ابن سلمان وترامب: ركائز تطوير الدور الإقليمي السعودي
زيارة ابن سلمان إلى البيت الأبيض تأتي في سياق وتوقيت يشهدان فاعلية سعودية تعكس سعياً لتشكيل دور إقليمي أكبر، بالشراكة مع ترامب.
-
ترامب وابن سلمان خلال عشاء رسمي في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض (أ ف ب)
لم يكن الاستقبال الحافل لولي العهد السعودي في واشنطن، والحفاوة الخاصة، الشاهد الوحيد على أهمية القمة السعودية الأميركية، إذ تأتي الزيارة في سياق وتوقيت يشهدان فاعلية سعودية تعكس سعياً لتشكيل دور إقليمي أكبر، بالشراكة مع ترامب، وغيره، يتناسب والتحوّلات والتداعيات التي تشهدها المنطقة بعد عامين من بداية طوفان الأقصى، والحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.
يأتي النشاط السعودي مع صعود (يبدو ثابتاً) للتأثير الخليجي على الملفات الإقليمية، ويشمل الإمارات وقطر، ويجمع ثلاثتهم شراكات خاصة كبيرة مع الولايات المتحدة، وقد صنّفت الأخيرة السعودية حليفاً رئيسياً من خارج "الناتو"، أثناء زيارة ابن سلمان، مثل تصنيف قطر على عهد بايدن، مع الحضور العسكري الأميركي الفاعل في جغرافيا الخليج، الذي يتمتع بحرية حركة كبيرة، ضدّ إيران وبصفة استراتيجية عامّة، ويُعدّ أحد أهمّ الثوابت والأسس للعلاقات الأميركية السعودية، منذ حرب الخليج.
إلى جانب مبادرة السلام السعودية (العربية لاحقاً) لعام 2002، يرتكز دور المملكة في الملف الفلسطيني (شاملاً غزة) على القدرة المالية، في مسارات مثل التمويل وإعادة الإعمار، وموقف يشترط "دولة" فلسطينية مقابل التطبيع الكامل مع "إسرائيل"، مع قبول للاندماج مبدئياً وتدريجياً في التحالف "الإبراهيمي"، مشروع ترامب القديم المتجدّد للشراكة الاقتصادية والأمنية العربية الإسرائيلية؛ أي الموازنة بين المطالبة بمكسب للفلسطينيين، وتطوير الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة بالتجاوب مع مشروع ترامب للمنطقة.
رغم ذلك كلّه يفتقد الدور السعودي - فلسطينياً - روافع داعمة، مثل الإطلالة الجغرافية على الأرض المحتلة، والعلاقة بالمقاومة الفلسطينية، ودور الوساطة بين طرفي الحرب. عوامل متحقّقة لمصر مثلاً، مع علاقتها النوعية بالسلطة الفلسطينية، التي يعكسها إعداد وتدريب قوى أمن السلطة، وتشير إلى تنافس إقليمي منخفض الوتيرة بين الطرفين، مع وقائع أخرى، مثل خلاف مصر والسعودية المكتوم بشأن غزة، إذ لا تمانع الأخيرة دوراً عربياً إسلامياً لضمان نزع سلاح المقاومة وترفضه مصر، والتمثيل منخفض المستوى نسبياً للمملكة في قمة شرم الشيخ، رغم انخراطها في خطة ترامب لغزة وأهمية القمة، والمبادرة المصرية للوساطة بين المقاومة اللبنانية و"دولة" الاحتلال، غير المرفوضة سعودياً لكن كذلك تمثّل "قفزة" غير تقليدية لمصر، تكرّس دورها الإقليمي بعد قمة شرم الشيخ، في دائرة نفوذ تقليدية للسعودية (لبنان).
يشمل سياق زيارة ابن سلمان إلى واشنطن تداعيات طوفان الأقصى إجمالاً، وخطوات سعودية في الأشهر الأخيرة تجاه باكستان وفي لبنان، وما يبدو تصعيداً إسرائيلياً (منخفض الوتيرة) حول فلسطين، ينذر بتداعيات إقليمية سلبية، وعلاقة التحالف مع التنافس بين السعودية، ومصر والإمارات، ذات النفوذ الفارق مؤخّراً في السودان، كلّ على حدة، وقطر المحتفّظة بثقل نوعي في الملف الفلسطيني، والمصالحة المستقرة مع إيران منذ اتفاق بكين. وفي الخلفية تطوّر لافت في السنوات الماضية للعلاقات السعودية الصينية، وللتوجّه الخليجي نحو الشرق، جلّاه انطلاق شراكة خليجية مع رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، وانعقاد قمة ثلاثية للرابطة ومجلس التعاون الخليجي والصين.
على ذلك، ومع "الفراغ العربي" الاستراتيجي الواضح للعيان، وتولّي مصر النصيب العربي الأكبر من حلّ معضلة غزة، يرتكز الدور السعودي المتطوّر المأمول تعميده بالزيارة، وبالاستثمارات العملاقة التي قد تصل إلى تريليون دولار، على عدة دوائر ومسارات يظللها جميعاً السقف الأميركي.
لبنان
في لبنان حيث تعوّض المملكة افتقادها الريادة العربية في تشكيل مشهد غزة لصالح مصر، فتدفع في اتجاه نزع سلاح المقاومة، مصطفةً مع موقف الحكومة المؤيد لحصر السلاح بيد الدولة، قبل انسحاب "إسرائيل" من جنوب الليطاني أو من دونه، مع ضغط ثابت، بالتنسيق مع قوى محلية وبشراكة أميركية وفرنسية، ملوّحةً بضخ استثمارات، بشرط ضمني مفهوم (نزع السلاح)، مع إعلان قرب استئناف تلقّي الصادرات اللبنانية الموقوفة منذ عام 2021، والنية في إرسال وفد اقتصادي رفيع المستوى، واتخاذ خطوات وشيكة لتعزيز العلاقات التجارية. والمحصّلة صياغة جديدة للدور السعودي، يتجاوز الاعتماد على حزب أو قوة سياسية محلية واحدة، نحو "التشبيك" الأوسع مع الجهود الدولية لإضعاف المقاومة، ومع الوساطة الأميركية المكّوكية تحديداً.
السودان
وفي حين يشهد السودان تطوّرات استراتيجية، تنذر بانفصال غربه عن الدولة، وتتصاعد إدانات متفرّقة، وجدت صدىً أممياً، للسياسات الإماراتية. جاء طلب ابن سلمان "الخاص" من ترامب أثناء الزيارة بالتوسّط لإنهاء الحرب، في "قفزة" منطقيّة، في ضوء التنافس البارد مع الإمارات، التي يجلب دعمها لقوات "الدعم السريع" تفكّك السودان، من دون دور مصري حاسم في المقابل، مع حجم البلاد السكاني وموقعها الجغرافي، وأثرهما على البحر الأحمر ومصر. ومن هنا تتجه المملكة إلى الوقاية من تداعيات أعمق، والتجاوز للدورين الإماراتي والمصري غير الحاسمَين، وتطرح نفسها عاملاً للاستقرار، ينفي توجّه وخطاب الإمارات الذي يقدّم فاعليته هناك بصفتها ضغطاً على الراديكالية والإخوان المسلمين، نحو حلّ عملي يفرضه "الطرف الأكبر"، الولايات المتحدة (التي لم تضع رهاناً تاماً على أحد طرفي الحرب)، ويمثّل مكسباً للدور الإقليمي السعودي.
ملف التسلّح وباكستان
ولعلّ أبرز أخبار الزيارة القرار الأميركي بتزويد المملكة بطائرات "أف-35"، لتصبح ثاني مستخدميها في المنطقة بعد "إسرائيل". قرار كبير يمكن فهمه مقابل مليارات الدولارات المدفوعة للإدارة الأميركية، خلال أقلّ من عام، والضغط السعودي القديم نسبياً (منذ الإدارة السابقة) لتحصيل موافقة أميركية على امتلاك مفاعل نووي سلمي، لم تُمنح، وخطوة الشراكة العسكرية الاستراتيجية مع باكستان، التي بدت استخداماً لفرصة أتاحتها ضربة الدوحة الإسرائيلية، وقبلها القصف الإيراني لقاعدة العديد الأميركية، لتحصيل مكسب سعودي في المجال العسكري والأمني، وسط اضطرابات غير مسبوقة. وكذلك تمثّل خطوة "أف-35" تجييراً لكلّ ذلك، وللعربدة الإسرائيلية مؤخّراً، لأخذ أكبر مكسب "استراتيجي" ممكن للدور الإقليمي السعودي.
من ناحية أخرى لا يمكن فصل هذا المكسب، وملف التسلّح إجمالاً والتساهل الأميركي المستجدّ فيه، عن التوجّه السعودي والخليجي إلى العمق الآسيوي والصين، المتصاعد رغم استقرار التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وعن هامش الحركة الباكستاني الأوسع نسبياً من السعودي، بحكم امتلاك سلاح نووي، الذي سمح باتفاق بهذا الحجم مع المملكة. وكذلك لا يمكن فصله عن الأفق - المحدود حتى اللحظة - الذي فتحه طوفان الأقصى، أمام الدول المسلمة المعنية بمصير الشرق الأوسط، وطبيعي أن تتصدّره قوتان بحجم (وعلاقة) البلدين، وكلاهما شريك نوعي كبير للصين.