"فورين أفيرز": لماذا لم تُحقق معاقبة المدنيين في غزّة نجاحاً استراتيجياً؟
لا يمكن التغافل عن عدد القتلى والجرحى وحجم الدمار الهائل في غزّة، وهذا العقاب الجماعي لن يكسر إرادة حماس والفلسطينيين، بل يزيد التماسك الداخلي.
-
"فورين أفيرز": لماذا لم تُحقق معاقبة المدنيين في غزّة نجاحاً استراتيجياً؟
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يقدّم قراءةً تحليلية لحرب غزّة بعد نحو عامين، حجّتها المركزية أنّ استراتيجية معاقبة المدنيين التي تتّبعها "إسرائيل" فاشلة أخلاقيّاً واستراتيجيّاً، وتُفاقم عزلتها، ولا تحقق هدفها الأساسي وهو القضاء على حركة حماس.
ويركز النص على حجم الخسائر البشرية والمادية في غزّة، مشيراً إلى أنّ الحرب على القطاع تعدّ من أسوأ حملات العقاب المدني في العالم استناداً إلى التاريخ. ويرى الكاتب أنّ إيذاء المدنيين يزيد التماسك الداخلي والقابلية للتجنيد بدل كسر الإرادة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
بعد قرابة 700 يوم من الحرب، ارتفعت حصيلة الضحايا في غزة إلى مستويات غير مسبوقة. وفي ظل القصف العنيف الذي حوّل القطاع إلى أنقاض، والحصار الصارم الذي أدى إلى حدوث مجاعة شاملة، لقي أكثر من 61 ألف فلسطيني حتفهم وأصيب أكثر من 145 ألفاً بجروح خطيرة، وفقاً للسلطات الصحية في غزة.
إلا أنّ العدد الحقيقي لضحايا الحرب قد يتجاوز بكثير تلك الأرقام، التي لا تشمل آلاف الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض، وعدداً كبيراً من الشهداء الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى المشارح، والوفيات الناجمة عن تدمير البنية التحتية والأمراض والمجاعة ونقص الرعاية الطبية.
في شباط/فبراير، نشرت مجلة "ذا لانسيت" الطبية تحليلاً موسعاً استند إلى مجموعة واسعة من المصادر (بما في ذلك سجل الوفيات)، وقدرت أنّ العدد الرسمي للشهداء الذي لم يتضمن عدد الضحايا المباشرين في الحرب في غزة بنحو 41% على الأقل، وربما بنحو 107%، في حين لم يأخذ في الاعتبار على الإطلاق الوفيات غير المرتبطة بالصدمات الناجمة عن تأثير العمليات العسكرية الإسرائيلية على الخدمات الصحية في غزة، وإمدادات الغذاء والمياه والصرف الصحي.
باختصار، ذكر مؤلفو الدراسة أنّ الحملة الإسرائيلية تسببت في مقتل 26 ألف فلسطيني على الأقل، وربما ما يصل إلى 120 ألف شهيد إضافي، مع احتمال أن يصل عدد الشهداء الفعلي إلى ما يزيد عن 186 ألفاً. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن حرب "إسرائيل" في غزة، اعتباراً من أواخر تموز/ يوليو 2025، أدت إلى مقتل ما بين 5 - 10% من سكان غزة، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 2.2 مليون نسمة. وهذا يمثل مجزرة غير مسبوقة. وتُعد الحملة الإسرائيلية على غزة الحالة الأكثر فتكاً التي تستخدم فيها الديمقراطية الغربية معاقبة المدنيين كتكتيك حربيّ.
يُصرّ المدافعون عن "إسرائيل" على أن مقتل المدنيين أمر لا مفر منه. لكن يتضح من الإجراءات الإسرائيلية، بما في ذلك استهداف الأطفال بالقناصة والقصف المتواصل للبنية التحتية المدنية والمنازل ومحاصرة المدنيين وتجويعهم، فضلاً عن خطاب الكثير من المسؤولين الإسرائيليين، أنّ حرب "إسرائيل" ليست ضد حماس فحسب، بل تستهدف جميع سكان غزة. وهذا هو أيضاً استنتاج عدد من المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان.
في الواقع، تُعد فكرة إمكانية القضاء على حماس عسكرياً مجرد "خيال"، وفق ما قال يوروم كوهين، المدير السابق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، هذا الأسبوع. وفي ظل استمرار معاناة المدنيين في غزة، أهدرت "إسرائيل" المكانة الأخلاقية الرفيعة من دون تحقيق أي هدف استراتيجي جيد.
في ضوء التاريخ
في كتابي الصادر عام 1996 تحت عنوان "القصف من أجل الفوز" (Bombing to Win)، قمتُ بدراسة كل الحملات العسكرية في القرن العشرين التي استخدمت القوة الجوية بهدف إلحاق الأذى بالمدنيين: وكان مجموعها 40 حملة، بما في ذلك الحرب الأهلية الإسبانية، وحرب فيتنام، وحرب الخليج عام 1991. 5 فقط من أصل 40 حرباً شملت وفيات مدنية تجاوزت نسبة 1% من السكان المدنيين. كما شملت هذه الحروب 4 حملات خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها: غزو اليابان للصين من عام 1937 إلى عام 1945، وغزو ألمانيا لبولندا من عام 1939 إلى عام 1945، وقصف الحلفاء لألمانيا وغزوها من عام 1939 إلى عام 1945، وقصف الولايات المتحدة لليابان وغزوها من عام 1942 إلى عام 1945، والغزو السوفياتي لأفغانستان من عام 1979 إلى عام 1988. من حيث النِسب، يُعدّ هجوم ألمانيا النازية على بولندا الأكثر دموية بين هذه الحملات، إذ أودى بحياة ما يزيد عن 20% من سكان ما قبل الحرب على مدى 6 سنوات.
وحتى حرب غزة، كان يُعد قصف ألمانيا وغزوها برياً في الحرب العالمية الثانية أسوأ حملة عقاب مدني شنتها دولة ديمقراطية غربية والذي أسفر عن مقتل 2-4% من السكان، متجاوزاً بذلك الهجمات النووية الأميركية والغارات بالقنابل الحارقة على اليابان، والتي قتلت نحو 1% من السكان. وتشمل هذه التقديرات من ألمانيا الوفيات الناجمة عن القوات السوفياتية والغربية على حد سواء، فضلاً عن الوفيات المباشرة وغير المباشرة (كما في دراسة "ذا لانسيت" عن غزة).
وسواء تم وصفها بأنها "إبادة جماعية" أم لا، لا يمكن لأي مراقب عاقل أن ينظر إلى حرب "إسرائيل" على غزة ويغفل عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بالفلسطينيين. فإلى جانب الموت الجماعي والمعاناة، فإن حجم الدمار المادي لافت.
ويكشف تحليل الأقمار الاصطناعية الذي أجرته وسائل إعلام مستقلة وموثوقة، مثل مجلة "الإيكونوميست" وصحيفة "فايننشال تايمز"، أنّ ما لا يقل عن 60% من جميع المباني و90% من المنازل في غزة إمّا تعرضت لأضرار بالغة أو دُمرت بالكامل. كما هُدمت جميع جامعات غزة الـ12، و80% من مدارسها ومساجدها، وعدد كبير من الكنائس والمتاحف والمكتبات. ولا يوجد أي مستشفى في غزة يعمل بكامل طاقته، في حين تعمل 20 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى بشكل جزئي.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا المشروع التدميري الهائل، لم تقترب "إسرائيل" من تحقيق هدفها المُعلن المتمثل في القضاء على حماس. إذ لا تزال الحركة تتمتع بجاذبية كبيرة بين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. قد تتضاءل قوتها العسكرية، لكنها قادرة على تعويض النقص في صفوفها بمجندين جدد؛ وقد نجحت، بحسب بعض التقارير، في استقطاب أكثر من 10 آلاف مقاتل جديد منذ بدء الحرب. والوحشية المفرطة التي فرضتها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني لم تسفر عن المكاسب الاستراتيجية التي وعد بها المسؤولون الإسرائيليون.
إن الحُجة الأخلاقية لإيذاء المدنيين دائماً ما تكون موضع شك، حتى عندما يخدم هذا العنف هدفاً استراتيجياً. أما عندما يغيب هذا الهدف الاستراتيجي، فإن الحُجة الأخلاقية تتلاشى تماماً. و"إسرائيل" تجد نفسها اليوم في وضع أخلاقي ضعيف جداً. وبدلاً من إثارة غضب العالم المتزايد، وزيادة الضغوط الاقتصادية، وزيادة احتمال اندلاع أعمال عنف في المستقبل، يتعين عليها أن تعكس مسارها وتسعى إلى إيجاد بدائل لحملتها التي تعتمد القتل الجماعي في غزة.
نهاية الاستراتيجية
على مرّ التاريخ، دأبت الدول على معاقبة المدنيين بقسوة لإجبار المجتمعات المحلية على الانقلاب على حكوماتها والجماعات. لكن حتى العقاب المدني الشديد نادراً ما يحقق هذه الأهداف. وهو غالباً ما يؤدي إلى ما سميتُه "تأثير بيرل هاربر" (Pearl Harbor effect): تنامي دعم المجتمع المدني المُستهدف لحكومته أو للجماعة الإرهابية المحلية.
في حزيران/يونيو 2024، ذكرتُ في مجلة "فورين أفيرز" أنّ حماس أصبحت أقوى مما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بطريقة ما على الأقل. ولا شك في أنّ الهجمات الإسرائيلية قد دمرت قيادة الحركة وقضت على جزء كبير من بنيتها التحتية. إلا أنّه، وفقاً لنتائج استطلاعات الرأي الأكثر موثوقية المتاحة في تلك المرحلة، فإن الدعم الفلسطيني لحماس بقي كما هو أو ارتفع في غزة والضفة الغربية. وبشكل عام، ازدادت قوة حماس وقدرتها على تجنيد مقاتلين جدد لتعويض خسائرها. وفي كانون الثاني/يناير 2025، كشف مسؤولون أميركيون أنّ حماس جنّدت نحو 15 ألف مقاتل جديد منذ بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في عام 2023، وهو ما يزيد على تعويض الخسائر التي راوحت بين 11 ألفاً و13 ألف مقاتل والتي قدرت الاستخبارات الأميركية أنّ المجموعة تكبدتها.
وتجد "إسرائيل" نفسها اليوم في حالة غير مقبولة أخلاقياً. وقد شهدت بداية هذا العام أحداثاً كثيرة، من بينها نهاية وقف إطلاق النار الذي استمر شهرين في آذار/مارس، وتصاعد الحصار الإسرائيلي وتشديد الحصار على دخول المواد الغذائية والإنسانية إلى القطاع، والأزمة الإنسانية التي تؤثر على سكان غزة بالكامل، ونية "إسرائيل" المعلنة للسيطرة على 75% على الأقل من غزة، إلى جانب الاعتبارات العلنية من جانب بعض القادة الإسرائيليين بضرورة طرد جميع الفلسطينيين من القطاع. من جانبها، يبدو أنّ حماس تعمل على تصعيد تكتيكاتها الحربية من خلال نصب الكمائن وزرع المتفجرات التي تستهدف الجنود الإسرائيليين في غزة. ووفقاً لاستطلاعات رأي حديثة، لا تزال حماس تحظى بشعبية واسعة بين الفلسطينيين في كل من غزة والضفة الغربية. والنطاق غير المسبوق للتدخل الإسرائيلي لم يُفند بعد الافتراضات التي بنيت عليها تحليلي الأصلي.
ولا يمكن قياس قوة حماس النسبية بنفس الطريقة التي يُقاس بها التوازن العسكري بين "إسرائيل" ومنافسيها من الدول. ففي الصراعات بين الدول، يُعدّ التوازن العسكري بين الأطراف المتنازعين بالغ الأهمية. وعادةً ما تخوض جيوشها معارك مباشرة واسعة النطاق من أجل الاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها، أو السيطرة على المجال الجوي، أو تأمين الوصول إلى الأراضي المتنازع عليها. ويتم تحديد نجاح هذه العمليات من خلال مؤشرات رئيسة، مثل أعداد المقاتلين ومخزون الأسلحة ومستويات الدعم الاقتصادي. ولو كانت هذه العوامل هي التي تُحدِّد طبيعة القتال بين حماس و"إسرائيل"، لكانت الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد، لأن هذه الأخيرة تتفوق على الحركة بكثير في كل المؤشرات المعتادة للقوة العسكرية. وعليه، فإنّ استمرار الحرب لمدة عامين تقريباً واحتفاظ حماس بسلطة حاكمة كافية في غزة لإخفاء الرهائن الإسرائيليين المتبقين وإلحاق الخسائر في صفوف قوات الأمن الإسرائيلية يشير بقوة إلى أنّ القوة الحقيقية لحماس لا يمكن العثور عليها في المقاييس التقليدية للتوازن العسكري.
بقاء حماس
تكمن القوة البارزة لحماس في قدرتها على استبدال مقاتليها الذين تفقدهم بآخرين جدد. وتُظهر تقديرات القوة القتالية لحماس هذا المنطق. فوفقاً للـ"جيش" الإسرائيلي، بلغ عدد مقاتلي حماس في أوائل عام 2025 ما يصل إلى 23 ألف مقاتل، وهو رقم يُقارب التقدير الإسرائيلي لحجم الحركة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وتستطيع الحركة تجنيد مقاتلين جدد لأنها لا تزال تحظى بالدعم. ويُعدّ استطلاع الرأي العام أفضل طريقة لقياس مدى الدعم الذي تحظى به حماس بين الفلسطينيين. إنّ أفضل استطلاعات الرأي التي أُجريت بين السكان الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية هي تلك التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PSR)، وهو مركز مسح مستقل غير ربحي تأسس في عام 1993 بعد اتفاقيات "أوسلو" ويتعاون مع باحثين ومؤسسات إسرائيلية.
لقد اعتمد تحليلي السابق لشهر حزيران/يونيو 2024 على استطلاعات الرأي العام الفلسطيني لعامي 2023 و2024. وعندما نضيف إلى هذا المزيج استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجريت في أيار/مايو 2025، نتوصل إلى نتيجة مذهلة مفادها أنّ حركة حماس تحظى اليوم بدعم أكبر بين الفلسطينيين مقارنة بما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر. فعلى سبيل المثال، تحظى حماس اليوم بشعبية أكبر بكثير من منافستها السياسية الرئيسة، حركة فتح التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تُهيمن على السلطة الفلسطينية. في أيلول/سبتمبر 2023، كانت فتح متقدمة على حماس بـ4 نقاط (26% مقابل 22%). وفي استطلاعات الرأي التي أُجريت في أيار/مايو 2025، أصبحت حماس متقدمة على فتح بـ11 نقطة (32% مقابل 21%).
ويتّضح التحوّل نحو حماس بشكل خاص في الضفة الغربية، حيث تضاعف دعم الحركة. وارتفعت هناك نسبة التأييد للهجمات المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين وهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، من 48% في حزيران/يونيو 2023 إلى 59% في أيار/مايو 2025.
وفي غزة، بقي دعم حماس ثابتاً، على الرغم من المعاناة الهائلة التي لحقت بالقطاع في أعقاب الهجوم الذي شنّته الحركة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. في أيلول/سبتمبر 2023، تفوقت حماس على فتح في غزة بفارق 13 نقطة (38% مقابل 25%)، وفي أيار/مايو 2025، كانت النسبتان متقاربتين، بحيث تفوقت حماس على فتح بـ12 نقطة (37% مقابل 25%).
وتشير استطلاعات الرأي إلى أنّ "إسرائيل" لم تنجح في قطع الروابط بين سكان غزة وحماس. فدعم حماس لم يتراجع، بل زاد أو بقي على حاله. كما أنّ استعداد الفلسطينيين لمهاجمة المدنيين الإسرائيليين يظل مرتفعاً بما يكفي لتلبية احتياجات حماس التجنيدية، على الرغم من حملة العقاب الأكثر وحشية في التاريخ التي يشنها نظام ديمقراطي غربي. وبالنسبة لأمن "إسرائيل"، فإن الواقع المأسوي يتمثل في أنّ حماس قد تحتفظ بالأصل الرئيس الذي قد يسمح لها بتنفيذ هجوم كبير آخر في المستقبل، وهو الأعداد الهائلة من المقاتلين المستعدين للقتال والموت من أجل القضية.
قد تكون شعبية حماس الراسخة عاملاً في اتساع رقعة العنف خارج غزة. فمع تصعيد القوات الإسرائيلية عمليات المداهمة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ومهاجمة المستوطنين للفلسطينيين في الضفة الغربية، تحوّلت المنطقة اليوم إلى برميل بارود. يعيش في الضفة الغربية 2.7 مليون فلسطيني و670 ألف مستوطن إسرائيلي على مقربة بعضهم من بعض. ومن المرجح أن تؤدي الخطط الإسرائيلية الأخيرة إلى توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والخطاب الصادر عن شخصيات يمينية متطرفة تدعو إلى ضمها، إلى مفاقمة هذه الأزمة المحتملة.
إن نية "إسرائيل" المعلنة للسيطرة على 75% على الأقل من قطاع غزة، ثم حصر سكانها في جزء صغير من الأرض، لن تنجح في فصل السكان عن حماس. فبينما يُدفع الفلسطينيون إلى ركن صغير من القطاع، ستتحرك حماس معهم. ومن غير المرجح أن تنجح هذه الخطة في هزيمة حماس أكثر من عمليات نقل السكان السابقة التي أجبرت الناس على الانتقال من منطقة إلى أخرى داخل غزة. وستتسبب هذه الإجراءات الإسرائيلية في مزيد من المعاناة للمدنيين، وستُنتج المزيد من المقاومين. ويمكن لـ"إسرائيل" أن تذهب أبعد من ذلك، فتطرد سكان غزة إلى صحراء سيناء، إلا أنّ مثل هذا الإجراء الجذري من شأنه أن يُؤجج احتمال وقوع أعمال عنف انتقامية مستقبلية تستهدف الإسرائيليين. وما يضرّ الأمن الإسرائيلي أكثر على المدى الطويل هو أنّ طرد سكان غزة من القطاع من شأنه أن يترك "إسرائيل" عرضة لاتهامات بالتورط في التطهير العرقي، ما يقوض أي قضية أخلاقية لدعم البلاد.
إنّ العمليات العسكرية التي ينتج عنها، عمداً أو عن غير قصد، مستويات تاريخية من الوفيات بين المدنيين تؤدي في نهاية المطاف إلى وضع أكثر خطورة بالنسبة لـ"إسرائيل"، ما يجعلها موطناً أقل جاذبية لليهود وهدفاً أكثر احتمالاً لأولئك الذين يسعون إلى الانتقام. وبدلاً من ذلك، يتعين على "إسرائيل" إنشاء محيط أمنيّ جديد بين المراكز السكانية المدنية الإسرائيلية وبين الفلسطينيين في غزة، ما يوفر لسكان غزة المساحة الكافية لإعادة بناء حياتهم، ويسمح للمساعدات الإنسانية والاقتصادية بالتدفق إلى القطاع من دون أي عوائق، والعمل مع الحلفاء الدوليين لتعزيز الترتيبات السياسية البديلة لسيطرة حماس أو "إسرائيل" في غزة.
التكاليف الاستراتيجية للتصرفات غير الأخلاقية
منذ نشأة "إسرائيل" عام 1948، كان الدعم الدولي للبلاد يعتمد إلى حد كبير على الاعتراف بأن اليهود كانوا ضحايا أسوأ إبادة جماعية في التاريخ. إلا أنّ الحرب في غزة شهدت موجةً متزايدةً من الإدانات لـ"إسرائيل" لارتكابها أذىً متعمداً للمدنيين، وأعمالاً وحشية جماعية، بل وحتى إبادة جماعية. كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال تلزم نحو 125 دولة، بما في ذلك فرنسا والمملكة المتحدة، باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزراء آخرين في الحكومة الإسرائيلية. وحتى في الداخل الإسرائيلي، تعلو أصوات بارزة داعية إلى تصحيح المسار؛ فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت أنّ تصرفات "إسرائيل" في غزة ترقى إلى "جريمة حرب"، قائلاً إن "ما نقوم به في غزة اليوم هو حرب تدمير: القتل العشوائي وغير المحدود والوحشي والإجرامي للمدنيين". وبينما تتحول "إسرائيل" إلى "دولة" منبوذة على المستوى الدولي وتواجه مقاومة متزايدة لحكمها في غزة، فإن النطاق التاريخي للعقوبات التي تفرضها على المدنيين لا يؤدي إلا إلى تعريض أمن البلاد على المدى الطويل للخطر.
وقد بدأ عدد من الدول الغربية بالفعل في اتخاذ خطوات لمعاقبة "إسرائيل"، بما في ذلك الانضمام إلى معظم بقية دول العالم في الاعتراف رسمياً بدولة فلسطينية، وهي الخطوة التي قد تؤدي إلى تدخل إنساني واسع النطاق في غزة وفرض عقوبات اقتصادية على "إسرائيل". ومن المرجح ألا تتبع الولايات المتحدة هذا المسار، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب متقلب المزاج. وقد سبق أن عارض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأصرّ على ضرورة إنهاء المجاعة في غزة. إضافة إلى ذلك، تتسع الخلافات داخل قاعدة ترامب بشأن "إسرائيل". فقد أعلنت النائبة الأميركية مارجوري تايلور غرين، وهي جمهورية يمينية متشددة بارزة، أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية في غزة، مستعيرةً خطاباً يُسمع غالباً لدى اليسار. وقد ينشأ تحالف تكتيكي في الولايات المتحدة بين عناصر من اليمين المتطرف وعناصر من اليسار المتطرف يسعون إلى تقليص الدعم الأميركي للكيان.
وتخضع علاقات "إسرائيل" بالدول للاختبار ويشوبها التوتر في ظل مواصلتها شن أسوأ حملة عقاب مدني على الإطلاق من جانب أي دولة ديمقراطية غربية، وهي الحملة التي لم تقترب حتى من القضاء على حماس، بل منحت "إسرائيل" المزيد من الخصوم وتركتها أكثر عزلة. وبالتالي، يتعين على القادة الإسرائيليين أن يقرروا إذا ما كانت تصرفاتهم غير الأخلاقية المستمرة في غزة تستحق بالفعل التكاليف التي سيتحملونها في المستقبل.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.