الخداع والتضليل.. "إسرائيل" سيدته وضحيته

أظهر هجوم 7 أكتوبر 2023، حيث مارست حماس خداعاً ناجحاً ضد الاحتلال، أن التضليل سلاحٌ ذو حدّين؛ طالما استخدمته "إسرائيل" ضدّ خصومها بمهارة، لكنه حين استُخدم ضدّها كانت الضربة موجعة.

  • كتائب القسام تقتحم مواقع ومستوطنات الاحتلال، يوم 7 أكتوبر 2023 (الإعلام العسكري)
    كتائب القسام تقتحم مواقع ومستوطنات الاحتلال، يوم 7 أكتوبر 2023 (الإعلام العسكري)

منذ نشأة "إسرائيل" في عام 1948، تشكّل سياسة الخداع والتضليل جزءاً أساسياً من العقيدة الأمنية الإسرائيلية. فقد اعتمدت الأجهزة الاستخبارية والعسكرية، وفي مقدمتها جهازا "الموساد" و"الشاباك" و"الجيش"، على مختلف أساليب الخداع الاستراتيجي والتكتيكي لتحقيق أهداف أمنية وعسكرية. حتى إن "الموساد" رفع شعاراً في السابق مأخوذاً من سفر الأمثال: "بالخداع تصنع لك الحرب"، ما يؤكد مكانة التضليل كأداة حرب معتمدة في العقلية الإسرائيلية. 

في العقود الماضية، مارس العدو التضليل الاستخباري والعسكري والإعلامي في صراعاته لإرباك أعدائه وتضليلهم. وهذا الأمر سرى منذ نكبة عام 1948 مروراً بحروب "إسرائيل" مع الدول العربية، وصولاً إلى النزاعات الحديثة بما في ذلك عدوانها على غزة في عام 2023. إلّا أن الخداع الإسرائيلي لم يكن دائماً ناجحاً، إذ سقاها أعداؤها من الكأس نفسه ونجحوا في خداعها ومباغتتها في 7 أكتوبر 2023، وكل ما فعلته "إسرائيل" بعد ذلك من عمليات خداع وتضليل وتنكيل بأهل غزة ولبنان، كان لترميم صورتها وردّ الاعتبار لقدراتها الاستخبارية والعسكرية التي ضُربت.

في حرب 1948، رافقت تأسيس "إسرائيل" حربٌ نفسية شنّتها العصابات الصهيونية ضدّ الفلسطينيين هدفت إلى إثارة الرعب والفوضى لدفع السكان العرب إلى الفرار. يكشف مؤرخون إسرائيليون أن القوات الصهيونية استخدمت العنف ورسائل دعائية مضلّلة للمساهمة في إفراغ مدن وقرى فلسطينية. على سبيل المثال، بثّت منظمة «إرجون» اليهودية عبر الراديو شائعات باللغة العربية تحذّر العرب من تفشّي أوبئة فتاكة مثل التيفّوس والكوليرا في أبريل/نيسان ومايو/أيار 1948.

وفي مدينة حيفا، في أواخر أبريل/نيسان 1948، أطلقت منظمة "الهاغاناه" نداءات عبر مكبّرات الصوت دعت السكان العرب إلى إخلاء النساء والأطفال وكبار السن فوراً إلى أماكن آمنة. صُمّمت تلك النداءات لإشاعة الذعر وإضعاف معنويات الفلسطينيين، ما عجّل في موجات الهروب، وساهمت إشاعاتٌ مثل وجود سفن بريطانية تنتظر الفلسطينيين في ميناء حيفا لنقلهم في زيادة موجة النزوح.

ويقدّر المؤرخ الإسرائيلي اليميني بني موريس أن هذه الأساليب، إضافة إلى المذابح كمجزرة دير ياسين، نشرت الرعب وساهمت في نزوح أعداد ضخمة من الفلسطينيين عام 1948. كما استفادت العصابات الصهيونية حينذاك من يهودٍ عربٍ كانوا موجودين في فلسطين ومتحمّسين لفكرة إقامة دولة يهودية، كان يُطلق عليهم لقب "المخاتير"، لنشر أكاذيب بين صفوف الفلسطينيين، وكان هؤلاء النواة الأولى لما عُرف لاحقًا باسم "مستعربين". هكذا يتّضح أن التضليل الإعلامي والحرب النفسية كانا جزءاً من تكتيكات الحرب الإسرائيلية منذ البدايات.

بعد قيامها، واصلت "إسرائيل" استخدام الخداع ضدّ العرب. في حرب 1967 (النكسة)، وجّهت "إسرائيل" ضربةً خاطفة عبر استراتيجية المباغتة التي تُعدّ شكلاً من أشكال الخداع العسكري؛ فقد شنّت ضربة جوية استباقية مفاجئة على المطارات المصرية في ما عُرف باسم "عملية موكيد"، وذلك بعدما أوهمت خصومها دبلوماسياً وإعلامياً أنها لا تنوي بدء الحرب.

في المقابل، في حرب أكتوبر 1973، كانت "إسرائيل" هذه المرّة هي المخدوعة. إذ نفّذت مصر وسوريا خطة تضليل استراتيجي لخداع الاستخبارات الإسرائيلية حول نواياهما الهجومية. فأجرتا مناوراتٍ عسكريةً وهميةً متكررة على الجبهتين طوال عام 1973، وحرصتا على ضخّ معلومات مضلّلة عبر القنوات الدبلوماسية والإعلامية تفيد بعدم رغبتهما في القتال. هذه الحملة الممنهجة نجحت في تكريس ما عُرف بـ"المفهوم" لدى الاستخبارات الإسرائيلية، أي قناعةٌ خاطئة بأن مصر لن تدخل الحرب قبل استيفاء شروطٍ معينة وأن سوريا لن تتحرّك منفردة. وهكذا، عندما شنّت مصر وسوريا هجومهما المفاجئ في 6 أكتوبر (وكان في شهر رمضان)، كانت "إسرائيل" غير مستعدّة، ما شكّل صدمةً كبرى تُعرف في "إسرائيل" بـ"الإخفاق الاستخباري" لعام 1973.

لقد دفع هذا الدرس العدو لاحقًا إلى عدم الاستهانة بقدرة الخصم على الخداع، وإلى الحذر من الركون إلى التقدير السائد والعمل على تحسين منظومات الإنذار المبكر. لكن، بعد مرور خمسين عاماً على حرب أكتوبر، وقعت "إسرائيل" في الفخ الذي سعت لتجنّبه على مدى سنوات.

ومع تطوّر وسائل الإعلام، وخصوصاً عصر الإنترنت، أصبحت ساحة المعلومات ميداناً للتضليل والدعاية بين "إسرائيل" وخصومها. وفي الحروب الأخيرة، استخدمت "إسرائيل" أحياناً خدعاً إعلامية مخططة لخدمة أغراضها العسكرية. مثالٌ بارز حدث أثناء عملية "سيف القدس" في مايو/أيار 2021 (عملية حارس الأسوار): إذ نفّذ "الجيش" الإسرائيلي خدعةً تكتيكية عبر الإعلام لإيقاع مقاتلي حماس في فخ. فقد حشدت "إسرائيل" قواتٍ برية على حدود غزة، وأصدرت في منتصف الليل بياناً مبهماً بالإنكليزية لوسائل الإعلام الأجنبية يقول: "قوات جوية وبرية إسرائيلية تشنّ هجوماً في قطاع غزة". التقطت وكالاتٌ عالمية كبرى (رويترز وغيرها) التصريح على أنه بداية غزوٍ بري، إذ إن السياق العام شهد تهديداتٍ بحربٍ برية. توقّعت "إسرائيل" أنه بعد نشر الخبر عن توغّلٍ بري لقواتها ستدفع حماس بعدد كبير من مقاتليها، ولا سيّما قوات النخبة، إلى الأنفاق استعداداً لمواجهة القوات البرية.

افترض "جيش" العدو أن خطته نجحت، وعندئذ شنّت الطائراتُ الحربية سلسلةَ غارات، بمشاركة 160 طائرة أطلقت نحو 450 قنبلة بلغ مجموعها 80 طناً من المتفجرات على شبكة أنفاق غزة في ما عُرف لاحقاً باسم "عملية المترو"، وذلك في غضون 35 دقيقة. أدّى ذلك إلى تدمير أجزاء كبيرة من البنية التحتية تحت الأرض. لاحقاً، أكّد مراسلون عسكريون إسرائيليون أن البيان الإعلامي الأول كان خديعةً متعمّدة من المتحدث باسم "الجيش" هدفها خداع حماس ودفعها إلى إنزال مقاتليها إلى الأنفاق تمهيداً لقصفها. ورغم نفي "الجيش" رسمياً أنه تعمّد تضليل الصحافة، اعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية ودولية ما جرى تضليلاً سعى إلى تحقيق هدفٍ عسكري. 

"إسرائيل" علّمت أعداءها

شكّل "طوفان الأقصى" ذروة الخداع في الصراع العربي – الإسرائيلي؛ إذ أحدثت عملية حماس المباغتة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 زلزالاً أمنياً في "إسرائيل". نجحت المقاومة في تنفيذ هجومٍ واسع النطاق برّاً وبحراً وجواً انطلاقاً من غزة، موقِّعةً أكثر من 1200 قتيل إسرائيلي وآلاف الجرحى، وأسفر ذلك عن أسر مئات الأسرى. استطاعت حماس تحقيق هذه المفاجأة ضدّ أحد أقوى الأجهزة الاستخبارية في المنطقة، عبر حملة خداعٍ استراتيجي طويلة الأمد خطّطت لها قيادة الحركة بعناية على مدى سنوات عدة.

كشف تحقيقٌ لـ"الجيش" الإسرائيلي بعد الهجوم أن رئيس حركة حماس في غزة، يحيى السنوار، وضع منذ عام 2017 استراتيجية تقوم على تحقيق الضربة الأولى عبر عنصر المفاجأة التامة، وأنه بعد إطلاق سراحه من الأسر في عام 2011 اجتمع مع قيادات كتائب القسام لوضع خطة السابع من أكتوبر.

ولتنفيذ ذلك، تبنّت حماس تكتيكاً مزدوجاً: إظهار وجهٍ علنيٍّ "معتدل" يسعى للتهدئة، وفي الخفاء التحضير لليوم الموعود. فعلى الصعيد العلني، حرصت حماس قبل 2023 على إبداء عدم رغبتها بالتصعيد والانخراط في هدنةٍ طويلة مع "إسرائيل"، بل وتجاوبت مع مبادرات تحسين الأوضاع المعيشية في غزة. هذا أعطى انطباعاً لدى صنّاع القرار الإسرائيليين بأن "حماس مردوعة ومنهمكة في شؤون الحكم وليس لديها نيةٌ قريبة للقتال". حتى إن تقييماً استخبارياً إسرائيلياً رفيعاً قُدّم في ربيع 2023 أكّد اعتقاد الأجهزة بأن حماس مرتدعة عسكرياً بفعل القوة الإسرائيلية وترغب في الهدوء. أحد التقارير الاستخبارية قبيل الحرب ذهب إلى أن حماس "راضية بالسلام النسبي مقابل تحسين الاقتصاد"، حتى إن الأيام القتالية التي شنّتها "إسرائيل" ضدّ حركة الجهاد الإسلامي إبّان اغتيال القيادي بهاء أبو العطا وقيادات من المجلس العسكري للحركة قبل 5 أشهر من "طوفان الأقصى"، وعدم مشاركة حماس فيها، أوحيا لـ"إسرائيل" بأن تقديرها الاستخباري دقيق.

قبل الهجوم بأسابيع، أعادت حماس تنظيم مظاهراتٍ سلمية قرب الحدود (مسيرات العودة) كتكتيكٍ خداعي. ظنّت المخابرات الإسرائيلية أن هذه الاحتجاجات تنفيسٌ لغضبٍ شعبي لا أكثر، وذلك بعد إعلان "إسرائيل" نيتها تقليص المساعدات الاقتصادية التي تدخل إلى غزة ومنعِها قطرَ من تحويل المال إلى حماس. وكانت الزيارةُ المخططة لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية إلى العراق جزءاً من الخداع الاستراتيجي الذي مارسته الحركة ضد "إسرائيل".

حين انطلقت آلافُ الصواريخ وعملياتُ اقتحام السياج فجر 7 أكتوبر 2023، كانت "إسرائيل" مخدَّرة تماماً. تمكّنت قوات حماس من اختراق الحدود في 29 نقطةً دفعةً واحدة، واجتاحت في غضون ساعاتٍ 22 كيبوتساً وبلدةً إسرائيلية في غلاف غزة. لقد نجحت حماس في إثبات فشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية عبر خداعٍ استراتيجيٍّ متقن، تسبّب في انهيار صورة الردع الإسرائيلية، واهتزاز ثقة الجمهور بـ"جيشه" واستخباراته، وانكشاف ثغرات جسيمة في الجبهة الداخلية.

شكّلت عملية السابع من أكتوبر 2023 ضربةً موجعة للسمعة الأمنية الإسرائيلية، فسارع الكيان بمختلف مؤسساته إلى اتخاذ خطواتٍ لترميم الصورة واستعادة الردع. كان الردّ العسكري الوحشي بهدف استعادة ما فقده العدو من ردع، وبعد قرابة عامين من المجازر روّج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أنه استعادها، وأن "إسرائيل" أضعفت "المحور الإيراني". ولإعادة الثقة لدى الجمهور الإسرائيلي، اعترفت الأجهزة الأمنية والاستخبارية بأخطائها. وأجرت كلٌّ من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) وجهاز الأمن العام (الشاباك) تحقيقاتٍ عميقة في أسباب الفشل. وقد أقرّ تقرير "الشاباك" في مارس/آذار 2025 بأن الجهاز انخدع وتلقّى صورةً مضلِّلة أوهمته أن حماس لا تريد حرباً شاملة، ما أسهم في غفلة 7 أكتوبر.

في المحصّلة، تجمع "إسرائيل" بين إجراءاتٍ عملياتية ومؤسسية وإعلامية لاستعادة صورتها الردعية والاستخبارية التي تعرّضت لهزّةٍ شديدة. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الخداع الناجح الذي تعرّضت له في 7 أكتوبر سيبقى درساً قاسياً. لقد أظهرت تلك الأحداث أن التضليل سلاحٌ ذو حدّين؛ طالما استخدمته "إسرائيل" ضدّ خصومها بمهارة، لكنه حين استُخدم ضدّها كانت الضربة موجعة.

اخترنا لك