حرب واشنطن التجارية: أميركا اللاتينية في مرمى الرسوم والهيمنة
الولايات المتحدة تستخدم الحرب التجارية كسلاح اقتصادي لإعادة ضبط الولاءات الجيوساسية، ولا سيما عندما تستهدف دول أميركا اللاتينية. لكن هذه الأداة قد تعود عليها بنتائج عكسية تفكّك هيمنتها التي تشهد تراجعاً بطيئاً منذ عقود.
-
آلاف البرازيليين يحتجون على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 50٪ على الواردات البرازيلية، في ساو باولو، البرازيل، في 10 تموز/يوليو 2025 (أ ف ب)
لم تكن الحروب التجارية يوماً شأناً تقنياً بحتاً، ولا نزاعاً محصوراً داخل نطاق حسابات الميزان التجاري أو فجوات الاستيراد والتصدير؛ إنها في جوهرها امتدادٌ للهيمنة، وتُمارَس بأدوات اقتصادية تتخذ اليوم شكل رسوم جمركية وتدابير حمائية، لكنها تنتمي إلى منظومة أوسع من السيطرة السياسية والعقوبات المؤسساتية. هذا ما يتجلّى اليوم في الخطوة التصعيدية التي أقدمت عليها إدارة ترامب، بإطلاق موجة جديدة من الرسوم الجمركية تستهدف بالدرجة الأولى دولاً تعتبرها واشنطن "مناوئة"، وعلى رأسها الصين وعدد متزايد من دول الجنوب العالمي، وفي مقدمتها بلدان أميركا اللاتينية التي بدأت تكسر حلقة التبعية وتعيد تعريف موقعها في نظام دولي متعدد الأقطاب آخذٌ في التشكُّل.
رسوم جمركية لضبط الولاءات الجيوسياسية
الخطاب الذي اعتمده ترامب مع عودته إلى البيت الأبيض حمل ملامح استعادة للنهج العدواني الذي طبع ولايته الأولى، لكن هذه المرة بنَفَس أكثر جذرية وصدامية. فبدل الاكتفاء بالتلويح بإعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية أو فرض رسوم على دول ذات تبادل تجاري كبير مع الولايات المتحدة، جاءت الإجراءات الجديدة بصيغة أشبه بقائمة عقابية تستهدف دولاً ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الصين أو تسعى للتخلّي عن الدولار في معاملاتها الخارجية. وهكذا، لم تعد الرسوم الجمركية مجرّد أداة ضغط في مواجهة المنافسين الاقتصاديين، وإنما غدت سلاحاً لإعادة ضبط الولاءات الجيوسياسية ضمن ما يشبه حرب اصطفاف اقتصادي عالمي.
بالنسبة إلى دول أميركا الجنوبية – وبعض دول أميركا الوسطى – لا يبدو أن هذه الحرب التجارية عابرة ولا يبدو أن عواقبها ستكون مجرّد أضرار جانبية في صراع أميركي-صيني متصاعد. على العكس، إنها تُمثِّل فصلاً جديداً من فصول التدخّل الأميركي بأدوات حديثة، تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية مع الطموحات الاستقلالية لدول القارة، في لحظة دقيقة يشهد فيها النظام العالمي تحوّلاً حاداً في موازين القوة وتراجعاً بطيئاً للهيمنة الأميركية. ولم تقتصر الإجراءات الأميركية الأخيرة على الرسوم المفروضة على السلع الصناعية، وإنما شملت تهديدات بفرض ضرائب على منتجات زراعية وأدوية ومعادن استراتيجية مثل الليثيوم، في استهداف مباشر لدول تحاول رسم مسارات أكثر استقلالية عن الحظيرة الأميركية.
المكسيك، التي تجمعها بالولايات المتحدة واحدة من أعقد علاقات التداخل الاقتصادي في العالم، كانت من أوائل المتلقّين لرسائل الضغط الجديدة. إذ اختارت إدارة ترامب أن تبدأ حملتها الجمركية من حدودها الجنوبية، فارضة رسوم جديدة بنسبة 30% على المنتجات المكسيكية التي تدخل السوق الأميركية، وأهمّها المنتجات الزراعية ومنتجات الصناعات التكنولوجية التي تعتمد على خطوط إنتاج مرتبطة بشركات صينية. غير أن الرد المكسيكي لم يكن هذه المرة على النمط التوافقي الذي طبع العلاقة مع واشنطن في العقود السابقة. فقد جاء الموقف المكسيكي بقيادة الرئيسة اليسارية كلاوديا شينباوم متّزناً وحازماً في آن، إذ اعتبرت هذه الإجراءات "عدائية وغير مبرّرة" وردَّت بأنها ستُصعّد الملف إلى منظمة التجارة العالمية، وأن بلادها تدرس فرض رسوم انتقامية على منتجات أميركية، مع توسيع تجارتها مع الصين ومجموعة بريكس وباقي دول آسيا وأميركا اللاتينية.
وفي البرازيل، لم تتأخّر الإدارة اليسارية برئاسة لولا دا سيلفا في اعتبار تهديدات ترامب بفرض رسوم جديدة بنسبة 50% على المنتجات البرازيلية تهديداً سياسياً. وإذا أقدم ترامب بالفعل على فرض هذه الرسوم الجديدة فسوف تتأثَّر منتجات زراعية وصناعية برازيلية رئيسية مخصّصة للتصدير إلى السوق الأميركي. وقد جاء الرد البرازيلي على هيئة حملة تعبئة وطنية شملت قطاعات الإنتاج وتظاهرات في شوارع العاصمة برازيليا، إلى جانب مساعٍ دبلوماسية لتعزيز الروابط مع الشركاء الآسيويين والإقليميين. واللافت أن الخطاب البرازيلي لم يكتفِ بالدفاع عن المصالح التجارية المباشرة، وإنما وُضعت المسألة في إطار أوسع من رفض الهيمنة والتأكيد على تعدّدية النظام الدولي، حتى أن لولا وصف سياسة ترامب بأنها "اقتصاد ابتزاز مموّه بلباس القانون"، في إشارة إلى تسخير أدوات منظمة التجارة في خدمة أهداف جيوسياسية، وهدّد إلى جانب ذلك بفرض رسوم انتقامية على المنتجات الأميركية في حال نفَّذ ترامب تهديداته.
اقرأ أيضاً: البرازيل بشأن فرض ترامب رسوماً جمركية: سنرد بالمثل
وستتكبَّد تشيلي الكثير من جرّاء رسوم أميركية جديدة بنسبة 50% على واردات الولايات المتحدة من النحاس، إذ إنها تُعد أكبر مورِّد للنحاس إلى الولايات المتحدة. وقد تلقَّت إلى جانب ذلك إنذاراً من واشنطن بذريعة "ضمان أمن التكنولوجيا الأميركية"، جاء بعد توقيعها سلسلة من الاتفاقيات مع الصين بخصوص استخراج الليثيوم الذي تملك أكبر احتياطياته في العالم. وقد لوّحَت واشنطن بإمكانية فرض رسوم جمركية على بعض صادرات تشيلي، لكن الأخيرة تعمل على تحصين نفسها في هدوء ومن دون ضجيج استناداً إلى حقها السيادي في إدارة مواردها الطبيعية، وذلك اعتماداً على شراكاتها المتنوّعة ضمن تحالفات إقليمية مثل "ميركوسور" و"سيلاك"، إلى جانب الاتفاقيات الاستراتيجية مع الصين وإمكانيات توسيع العلاقات مع مجموعة بريكس.
أما فنزويلا التي تخوض صراعاً مفتوحاً مع واشنطن منذ سنوات – وهي الآن في جولة أخرى مع واشنطن عنوانها المهاجرين الفنزويليين الذين يرسلون إلى سجون السلفادور – فقد تلقَّت الرسائل الجمركية الأميركية كجزء من مسلسل طويل من العقوبات. لكن اللافت في هذه الجولة الجديدة هو انضمامها إلى جبهة الدول التي بدأت بإعادة هيكلة تبادلاتها التجارية بالعملات البديلة، ومحاولة بناء مسارات شحن وخطوط تمويل موازية خارجة عن الرقابة الغربية. وفي الوقت ذاته، تتّجه كراكاس إلى تعزيز تحالفها مع طهران وموسكو وبكين وعدّة دول إفريقية، كجزء من إستراتيجية واسعة لمقاومة التهديدات المتصاعدة، وذلك من خلال الانخراط في اتفاقيات طويلة الأمد تتعلّق في المقام الأول بالطاقة والتكنولوجيا.
ورغم أن كوبا ليست شريكاً تجارياً للولايات المتحدة بحكم الحصار المستمر منذ عقود، إلا أن إدارة ترامب لم تستثنها من تصعيدها الأخير، إذ استخدمتها مجدداً كورقة رمزية في حربها الاقتصادية ضد ما تعتبره "محوراً مناوئاً" في أميركا اللاتينية. فقد شدّدت واشنطن قيودها على التحويلات المالية والمبادلات التجارية مع كوبا، ووسّعت قائمة الكيانات الكوبية المحظور التعامل معها كما فرضت عقوبات جديدة على الرئيس ميغيل دياز كانيل ومجموعة من المسؤولين الكوبيين، وذلك من أجل خنق اقتصاد الجزيرة أكثر ولتوجيه رسالة إقليمية بأن الانحياز إلى الصين أو فنزويلا سيجلب عقوبات لا رسوماً جمركية فحسب. والجدير بالذكر أن كوبا، بصناعاتها الدوائية المتقدّمة، قد تتضرر بشدة إذا نفّذت واشنطن تهديدها بفرض رسوم جمركية بنسبة 200% على واردات الأدوية، ما سيؤدي إلى ارتفاع جنوني في الأسعار ويقوّض أحد أهم قطاعات كوبا التصديرية.
وفي حالة بوليفيا التي قد تبدو أنها تمثِّل وزناً اقتصادياً أقل من جيرانها، فقد سبق أن فرضت إدارة ترامب منذ أشهر رسوم بنسبة 10% على منتجاتها. ويأتي استهداف صادراتها من المعادن – ولاسيما الليثيوم والقصدير – وتهديد شبكاتها النقدية بسبب التعامل مع شركات صينية وبنوك آسيوية غير خاضعة للرقابة الغربية، ما دفع الحكومة البوليفية إلى إعلان موقف صريح: "نرفض أن تكون تجارتنا الخارجية رهينة لإملاءات سياسية مموّهة". وقد أتى هذا الموقف في سياق محاولة بوليفيا الحفاظ على مكتسبات العقدين الأخيرين، حيث أدّت إعادة توجيه الاقتصاد نحو الداخل وتعزيز الروابط مع الصين وروسيا إلى تخفيف التبعية التي طبعت اقتصادها لعقود طويلة.
أما كولومبيا، الحليف التقليدي لواشنطن في القارة، وجدت نفسها في موقف حرج مع التصعيد التجاري الأخير. فعلى الرغم من انخراطها في اتفاقيات تبادل حر مع الولايات المتحدة، فإن الرسوم الجمركية الجديدة شملت بعض صادراتها الزراعية والصناعية. غير أن الأخبار المتواترة في الأيام الأخيرة كشفت عن تصدّعٍ سياسي موازٍ، إذ حاول الرئيس غوستافو بيترو احتواء التوتر المتصاعد مع واشنطن برسالة سرّية وجّهها إلى ترامب في حزيران/يونيو الماضي، نافياً فيها نيّته اتهام مسؤولين أميركيين بمحاولة الإطاحة بحكومته. ولكن تبع ذلك استدعاء واشنطن سفيرها في بوغوتا، في حين ردَّت كولومبيا بسحب سفيرها من واشنطن. وبموازاة ذلك، هدّد ترامب بفرض رسوم بنسبة 25% على البضائع الكولومبية عقب خلاف حول ترحيل المهاجرين الكولومبيين من الولايات المتحدة، قبل أن تُحلّ الأزمة باتفاق عاجل. والجدير بالذكر أن العلاقات بين البلدين لم تشهد تدهوراً خلال العقود السابقة كما تشهد اليوم، في وقت يتصاعد فيه الضغط الشعبي الكولومبي الرافض للارتهان لسياسات واشنطن.
مبادرات دولية لمواجهة الحرب التجارية
لقد تأثَّرت معظم دول أميركا اللاتينية بالموجة الأخيرة من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب والتهديدات المستمرة بفرض رسوم أخرى، وقد ركّزنا أعلاه على أهمّ هذه الدول فحسب. أما في حالة أميركا الوسطى، فقد تداخلت الرسوم الجمركية الجديدة مع ملفات الهجرة والمخدرات، ما جعل الحرب التجارية تبدو أشبه بعقاب جماعي لدول تعاني أصلاً من هشاشة اقتصادية هيكلية. وعلى سبيل المثال، وجدت كل من غواتيمالا وهندوراس والسلفادور ونيكاراغوا أنها أمام معادلة عبثية: إمّا قبول الشروط الأميركية في ملفات لا صلة لها بالتجارة، أو مواجهة حصار جمركي يهدّد صادراتها إلى الولايات المتحدة. هذا الربط التعسّفي بين الملفات يؤكّد مرة أخرى الطابع الإمبريالي المنفلت للسياسات الأميركية الأحادية، حيث تُستخدم التجارة كسلاح لإخضاع الدول بدلاً من أن تكون وسيلة متكافئة للتبادل وتوطيد جسور التعاون.
اقرأ أيضاً: "وول ستريت": الأسواق الأميركية تهبط بفعل تهديدات ترامب التجارية
وعلى أي حال، لم تكن الردود اللاتينية على هذه الحرب متفرّقة، وإنما أخذت شكلاً تدريجياً منسّقاً إلى حد ما. وبصرف النظر عن الاستجابات الوطنية المتفرّقة، شهدت الشهور الأخيرة ارتفاعاً في مستوى التنسيق بين أعضاء مجموعتي "ميركوسور" و"سيلاك" ومجموعة "بريكس"، في محاولة لبناء موقف مشترك في مواجهة الرسوم الأميركية. كما طُرحت مبادرات لخلق نظام مدفوعات إقليمي مستقل، وتوسيع استخدام العملات المحلية والإقليمية في التبادلات بين دول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي بما يقلل الاعتماد على الدولار ويخفف وطأة التهديدات الأميركية المتواصلة. تعكس هذه الديناميكيات الجديدة إدراكاً متزايداً لدى حكومات المنطقة بأن الهيمنة الأميركية لم تعد قَدَراً مفروضاً، وأن لحظة تفككها ممكنة إذا ما اقترنت الإرادة السياسية بتكامل إستراتيجي فعّال، وتُعدّ فنزويلا أهم دولة في القارة أدركت ذلك الأمر وتعمل عليه منذ وقت مبكّر.
الحرب التجارية قد تفكّك الهيمة الأميركية
وبعيداً عن الوقائع الجمركية الصرفة، تطرح هذه الحرب التجارية سؤالاً أكبر: ما الذي تريده واشنطن فعلاً من أميركا اللاتينية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟ هل تسعى لإعادة فرض وصايتها على القارة كما فعلت في عقود "الحديقة الخلفية"؟ أم أن الأمر يتعلّق بمحاولة عرقلة صعود نظام دولي متعدد الأقطاب، عبر ضرب الشراكات الناشئة التي تتجاوز الهيمنة الأميركية؟ الواقع أن خطاب إدارة ترامب، وممارساتها، يشيران إلى أن المقاربة الحالية تنطلق من مزيج من الذعر الإستراتيجي والنزعة العقابية، وتُعبّر عن إدراك متأخر بأن واشنطن تفقد تدريجياً مركزية موقعها، ليس بفعل مؤامرات الأعداء، وإنما بفعل تآكل قدرتها على الإقناع والإغراء، رغم أنها مازالت تلوّح بقوّتها العسكرية.
ومن المفارقة أن ما يصفه البيت الأبيض بأنه "حرب من أجل المصالح الأميركية" قد يكون في واقعه تحفيزاً عكسياً لتفكيك الهيمنة الأميركية التي تشهد تراجعاً بطيئاً منذ عقود. فحين تُستخدم الرسوم الجمركية لمعاقبة دول لأنها اختارت شركاء آخرين، وحين تُفرض العقوبات على خيارات نقدية سيادية، فإن العالم لا يتّجه نحو تعزيز الانضباط في النظام الليبرالي الدولي، وإنما نحو خلق بدائل تشق طريقها بعيداً عن المركز الإمبريالي. وأميركا اللاتينية، بتنوّع تجاربها وحدّة تاريخها مع التدخّل الأميركي، تبدو في هذه المرحلة مرشّحة لأن تكون من بين أبرز الساحات التي يُختَبر فيها هذا التحوّل، بين انحياز قسري لهيمنة كونية آخذة في التآكُل من جهة، وانخراط حذر في نظام عالمي جديد آخذ في التشكُّل من جهة أخرى.
في المحصّلة، لا تبدو الحرب التجارية التي تخوضها إدارة ترامب سوى تجلٍ جديد لمعضلة قديمة: كيف تحافظ الإمبراطورية على مركزيتها في عالم لم يعُد يعترف بها مرجعيةً أو ملاذاً؟ وفيما تسعى واشنطن لإعادة إنتاج أدوات السيطرة من خلال الرسوم والعقوبات، إلى جانب التلويح بالقوّة العسكرية في مناطق التماس مع الصين والعالم العربي، يبدو أن دولاً كثيرة في الجنوب العالمي، ومعظم دول أميركا اللاتينية على رأسها، لم تعُد ترى في التبعية طريقاً إلزامياً، وإنما خيارا بائداً تسعى إلى تجاوزه ولو عبر مسارات بطيئة ومليئة بالعقبات. إن العالم يُسطِّر اليوم آخر صفحة في كتاب أفول الإمبراطورية الأميركية والغرب الأوروبي، ورغم أن الحرب – التجارية في ظاهرها – بدأت بقرار أميركي تجاوز حتّى حلفاء واشنطن التقليديين في الغرب، إلا أن نهايتها لن تكون قراراً أميركياً، وإنما رهينة بمدى ما تُبديه شعوب الجنوب العالمي من قدرة على الصمود وإعادة تنظيم النظام الدولي.