إثيوبيا: الطموح الإمبراطوري بين الطاقة والمنفذ البحري
بالرغم من نجاح إثيوبيا في مشاريع الطاقة الكبرى مثل سد النهضة ونفط أوغادين، يواجهها واقع محلي مليء بالتعقيدات، وإقليم متحفّز ضدها.
-
عناصر تابعة للقوات الأمنية في إثيوبيا
أن تتحرر إثيوبيا من قيود الفقر ومن أسر الانغلاق، هو الهدف الذي تسعى إليه سياساتها الداخلية والخارجية، وسط تحديات محلية وإقليمية متشابكة. فبين سلام يتعثر في ظل الظروف والأوضاع الداخلية، وطموحٍ متصاعد نحو منفذ بحري يفتح أمامها آفاقاً إقليمية أرحب، يبرز السؤال الجوهري: هل تنجح السياسة الإثيوبية في التوفيق بين هذين المسارين، أم أن الطريق لا يزال طويلاً في ظل تعقيدات الداخل والتنافس الإقليمي وتداعياته على الاستقرار المحلي؟
جاء افتتاح سد النهضة في أيلول/سبتمبر الماضي تتويجاً لمسار طويل من المشاريع التنموية التي أرادت من خلالها إثيوبيا أن ترسّخ مكانتها كقوة صاعدة في القرن الأفريقي. ولم تلبث أن تبعت ذلك بخطوة أخرى لا تقل رمزية وأهمية، تمثلت في إعلانها بدء استثمار احتياطيات الغاز والنفط المكتشفة في الإقليم الصومالي الإثيوبي (الأوغادين).
وفي احتفالية حملت طابعاً مشابهاً لتلك التي رافقت تدشين السد، وحضرها عدد من القادة الأفارقة وكبار الضيوف، افتتح رئيس الوزراء، آبي أحمد، يوم الخميس بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، المرحلة الأولى من مشروع غاز أوغادين الطبيعي المسال في منطقة كالوب بإقليم الصومال الإثيوبي.
وأكد آبي أحمد أن "المنشأة ستسهم في توليد الطاقة الكهربائية بطاقة 1000 ميغاواط"، مشيراً إلى دور المشروع في دعم السيادة الغذائية عبر توفير مدخلات أساسية لإنتاج الأسمدة، إلى جانب إسهامه في تعزيز مبادرات الطاقة وتعدين العملات المشفّرة. كما أوضح أن "جميع المشاريع الكبرى التي تم تدشينها في الإقليم، والتي تُقدَّر قيمتها الإجمالية بعشرة مليارات دولار أميركي، بما في ذلك البنية التحتية المرتبطة بها، ستُستكمل بالكامل"، مؤكداً التزام الحكومة بإتمام ما بدأته من جهود لتعزيز التنمية الاقتصادية وترسيخ بنية تحتية قادرة على دعم النمو في الإقليم.
مصفاة غودي.. طموح الطاقة في قلب الأوغادين
يُعد الإقليم الصومالي أحد الأقاليم الرئيسة التي تتكون منها الدولة الإثيوبية، ضمن النظام الفيدرالي الذي دخل حيز التنفيذ عام 1995. وقد شكلت 9 أقاليم في البداية النواة الأساسية لهذا النظام، أبرزها: أوروميا، وأمهرا، وتيغراي، والإقليم الصومالي، قبل أن يضيف رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد ثلاثة أقاليم جديدة اعترفت بها الحكومة مؤخرا، ليصل بذلك عدد الأقاليم إلى 12 إقليماً ضمن البنية الفيدرالية الإثيوبية.
ويُعرف إقليم أوغادين الصومالي الإثيوبي بثرائه بالموارد الطبيعية، ولا سيّما الغاز الطبيعي والنفط، إذ تُعد "منطقة كالوب" من أبرز المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية في هذا المجال. وتمنح المرحلة الأولى من مشروع غاز أوغادين الطبيعي المسال إنتاجية سنوية تُقدر بنحو 111 مليون لتر، فيما أُطلقت المرحلة الثانية التي ستضيف طاقة إنتاجية تبلغ 1.33 مليار لتر سنويا، في خطوة تُظهر تصاعد الطموح الإثيوبي نحو التحول إلى مركز إقليمي للطاقة.
وفي هذا السياق، وضع رئيس الوزراء، بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، حجر الأساس لمشروعين صناعيين رئيسيين في إقليم الصومال الإثيوبي، هما مصنع "سماد اليوريا" و"مصفاة نفط غودي"، في خطوة تُعدّ محطة بارزة في مسار تعزيز التنمية الصناعية والاقتصادية في البلاد.
وأوضح آبي أحمد أن مصنع السماد، الذي تطوّره الشركة الإثيوبية للاستثمار القابضة بالشراكة مع "مجموعة دانغوت النيجيرية"، سيحقق قدرة إنتاجية سنوية تبلغ 3 ملايين طن، معتمدا على الغاز الطبيعي المستخرج من "حقول كالوب" والمنقول عبر أنبوب بطول 108 كيلومترات.
اما "مصفاة نفط غودي"، التي ستنشئها شركة غولدن كونكورد الصينية، فستصل طاقتها الإنتاجية إلى 3.5 مليون طن من النفط سنوياً، معتمدة على النفط الخام والمكثّفات القادمة من "حقل هلالا النفطي".
ويأتي هذا التحرك في أعقاب تدشين سد النهضة، بما يعكس -في نظر بعض المراقبين- اتجاها استراتيجيا نحو ربط مشاريع الطاقة الكبرى ضمن رؤية اقتصادية متكاملة. إذ تستعد إثيوبيا لمرحلة تحول اقتصادي إقليمي، تتجلّى ملامحها في سياسات تصدير فائض الكهرباء إلى الجوار الأفريقي، وهي العملية التي بدأت فعليا مع دول مثل جيبوتي والسودان وكينيا، فضلا عن دول أخرى تنتظر التزوّد بالكهرباء الإثيوبية.
وقد بلغت عائدات إثيوبيا من تصدير الكهرباء خلال العام الأخير نحو 101.2 مليون دولار أميركي، في مؤشر يعزز مساعيها للتحول إلى قوة اقتصادية إقليمية ذات نفوذ طاقوي متنامي.
الطموح الاقتصادي والمنفذ البحري
ترى إثيوبيا في إنتاج الطاقة ليس مجرد هدف اقتصادي، بل وسيلة لتعزيز نفوذها الإقليمي وتحقيق غاية اقتصادية وتنموية. وترتبط هذه الرؤية ارتباطاً وثيقاً بسعيها للحصول على منفذ بحري، الذي ارتفع سقف المطالبات به منذ كانون الثاني/يناير 2024، حينما وقّعت اتفاقاً مع إقليم أرض الصومال غير المعترف به دولياً للحصول على منفذ بحري مقابل الاعتراف به كدولة مستقلة. وقد أثارت هذه الخطوة غضب دولة الصومال الأم وكادت تدفع المنطقة نحو مواجهة مسلحة بين الطرفين لولا تدخل الوساطة بقيادة تركيا، فيما استعدّت أطراف إقليمية، مثل مصر وإريتريا، لتفعيل دورها في التنافس والحشد الإقليمي ضد إثيوبيا.
وفي ظل مشاريعها التنموية الطموحة، سواء عبر سد النهضة الذي لا يزال يمثل مصدر خلاف مع دولتي المصب، أو النجاحات الحالية في مشروع غاز أوغادين الطبيعي المسال، تظل إثيوبيا مصممة على قضية المنفذ البحري، حيث حولت تركيزها إلى الشواطئ الإريترية والمطالبة بالمنفذ البحري في ميناء عصب، كخيار استراتيجي يضاف إلى خياراتها المطروحة. وقد أدى هذا الجدل حول النفوذ البحري بين إثيوبيا وجارتها إريتريا، إلى تبادل الاتهامات والتهديدات بين الدولتين.
وفي تطور جديد، اتهمت إثيوبيا، وللمرة الثانية، إريتريا وفصيلاً من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بالاستعداد النشط لشن هجوم عليها. وقالت وزارة الخارجية الإثيوبية، الأربعاء 8 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، في رسالة رسمية موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وفق وكالة "فرانس برس"، إن أسمرة وفصيلاً متشدداً من "جبهة تحرير شعب تيغراي" يقومان بـ"تمويل وتعبئة وقيادة" مجموعات مسلحة، خصوصا في ولاية أمهرة، حيث يواجه الجيش الإثيوبي تمردا مسلحا منذ أعوام.
وضع غير طبيعي في الداخل والإقليم
رغم الإنجازات الحالية في سد النهضة ومشاريع النفط، تعيش إثيوبيا، المتطلعة لدور إقليمي، ظروفاً استثنائية تنطوي على تحديات محلية وأمنية. فهي تواجه تمرد جماعة الفانو، إلى جانب استمرار الوضع غير المستقر في إقليم تيغراي، ما يعكس تحدياً داخلياً يتمثل في السلام الذي ظلت الحكومة تسعى لإرسائه عبر مؤتمرات وحوارات السلام منذ أكثر من عام.
وتبرز معطيات الواقع المحلي بوضوح في استمرار تمرد الجماعات المسلحة، وبقاء بعض بنود اتفاقية بريتوريا للسلام (نوفمبر 2022) بين الحكومة وجبهة تحرير تيغراي غير منفذة بالكامل. لم يُتح لقوات الأمهرة والمليشيات التابعة لها الانسحاب من أراض متفق على عودتها إلى إقليم تيغراي، مثل مناطق (WelkaitوHumera وRayya)، كما لا تزال قوات إريترية تسيطر على أجزاء من شمال غرب تيغراي، ومناطق في الوسط، وبعض المناطق الشرقية على حدود الإقليم.
وقد أدت تعقيدات العلاقة بين الحكومة وجبهة تيغراي إلى انقسامات داخل الجبهة نفسها، بين فصيل متقارب مع الحكومة المركزية بقيادة رئيس الإقليم السابق، جيتاشو ريدا، وفصيل "دبريتسيون غبري ميكائيل"، الذي يُعتبر الجناح القديم. وفضل هذا الفصيل التحالف مع إريتريا، في ضوء ما يراه من إخفاق حكومة آبي أحمد في الوفاء باتفاقية بريتوريا وعدم الاستجابة لحقوق التيغراويين، إلى جانب رؤية مستقبلية تقرّبه من إريتريا في الوجهة القومية المشتركة (اللغة والثقافة والعادات).
ويجمع الطرفان تطلعات سياسية متقاربة، في حين تظل المخاوف من إثيوبيا حاضرة بفعل وقائع التاريخ القريب والبعيد، حيث ظل شمال إثيوبيا (إريتريا وقومية تيغراي) يواجه مشاكل عديدة منذ عهد الإمبراطورية الإثيوبية.
على المستوى الإقليمي، وما يرشح من تجهيزات عسكرية وادعاءات حول حشود محتملة، يعكس الواقع حالة استثنائية وغير طبيعية في المنطقة، التي شهدت العديد من النزاعات خلال الأعوام الماضية. فبالرغم من نجاح إثيوبيا في مشاريع الطاقة الكبرى مثل سد النهضة ونفط أوغادين، يواجهها واقع محلي مليء بالتعقيدات، إلى جانب تحديات الإقليم الذي تمثّله بعض الدول المتحفّزة ضدها. ومع ذلك، يظل للقوى الإقليمية ممثلة في الاتحاد الأفريقي، والقوى الدولية، دور فاعل في الحيلولة دون وصول التوترات إلى مستوى الانفجار.