"فورين بوليسي": لا يمكن الوثوق بأميركا
التقلّبات، وعدم اليقين، واستقلالية البنتاغون في التعامل مع مساعدات الأسلحة، تضع أوكرانيا وحلفاءها الأوروبيين في موقف حرج.
-
ترامب وزيلينسكي
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول التحوّل في سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا وحلفائها في عهد الرئيس دونالد ترامب، وتأثيراته الواسعة على ثقة الحلفاء في واشنطن.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في 25 حزيران/يونيو، عقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب اجتماعاً مع نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، خلال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لاهاي. وبدا أنّ اللقاء سار على ما يرام. وفي وقت لاحق، أشار زيلينسكي إلى أنه طلب المساعدة في التصدّي للهجمات الجوية الروسية المكثّفة على المدنيين الأوكرانيين. وقال إنّ "أوكرانيا مستعدة لشراء هذه المعدات ودعم الشركات المُصنّعة للأسلحة الأميركية". وأبدى ترامب انفتاحه قائلاً: "إنهم يريدون الحصول على صواريخ مضادة للصواريخ، المعروفة بصواريخ "باتريوت"، وسنرى إن كان بإمكاننا توفير بعضها".
وفي الأول من تموز/يوليو، صدم البنتاغون أوكرانيا وحلفاء الولايات المتحدة عندما أعلن أنه سيوقف جميع شحنات صواريخ "باتريوت إلى أوكرانيا، بالإضافة إلى صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات والقذائف المدفعية وصواريخ "سبارو" جو-جو من النوع الذي تستخدمه مقاتلات "أف-16". وقد سبق أن تمّ تسليم عدد كبير من هذه الأسلحة إلى مستودعات في بولندا، في انتظار نقلها عبر الحدود. وهذا ما عدّه ترامب تطمينات.
وفي تغيير مفاجئ آخر، أشار ترامب أمس إلى إمكانية إرسال بعض الأسلحة الدفاعية. فهل يمكن لأوكرانيا الوثوق بكلامه؟ إذ وفقاً لتقارير إعلامية، بدا ترامب جاهلاً بقرار البنتاغون القاضي بوقف المساعدات. فمن يُدير السياسة الأميركية تجاه روسيا وأوكرانيا تحديداً؟
لقد جاء قرار واشنطن الأخير بتجميد الأسلحة في مرحلة حرجة. إذ تعمل روسيا على تصعيد غاراتها الجوية على المدن الأوكرانية بشكل مطرد، ما أسفر عن مقتل ما يقدّر بنحو 1000 مدنيّ أوكرانيّ منذ كانون الثاني/يناير. وفي 4 تموز/ يوليو، وبعد وقت قصير من مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين، شنّت روسيا أكبر هجوم جويّ لها منذ بداية الحرب، حيث أرسلت مئات الطائرات المُسيّرة والصواريخ إلى المدن الأوكرانية في موجة من الهجمات استمرت 8 ساعات. وقال ترامب إنه يشعر "بخيبة أمل كبيرة" إزاء تصرّفات بوتين، وربما أدّت هذه التصرّفات دوراً في الانقلاب الذي حدث أمس. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما ستتضمّنه عمليات التسليم ومتى ستبدأ. وحتى ذلك الحين، سيموت المزيد من الأشخاص نتيجةً لقرار التجميد هذا.
إنّ التوقّف المستمر للمساعدات من جانب واشنطن يتجاهل كلّ ما تبذله كييف من جهود لاسترضاء ترامب. وتحت ضغط ابتزاز البيت الأبيض، وقّع الأوكرانيون على صفقة تمنح الولايات المتحدة حقوقاً واسعة لاستغلال الثروات المعدنية الأوكرانية. لقد وافقت كييف على اتفاق وقف إطلاق النار الذي اقترحته واشنطن، والذي تجاهله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل واضح. إلّا أنّ كلّ ذلك لم يُجدِ نفعاً. وقد تمالك المسؤولون الأوكرانيون أنفسهم بينما كان ترامب ومبعوثه، ستيف ويتكوف، يُكرّران حجج الكرملين ويشيدان بشخصية بوتين. ومؤخّراً، اعترف ويتكوف قائلاً: "أنا لا أعتبر بوتين شخصاً سيئاً".
لقد كان السبب الرسمي لتجميد الأسلحة هو قلق البنتاغون المزعوم من نفاد إمدادات الأسلحة الأساسية. وقد وصف السيناتور ريتشارد بلومنثال، عضو لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، هذه الحجة بأنها "مضللة، وربما خادعة". ويبدو أنّ شكوكه تأكّدت بعد أن بثّت شبكة "أن بي سي نيوز" تقريراً يفيد بأنّ مراجعة داخلية أجراها البنتاغون خلُصت إلى أنّ توفير الأسلحة لأوكرانيا لن يؤثّر على جاهزية الجيش الأميركي.
بالإضافة إلى ذلك، شكّك جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، في هذا العذر، معتبراً أنّ هناك سبلاً للحفاظ على المساعدات المُرسلة إلى أوكرانيا من دون المساس بجاهزيته. وكتب: "قد لا ترغب الإدارة في قول ذلك، لكن يبدو أنّ الرئيس يقوم يتقليص المساعدات الأمنية الأميركية لأوكرانيا". وتشير الظروف الأعمّ إلى أنّ سوليفان قد يكون على حقّ. ففي 3 تموز/يوليو، أعلن 3 أعضاء ديمقراطيين في مجلس الشيوخ عن إجراء تحقيق في أسباب رفض الإدارة الواضح تطبيق عقوبات جديدة على موسكو. ولا يزال ترامب غير راغب في زيادة الضغط على الروس. بل على العكس من ذلك، علّقت واشنطن مؤخّراً بعض العقوبات المفروضة على موسكو منذ عام 2022، تماماً كما كان بوتين يُطالب ترامب.
لهذه القصة تداعيات تتجاوز أوكرانيا بكثير. فحلفاء الناتو الأوروبيون، الذين بذلوا جهوداً حثيثة لكسب ودّ ترامب خلال القمة، لا يسعهم إلّا أن يلاحظوا استعداده للتراجع عن وعوده وترك شركائه المزعومين في موقف حرج. وقد رأوا مثالاً صادماً بالقدر نفسه في شهر آذار/مارس، عندما أوقفت الإدارة بشكل مُفاجئ تدفّق المعلومات الاستخباراتية المطلوبة بشكل عاجل إلى كييف ــ في نوبة غضب واضحة بعد الاجتماع الكارثي في البيت الأبيض الذي هاجم فيه ترامب وحاشيته زيلينسكي بسبب جحوده المزعوم ولعدم ارتدائه بدلة رسمية. كما دأب ترامب على التشكيك في المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، وهي بند الدفاع المشترك للحلف، وكان آخرها قُبيل القمة، ما أدّى إلى تقويض أسس وجود المنظمة. فإذا لم تكن تثق في استعداد حليفك للدفاع عنك - أو إذا كان هذا القرار قابلاً للموافقة يوم الاثنين وللرفض يوم الثلاثاء - فهذا يعني أنه ليس لديك أيّ تحالف.
في ظلّ الوضع الراهن، تنتهز الولايات المتحدة كلّ فرصة لإثبات عدم موثوقيّتها. وقد استوعب شركاؤها الأوفياء درساً مفاده أنّ وعود الدعم باتت الآن مشروطة ومتقلّبة، بل وفي بعض الحالات زائلة. أما كندا، الصديقة المخلصة منذ 100 عام، فتجد نفسها اليوم في مواجهة تصريحات البيت الأبيض العدوانية التي تشكّك في وجودها كدولة مستقلة. والدنمارك، التي وقفت إلى جانب الولايات المتحدة طيلة ما يُسمّى بالحرب العالمية على الإرهاب، مُضطرةٌ لمواجهة رئيسٍ أميركيّ ألمح إلى احتمال إرسال جنوده لغزو غرينلاند في حال لم تُسلّمها كوبنهاغن. إنه لأمرٌ غريب أن تكون عضواً في تحالفٍ دفاعيّ مع دولةٍ ألمحَت إلى أنها قد تُهاجمك.
لقد تنفّس قادة الناتو الصعداء بعد انتهاء قمتهم في حزيران/يونيو من دون أيّ فضائح كبرى. لكنهم فعلوا ذلك على حساب تخفيض مرتبة أوكرانيا في القائمة الرسمية لأولويات الحلف. وكما أشار توري توسيغ، الباحث البارز في المجلس الأطلسي، فإنّ الاجتماع لم يتناول الشكوك المتزايدة حول مدى التزام واشنطن بأمن أوروبا، وكتب: "إن وصول ترامب للمرة الثانية إلى البيت الأبيض قد دشّن حقبة جديدة من العلاقات عبر الأطلسي، بحيث لم يعد الأوروبيون قادرين على الوثوق بالولايات المتحدة أو الاعتماد عليها بشكل كامل".
وليس الأوروبيون وحدهم. فقد عزَت بعض المصادر قرار تجميد المساعدات إلى وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية، إلبريدج كولبي، المعروف بدعوته إلى تركيز الجهود الدفاعية الأميركية على الصين وتقليص الجهود المبذولة لمساعدة أوكرانيا أو إلغائها. فقبل بضعة أسابيع فقط، أطلق كولبي "مراجعة" مشؤومة لاتفاقية "AUKUS"، وهي اتفاقية تاريخية أبرمتها إدارة بايدن مع لندن وكانبيرا لمساعدة الأستراليين في الحصول على أسطولهم الخاص من الغوّاصات التي تعمل بالطاقة النووية، بما في ذلك من خلال استثمار مليارات الدولارات في أحواض بناء السفن الأميركية. وقد طعن كولبي علناً في الصفقة، طارحاً تساؤلات حول قرار بيع 3 غوّاصات من طراز "فرجينيا" للبحرية الأسترالية بشكل خاصّ. وقالت السيناتور الأميركية جين شاهين، العضو الديمقراطي البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إنّ تقويض الشراكة "سيُشوّه سمعة الولايات المتحدة أكثر، ويثير المزيد من التساؤلات بين أقرب شركائنا الدفاعيين حول موثوقيتنا". وأضافت أنّ مراجعة كولبي "ستُقابل بالترحاب في بكين".
ليس مستغرباً أن ينتهي المطاف بشخصٍ مثل كولبي يُوصف بأنه "صقر الصين" في مثل هذا الموقف كما قد يبدو. فقد أعادت إدارة ترامب الثانية تعريف معنى أن تكون حليفاً للولايات المتحدة بشكل جذري: من الآن فصاعداً، احتياجات واشنطن تأتي في المقام الأول. وأصدقاؤها موجودون لتلبية احتياجاتها. وفي حال لم يرتقوا إلى مستوى التوقّعات، فسيتمّ استبعادهم وتجاهل الوعود أو الاتفاقيات السابقة بشكل تامّ.
لم تكن علاقات واشنطن بشركائها الأمنيين في الخارج بسيطة أو خطية على الإطلاق؛ ولا يحتاج المرء إلا إلى تذكّر حرب العراق، عندما جرّت إدارة جورج دبليو بوش حلف شمال الأطلسي وحلفاء آخرين إلى حرب اختيارية استندت إلى معلومات استخباراتية مُسيّسة. إلا أنّه من الصعب التفكير بإدارة سابقة تعاملت مع أصدقائها المفترضين بمثل هذا القدر من الإهمال والازدراء مثل هذه الإدارة.
في أعقاب تجميد شحنات الأسلحة، نشر خبير السياسة الخارجية الأوكراني، أوليكساندر كرايف، تعليقاً على "فيسبوك" يُجسّد ببراعة النظام الجديد. وأشار إلى أنّ أوكرانيا عملت بجدٍّ لفعل "كلّ ما طلبه الأميركيون"؛ إلا أن التحوّل المفاجئ الأخير لواشنطن أفقدها صوابها. وكتب: "يبدو أنّ هذا درسٌ قيّمٌ للغاية لكلّ من تايوان وإسرائيل وأوروبا، ولكلّ من يعتبر ترامب شريكاً وصديقاً له. إنه درسٌ مُعبّرٌ للغاية". وفي الحقيقة، من الصعب الاختلاف مع هذا الرأي.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.