة نحو كتلتين رئيسيتين، واحدة مؤيدة للقوات المسلحة السودانية، والأخرى تدعم قوات الدعم السريع. مثلاً، تقدم إريتريا الآن دعماً مباشراً للقوات المسلحة السودانية، بينما تقدم جيبوتي دعماً خطابياً فقط. وفي شهر أيار/مايو الماضي، اتهم الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله دولة الإمارات بزعزعة استقرار المنطقة، ووافقه الرأي الرئيس الإريتري أسياس أفورقي.
بالمقابل تقوم تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، وإثيوبيا، وكينيا، وشرق ليبيا، وأجزاء من الصومال، وجنوب السودان، وأوغندا وجميعها لديها علاقات مالية أو أمنية مهمة مع دولة الإمارات، بعلاقات ودية مع قوات الدعم السريع، رغم أن بعض هذه الدول مثل إثيوبيا وجنوب السودان حاولت الحفاظ على الحياد.
ومع ذلك، فإنّ هذا الترتيب الفضفاض للكتل لا يجعل حل النزاع أكثر سهولة. فقد أدى تشابك المصالح الإقليمية إلى تفاقم الحرب، ما مكن كلاً من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من مواصلة القتال رغم الهزائم، كما جعل تحقيق السلام شبه مستحيل. ولم يكن من الممكن احتواء النزاع في بدايته بسبب تنافس القوى المختلفة على لعب دور الوسيط.
كما أنّ جهود الوساطة افتقرت إلى مركز ثقل واضح. ففي الأشهر الأولى لاندلاع النزاع، تعاون مسؤولون أميركيون وسعوديون في محاولة للتوسط لتحقيق السلام بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية. وقد أدى هذا المسار إلى تهميش مصر والإمارات، ولم تحقق جولتا المفاوضات في جدة تقدماً يعوّل عليه.
كاد رؤساء الدول في جيبوتي وإثيوبيا وكينيا ينجحون في جمع البرهان وحميدتي للجلوس وجهاً لوجه في كانون الأول/ ديسمبر 2023، لكن من دون دعم الدول العربية الرئيسية، فشلت تلك المبادرة، كما فشلت أيضاً محاولة وساطة قامت بها مصر والإمارات في أوائل عام 2024. أمّا الجهد الأميركي في آب/ أغسطس 2024 لتنظيم محادثات سلام في سويسرا، فقد انهار بعد أن رفضت القوات المسلحة السودانية الحضور بسبب عدم وجود ضغط جماعي كافٍ من حلفائها العرب.
كذلك غيرت الإدارة الثانية للرئيس ترامب استراتيجيتها، وبدأت تركز على توحيد مواقف مصر والسعودية والإمارات بشأن كيفية إنهاء الحرب. وبدأت هذه الجهود في يونيو/حزيران الماضي وقادها مسعد بولس، المستشار الأميركي الخاص لشؤون أفريقيا وهو قريب عائلي للرئيس ترامب. ولكن حتى بعد الإعلان في منتصف الشهر الماضي عن التوصل إلى اتفاق، نأى البرهان بنفسه عن المقترح، بينما صعدت قوات الدعم السريع من هجماتها العسكرية.
ولم تصبح جهود صنع السلام في السودان أكثر تعقيداً فحسب، بل أصبحت أيضاً أقل طموحاً بالضرورة. فكلما زاد عدد الأطراف والمصالح التي يجب مراعاتها، ضاق نطاق التوافق بين جميع مطالبهم. وقد حلت اتفاقات وقف إطلاق النار، التي لا تفعل أكثر من تجميد الوضع القائم، محل اتفاقات السلام الشاملة، مثل اتفاق عام 2005 الذي أنهى الحرب الأهلية السابقة في السودان، لأنّ ذلك هو كل ما يمكن للجميع الاتفاق عليه.
فريق من المتنافسين
بينما تواجه جهود صنع السلام وحتى تحقيق وقف إطلاق النار، صعوبات كبيرة في السودان، تستمر الحرب المدمرة في التصاعد. وما تزال الأسلحة الأحدث والأكثر تطوراً تتدفق إلى البلاد، بما في ذلك الطائرات المسيّرة المتقدمة والمضادات التي تكافحها أيضاً. فعلى سبيل المثال، في شهر أيار/مايو، وبعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية السيطرة على الخرطوم، شنت قوات الدعم السريع هجمات بطائرات مسيّرة بعيدة المدى على مدينة بورتسودان، التي تقع على الضفة الأخرى من البحر الأحمر مقابل مدينة جدة وهو ما يمثل توسعاً دراماتيكياً في نطاق الحرب.
ولقد أدت الحرب بالفعل إلى انهيار مدينة الخرطوم، وهجرت الطبقات المهنية والمتعلمة والمبدعة إلى الشتات. ولا تملك أي قوة خارجية وحدها النفوذ الكافي لإجبار الأطراف المتحاربة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وحتى إذا حقق جهد إدارة ترامب بعض التقدم في الوساطة، فسوف يعتمد ذلك على قرار القوى الإقليمية باختيار السلام بدلاً من الحرب.
ويشير مسار الحرب المتواصل بلا هوادة إلى أن التنافس الإقليمي قد يمتد إلى خارج حدود السودان. فقد حافظت إثيوبيا وإريتريا على سلام هش منذ انتهاء الحرب بين البلدين في عام 2000، إلا أن التوتر بينهما يتزايد باستمرار، ما يثير المخاوف من اندلاع حرب جديدة بين الدولتين. ويمكن أن تكون الحرب الجديدة بين إثيوبيا وإريتريا أكثر دموية حتى من الصراع الدائر في السودان، وقد تندمج بسهولة مع الحرب في السودان نظراً للاستقطاب القائم في المنطقة.
غالباً ما يفترض الكلام عن نشوء عالم متعدد الأقطاب أن نقاط الاشتعال الرئيسية ستنتج عن المنافسة بين القوى الكبرى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة. أمّا فِي الحالة السودانية، فتظهر إمكانية أن تنشأ صراعات يصعب التحكم فيها خارج المجالات الأساسية لنفوذ هذه الدول. وفي منطقة القرن الأفريقي، يبرز العديد من القوى الإقليمية المتوسطة الصاعدة ذات المصالح والنفوذ المختلفة والمتداخلة، وتزداد قدرتها على التفوق على الصين وروسيا، اللتين لا يزال تدخلهما في المنطقة محدوداً.
في شهر آب/ أغسطس الماضي أعلنت قوات الدعم السريع عن تشكيل حكومة سودانية موازية مقرها دارفور. وقد عمق هذا التحرك عملية التقسيم الفعلي للبلاد إلى منطقتين إداريتين منفصلتين، ما خلق عوائق جديدة أمام أي محاولة لإعادة توحيد السودان. وستظل الولايات المتحدة عنصراً لا غنى عنه في الجهود الرامية إلى عكس هذا التقسيم الفعلي، ليس أقلها لأنها لا تزال القوة العظمى الوحيدة المهتمة بذلك.
وقد تتحول كارثة السودان إلى درس قاس، ولكنّه قيّم حول تجاوز الحدود بالنسبة للقوى الإقليمية، ما قد يدفعها إلى تعلم كيفية إدارة تنافسها، ويفضل أن يتم ذلك من دون الاعتماد الكبير على الولايات المتحدة كوسيط. ومع ذلك، يجب ألا يكون احتمال تقليص الدور الأميركي ذريعة للولايات المتحدة للتخلي عن المنطقة.
كذلك يعتبر بعض المسؤولين في واشنطن بأنّ التأثير في عمليات صنع السلام في منطقة القرن الأفريقي أصبح أصعب مما كان عليه في السابق، ولذلك ينبغي للحكومة الأميركية أن تتراجع بشكل كبير. لكن هذا لن يؤدي إلا إلى زيادة حالة عدم الاستقرار، بينما يجب على واشنطن أن تتعلم كيفية التكيف والمساهمة في عمليات الوساطة التي تكون فيها أحد الأطراف الفاعلة، لا الطرف الحاسم الوحيد، وإلا فقد تتكرر الحروب الكارثية مثل تلك التي يشهدها السودان.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.