إرث البابا فرنسيس: جذرية التواضع ودبلوماسية التسامح بين الأديان
بعد جهود مماثلة للتواصل مع السنّة، تجاوز لقاء البابا في عام 2021 مع المرجع الشيعي الأعلى آية الله السيد علي السيستاني الحدود وعزّز التعايش المشترك.
-
البابا فرنسيس يلتقي بالسيد علي السيستاني عام 2021
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً تناول إرث البابا فرنسيس في مجال الحوار بين الأديان، خصوصاً بين المسيحية والإسلام، بمذهبيه السني والشيعي، مع التركيز على زيارته التاريخية إلى العراق ولقائه مع آية الله العظمى علي السيستاني في النجف عام 2021.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
سيكون أحد أروع التكريمات للبابا فرانسيس المتوفّى منذ أيّام، هو التقدير لإرثه في الدبلوماسية بين الأديان، ورؤيته المتجذّرة في تواضعه وتعاطفه والتزامه بسدّ الفجوات بين الثقافات والعقائد من منظور الاحترام المتبادل والتسامح.
ومن بين مساهماته العميقة اللقاء التاريخي مع آية الله العظمى علي السيستاني في النجف في العراق، في 6 آذار/مارس 2021، حيث كان الاجتماع علامة فارقة حقيقية في الحوار بين الأديان، وجمع للمرّة الأولى الزعيم الروحي لـ 1.2 مليار كاثوليكي في العالم وأحد أكثر المرجعيّات الإسلامية احتراماً، والذي له تأثير في عشرات الملايين من المسلمين الشيعة عالمياً.
وفي مراسم متواضعة ومؤثّرة تمّ اللقاء في المنزل المتقشّف للسيد السيستاني في النجف في العراق، الذي وقف مع أنّه يعاني صحّياً، ونادراً ما يستقبل الزوّار، وعادة ما يبقى جالساً، لتحية البابا (84 عاماً)، وأمسك بيده، في لفتة تؤكّد الاحترام المتبادل.
كانت الزيارة إلى النجف جزءاً من تواصل دبلوماسي أوسع للفاتيكان مع العالم الإسلامي. والبابا فرنسيس كان قد انخرط في حوار في السابق مع القادة السنة حيث وقّع في عام 2019 وثيقة الأخوّة الإنسانية مع شيخ جامعة الأزهر أحمد الطيب وهو من أبرز علماء المسلمين السنّة. كذلك، وسّع اجتماع البابا فرنسيس مع السيّد السيستاني هذا التواصل ليشمل أيضاً الإسلام الشيعي، المذهب الثاني الرئيسي بين المسلمين. والنجف هي مركز روحي للمسلمين الشيعة، وتضمّ قبر الإمام علي بن أبي طالب الإمام الأوّل في المذهب الشيعي، والحوزة العلمية برعاية السيّد السيستاني.
كان للتواصل والجهود التوعوية مغزى خلال الزيارة، حيث يمثّل السيستاني مجتمعاً غالباً ما يُصوّر على نحو خاطئ في الخطاب الغربي، على أنّهُ تهديد جوهري بطبيعته وتُطلق عليه صفات غامضة، ولكنّها مثيرة مثل "الهِلال الشِيعِيّ"، مدعومة بالتهويل الإعلامي والتوتّرات الجيوسياسية التي تقودها جزئياً مجموعات إنجيلية مثل، "مسيحيّون متّحدون من أجل إسرائيل"، الذين غالباً ما يخلطون بين التشيّع وإيران والعداء للمسيحيّين و"إسرائيل".
خطا البابا فرانسيس في نهج مختلف ومميّز. وذهب إلى النجف ليس من أجل التبشير، ولا لإجراء مناقشات لاهوتية أو سياسية، بل من أجل الانخراط في حوار حول الاهتمام المشترك بمستقبل الإنسانية والسلام والعدالة والكرامة للجميع. لقد كان البابا فرانسيس، كيسوعي له تاريخ من النشاط ضدّ الاستبدادية الفاشية في وطنه الأرجنتين بين أعوام 1976- 1983، وكان مؤهّلاً لتأدية هذا الدور، حيث بعث لقاؤه مع السيّد السيستاني برسالة جريئة، حيث على قادة الإيمان واجب أن يتحدّوا لرفض العنف وتعزيز التعايش، في عالم يعاني النزاعات وسفك الدماء.
كما، كانت تلك الزيارة مهمّة بشكل خاص، لأنّها شكّلت رسالة دعم سياسية قوية للعراق الذي دمّرَه الغزو الأميركي في عام 2003، مدفوعاً بأوهام المحافظين الجدد في واشنطن لتحويل الشرق الأوسط إلى نموذج للديمقراطية الليبرالية، والصراع الطائفي اللاحق وصعود تنظيم "داعش" الذي تعامل مع الشيعة والمسيحيّين كأعداء ومرتدّين.
وباختياره الذهاب إلى النجف، أظهر البابا احتراماً للطائفة الشيعية، وتحدّى الروايات التي تزعم أنّهم خصوم عنيدون للغرب. وبدلاً من المطالبة والإدانة المتواصلة، السائدة في موقف العديد من القادة الغربيين تجاه العراق، قام البابا فرنسيس بتكريم شخصية السيّد السيستاني، الذي استخدم تأثيره الهائل للدعوة إلى إقامة دولة مدنية في العراق تحترم الحقوق والمساواة أمام القانون لجميع الأديان والطوائف مسلمين ومسيحيّين.
كما كانت الزيارة أيضاً لفتة دعم للمجتمع المسيحي المهلك في العراق، والذي تضاءل من 1.5 مليون في عام 2003، قبل الغزو الأميركي، إلى ما يقرب من 250 ألفاً إلى 300 ألف في عام 2021، بسبب المواقف المتعالية للسيّاسيين الغربيين، والتي يطلقونها وهم على مقاعدهم الوثيرة البعيدة.
حينئذ، اعتبر بعض المراقبين اختيار البابا فرنسيس زيارة النجف على أنّها "توبيخ" مبطّن لإيران، من خلال منح التمييز إلى ما يسمّى بـ"المدرسة الهادئة" للإسلام الشيعي، التي يجسّدها السيّد السيستاني. قد تكون هذه هي نيّة الفاتيكان، أو قد لا تكون، لكنّ المفارقة أنّ رسالة البابا كان لها صدى إيجابي أيضاً بين رجال الدين الشيعة في إيران. وقد شارك آية الله مكارم الشيرازي في مراسلات مهمّة مع البابا فرنسيس لتعزيز الحوار بين الإسلام والمسيحية. وفي عام 2016، بعث رسالة إلى البابا أعرب فيها عن تقديره لموقفه حول الإسلام، وأكد أنّه "لا يساوي الإرهاب".
وشدّد السيّد شيرازي على أنّ ما تسمّيه طهران "الجماعات التكفيرية" أي (داعش والقاعدة)، لا تمثّل الإسلام حقيقة. وردّ البابا فرنسيس برسالة رسمية عبر السفارة الإيرانية في الفاتيكان، أعرب فيها عن امتنانه لتواصل آية الله وانضم إليه في إدانة العنف باسم الدين باعتباره إهانة للّه وظلماً جسيماً. كذلك شكّل تبادل الرسائل هذه، تبايناً مع الانتقادات التي وجّهها آية الله الشيرازي إلى سلف البابا فرانسيس، البابا بنديكت السادس عشر، بسبب تعليقات اعتبرت معادية للإسلام.
بالطبع مواقف آية الله الشيرازي ليست دينية أو روحية فقط، بل تعكس أيضاً التوجّه الجيوسياسي للجمهورية الإسلامية، كما في تلميحه إلى أنّ "المجموعات التكفيرية" تزدهر بفضل دعم "القوى المتعجرفة"، في إشارة إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، يمكن اعتبار جهوده للتواصل مع البابا فرنسيس، واستجابة البابا، محاولة مفيدة لتعزيز الحوار بين الأديان وبين المسيحية والإسلام الشيعي.
في الحقيقة، لقد تجاوزت جهود البابا فرنسيس للتواصل مع رجال الدين المسلمين السنة والشيعة، حدود المسائل الدينية الروحية، إلى تعزيز الحوار والتعايش في عالم يعاني الصراعات. وفي حين أنّ زيارته إلى النجف على وجه الخصوص شكّلت سابقة قوية، فإنّ استدامة هذه المبادرات تعتمد على استعداد خلفائه للبناء على جهوده في الاستمرار في طريق الحوار، لإثبات أنّ أعمق الانقسامات يمكن رأبها من خلال الرؤية والشجاعة والإيمان.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.