"فورين بوليسي": كيف يتورط المستهلك في أكثر الصراعات دموية في أفريقيا؟
من المشروبات الغازية إلى الرياضة، يتورط المستهلكون العالميون في أكثر الصراعات دموية في أفريقيا، لكن ما يجري بدأ يفتح آفاقاً للتغيير.
-
يواجه السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية أكبر أزمة إنسانية وحقوقية في العالم.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول الأزمات الإنسانية العميقة في السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكيف ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بالمستهلكين في العالم من خلال السلع اليومية والرياضة العالمية، رغم أن الإعلام والسياسة الدولية غالباً ما يهمشان هذه القضايا.
النص يربط بين المأساة المحلية في أفريقيا والمنظومة العالمية للاستهلاك والرياضة والاقتصاد، مبرزاً أن هذه الأزمات ليست "شأناً أفريقياً بحتاً"، بل هي انعكاس لسياسات جشعة وتواطؤ دولي. كما يُظهر كيف تُستخدم الرياضة وسيلة لغسل السمعة، فيما يواجه ملايين البشر الموت والنزوح بسبب الأطراف الراعية نفسها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
يواجه السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، من حيث الحجم والنطاق، أكبر أزمة إنسانية وحقوقية في العالم. الأرقام مُذهلة. في السودان، نزح أكثر من 12 مليون شخص، ويحتاج 30 مليوناً منهم بشدة إلى مساعدات غذائية وطبية. في الكونغو، أُجبر ما يقارب 8 ملايين شخص على مغادرة منازلهم، فيما يواجه 28 مليوناً انعداماً حاداً في الأمن الغذائي.
أدى اعتياد المشهد وما نتج منه من تراجع التعاطف والأخبار المُسيّسة للغاية وعوامل أخرى إلى إبعاد هذين الصراعين إلى حد كبير عن رادار العالم، لكن سواء أدركوا ذلك أم لا، لا يزال المستهلكون العالميون مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالسودان والكونغو.
إضافة إلى مجموعة من المنتجات اليومية، ترتبط بعض أشهر الفرق والدوريات الرياضية في العالم بهذه الصراعات؛ فقد أبرمت الإمارات العربية المتحدة ورواندا، المساهمتان الخارجيتان الرئيستان في الدمار الإنساني في السودان والكونغو، صفقات مع فرق الرابطة الوطنية لكرة السلة الأميركية (NBA) والدوري الإنكليزي الممتاز، على سبيل المثال لا الحصر.
لكن هذا أيضاً يُتيح للناس العاديين فرصة للرد، فقد أثمر ضغط المشجعين، رداً على هذه الترتيبات لتبييض صورة الرياضة، أول انتصار له في وقت سابق من هذا الشهر، إذ أعلن بايرن ميونيخ عن تغييرات في اتفاقية الرعاية مع رواندا. والآن، أصبح هذا المسرح تحديداً مُهيأً لمزيد من الإجراءات.
إلى ذلك، وبعيداً عن الرياضة، فإن قائمة المنتجات التي نستهلكها، والتي تحتوي على مكونات من الكونغو أو السودان لا حصر لها. من السودان، تشمل هذه المنتجات المشروبات الغازية، ومشروبات الطاقة، والبسكويت، والكعك، والمارشميلو، والحلوى، والألوان المائية، والأدوية، وأحمر الشفاه، وملمع الأحذية، والبخور، والطوابع البريدية، والصحف. ومن الكونغو، تشمل القائمة المنتجات الإلكترونية (مثل الهواتف وأجهزة الكمبيوتر المحمولة)، وعلب الصفيح، والعملات المعدنية، ومحركات الطائرات، والكاميرات، والغرسات الطبية، وأي شيء يحتوي على بطارية قابلة لإعادة الشحن، بما في ذلك السيارات الكهربائية والهجينة.
وفي السودان، تُركز وسائل الإعلام على النفط والذهب، اللذين أججا الصراعات لعقود، ولكن هناك مادة خام أخرى شائعة الاستخدام تربط هذا البلد ارتباطاً فريداً بالمستهلكين العالميين: الصمغ العربي. إنها مادة طبيعية تُحصد من أشجار الأكاسيا، وتُستخدم لخلط وتكثيف مكونات كثير من المنتجات المذكورة أعلاه.
وأصبح السودان أكبر مُصدّر للصمغ العربي في العالم بفضل بساتينه الشاسعة، إذ يُنتج 80% من إمدادات العالم. ومع ذلك، يُهرَّب معظم الصمغ العربي السوداني الآن من المناطق التي يسيطر عليها المتمردون من قِبل جماعة شبه عسكرية ترتكب إبادة جماعية، تُدعى قوات الدعم السريع، ما يُفاقم الصراع (صرحت الجمعية الدولية للترويج للصمغ (AIPG)، وهي جماعة ضغط تُمثل قطاع صناعة الصمغ، في بيان لها في يناير/كانون الثاني، أنها "لا ترى أي دليل على وجود روابط بين سلسلة توريد الصمغ العربي والقوات السودانية المُتنافسة").
وفي الكونغو، تبدو الروابط أعمق وأقدم، فقد بدأ تاريخ الاستغلال بغزوات العبيد بعد وقت قصير من وصول الأوروبيين إلى شواطئ أفريقيا، واستمر مع العاج والمطاط خلال الحقبة الاستعمارية، ثم النحاس واليورانيوم خلال القرن العشرين. وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، ازداد الطلب بشكل كبير على الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وأجهزة ألعاب الفيديو. أدى ذلك إلى ارتفاع هائل في أسعار المعادن الثلاثة: القصدير والتنتالوم والتنغستن التي تُشغّل معظم المنتجات الإلكترونية. وتقع بعض أكبر رواسب هذه المعادن الثلاثة في العالم في الكونغو.
أدى هذا المصدر الجديد للطلب الاستهلاكي إلى دورة أخرى من النهب العنيف في الكونغو. وكانت النتيجة واحدة من أعنف الحروب على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية، والتي استمرت رسمياً من عام 1998 إلى عام 2003، لكن آثارها المتتالية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
هذه المرة، قادت رواندا وأوغندا النهب، فيما استفادت الشركات متعددة الجنسيات. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 5 ملايين شخص لقوا حتفهم نتيجة ذلك. وليس غزو رواندا الأخير لشرق الكونغو خلال العام الماضي سوى أحدث فصل في جنون التنقيب عن المواد الخام الذي استمر قروناً. وينتشر آلاف الجنود التابعين لرواندا وأوغندا في الكونغو، ويُقال إنهم يركزون على نهب الثروات الطبيعية وكميات من الذهب تُقدر بمليارات الدولارات.
واليوم، تعمل التقنيات الخضراء على تأجيج الطلب العالمي على الكوبالت والنحاس، وهما مكونان رئيسان في بطاريات الليثيوم أيون، ما يثير مخاوف جديدة بشأن الفساد الهائل والسلامة وعمل الأطفال في مناجم الكونغو الشاسعة. وتنتج البلاد أكثر من 70% من الكوبالت في العالم، ويستخرج الأطفال الكونغوليون جزءاً كبيراً من هذا الإنتاج بأيديهم. وأصبحت الصين لاعباً رئيساً في حفلة الجنون هذه في وقت تحاول الولايات المتحدة اللحاق بها، إذ تتفاوض إدارة ترامب على سلسلة من اتفاقيات المعادن والسلام مع النظامين في الكونغو ورواندا.
في الحقيقة، لا يمكن للصراعات الدائرة اليوم في السودان والكونغو أن تكون بهذا القدر من الدمار أو الاستمرارية لولا الحكومتين الرئيسيتن اللتين تُؤججانها وتستفيدان منها. في حالة السودان، تُؤججها الإمارات العربية المتحدة. وفي الكونغو، تُؤججها كلٌّ من الإمارات ورواندا.
وتُعدّ الإمارات العربية المتحدة أكبر مستورد لذهب الصراع من السودان والكونغو، بمليارات الدولارات سنوياً. وتُصدّر رواندا كميات هائلة من معادن الصراع المُهرّبة من الكونغو إلى الأسواق العالمية (نفت الإمارات العربية المتحدة مزاعم دعمها لقوات الدعم السريع، وكذلك استيرادها ذهب الصراع من السودان والكونغو، ونفت رواندا أي تورط لها في تهريب المعادن من الكونغو، وتنفي بالمثل وجود قوات لها في الكونغو).
إذا واجهت رواندا والإمارات العربية المتحدة ضغوطاً مُستمرة، فقد تُعيدان النظر في مدى وطبيعة مشاركتهما في حروب أفريقيا. ومع ذلك، حتى الآن، تُشارك هاتان الحكومتان في جهود بارزة، وغالباً ما تكون ناجحة، لتلميع سمعتهما في الساحة الدولية.
بالنسبة إلى كلا البلدين، غالباً ما وضعت هذه الجهود الرياضات الدولية في صدارة الاهتمام. إنها ظاهرة تُسمى أحياناً "تبييض الرياضة"، إذ تستغل الدول مشاركتها في الأحداث الرياضية أو استضافتها لتلميع سمعتها. لنأخذ على سبيل المثال استضافة بينيتو موسوليني لكأس العالم عام 1934 في إيطاليا، واستضافة أدولف هتلر للألعاب الأولمبية الصيفية عام 1936 في ألمانيا.
أما رئيس رواندا، بول كاغامي، صاحب الرؤية الثاقبة، فيُحب كرة السلة وكرة القدم الأميركية. لذلك، سعى لإقامة شراكات مع دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين (NBA) في الولايات المتحدة وفرق كرة قدم في جميع أنحاء أوروبا. وتُشارك رواندا في رعاية واستضافة دوري جديد مملوك لدوري كرة السلة الأميركي للمحترفين في أفريقيا، وهو دوري كرة السلة الأفريقي، الذي يُقام بعض مبارياته الفاصلة في صالة جديدة بتكلفة 100 مليون دولار في عاصمة رواندا (عندما طُلب منه التعليق، صرّح مارك باس، المتحدث باسم دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين، لمجلة فورين بوليسي: "نعتقد أن المشاركة من خلال الرياضة أمر إيجابي، وسنواصل اتباع توجيهات وسياسات الحكومة الأميركية في ما يتعلق بأكثر من 200 دولة ومنطقة في العالم، حيث نُشرك الجماهير").
وفي ما يتعلق بكرة القدم، لدى رواندا شراكات مع أرسنال وبايرن ميونيخ وأتلتيكو مدريد وباريس سان جيرمان (لم يستجب أي منها لطلباتنا بالتعليق). تتضمن النتائج عبارة "زُر رواندا" مطبوعة على أكمام قمصان الفرق، فيما يُشرف آلاف الجنود الروانديين على عمليات نهب واسعة للموارد وانتهاكات حقوق الإنسان في الكونغو.
وتُعدّ الإمارات العربية المتحدة لاعباً أكبر بكثير في عالم تبييض الرياضة، فلدى الإماراتيين صفقات في سباقات "الفورمولا 1" والغولف والتنس وسباق الخيل والمصارعة وغيرها من الرياضات. ومثل رواندا، يبدو أن القادة الإماراتيين استثمروا بكثافة في دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين (NBA) وكرة القدم. وتتكفل الإمارات بتغطية بطولة ضمن الموسم تُسمى كأس الإمارات لكرة السلة. ويبدو أن صفقة بيع فريق لوس أنجلوس ليكرز مؤخراً مقابل 10 مليارات دولار، وهي الأكبر في تاريخ فرق الرياضات الاحترافية، تمت بهدوء بأموال إماراتية.
وفي كرة القدم، تتجلى الاستثمارات الإماراتية بشكل أوضح؛ فالشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة والشقيق الأصغر لرئيس الدولة، يملك فريق مانشستر سيتي، من بين أندية أوروبية أخرى، وقد أبرم صفقات استثمارية كبرى مثل رعاية قمصان الفريق وحقوق تسمية الملاعب نيابةً عن دولة الإمارات العربية المتحدة مع فرق مثل أرسنال وريال مدريد (ولم يستجب أيٌّ منهما لطلبات التعليق). وتُعد مجموعته الاستثمارية الرياضية المالك الرئيس لفريق كرة قدم في مدينة نيويورك، والذي سيبني ملعباً بقيمة 780 مليون دولار في كوينز، مقابل ملعب سيتي فيلد، ملعب فريق نيويورك ميتس للبيسبول. وفي الوقت نفسه، يُزعم أن الشيخ هو المسؤول الرئيس عن علاقة حكومته بميليشيا ترتكب عمليات تطهير عرقي واغتصاب جماعي في السودان.
في مواجهة هذه المعطيات، ما الذي يمكن أن يقوم به المستهلكون العاديون وعشاق الرياضة؟
في ما يتعلق برواندا، أطلق مشجعو أرسنال في المملكة المتحدة حملة "غانرز فو بيس" لإنهاء اتفاقية أرسنال مع رواندا. كما أطلقوا حملة جريئة تقول ببساطة إن من الأفضل زيارة أي مكان في العالم بدلاً من رواندا، حتى حي توتنهام شمال لندن، موطن غريم أرسنال المكروه، توتنهام هوتسبير. ونشر الناشطون مقطع فيديو بعنوان "زيارة توتنهام" يعرض لقطات كئيبة لتوتنهام، كوسيلة للسخرية من شعار "زيارة رواندا" الموجود على زي أرسنال.
كما أجرت رابطة مشجعي أرسنال استطلاعاً لأعضائها حول ما إذا كانوا يريدون استمرار العلاقة بين رواندا وأرسنال، ووجدت أن 90% من المشاركين يريدون إنهاء العقد "في أقرب وقت ممكن أو عند انتهاء العقد الحالي عام 2026".
وظهر أول صدع في الدرع مطلع أغسطس/آب عندما أعلن بايرن ميونيخ أنه سيُقلل من شعاره "زوروا رواندا" ويستبدل اتفاقية الرعاية باتفاقية تُركز على دعم تطوير لاعبي كرة القدم الروانديين الشباب. وإلى جانب الضجة المُثارة حول احتمال انسحاب أرسنال من رعايته، من المتوقع أن يُعزز هذا جهود مكافحة تبييض صورة الرياضة في أوروبا والولايات المتحدة.
ولا يزال تنظيم المجتمع المدني حول صلات الإمارات العربية المتحدة بالفظائع الجماعية في مراحله الأولى. وتُدين حملة "تحدثوا عن السودان"، وهي حملة غير حكومية تُنسقها منظمة اللاجئين الدولية غير الربحية، تواطؤ الإمارات العربية المتحدة في الفظائع السودانية. وعلى غرار حركة مناهضة الفصل العنصري، وحملات الماس الدموي والمعادن المتفجرة، وجهود "أنقذوا دارفور"، سيعمل الناشطون على مدار السنوات القادمة على التأثير في حسابات الإمارات تجاه هذه الدول التي مزقتها الصراعات.
إذاً، مشكلات الكونغو والسودان ليست مجرد مشكلات كونغولية وسودانية، بل هي أيضاً مشكلات عالمية تتطلب حلولاً عالمية. لطالما لُطخت أيدي السودان والكونغو بالدماء بسبب الجشع الهائل العابر للحدود والجامح وغير المُقيّد. إن إدراك كيفية تأثير هذا علينا جميعاً في الطعام الذي نتناوله والمنتجات الإلكترونية التي نستخدمها والرياضات التي نشاهدها هو الخطوة الأولى نحو محاربته.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.