البابا لاوون الرابع عشر في لبنان.. بين رمزية الاسم التاريخي ورسائل المرحلة
زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان ليست مجرد رحلة روحية، بل قراءة حية لرمزية اسمه التاريخي ورسائل المرحلة الراهنة، من الدفاع عن الفقراء والعدالة الاجتماعية إلى تعزيز وحدة الكنائس والمصالحة الإقليمية ونشر السلام.
-
البابا لاوون الرابع عشر في لبنان... بين رمزية الاسم التاريخي ورسائل المرحلة
يعد القديس بطرس أول من تقلّد الكرسي البابوي، وجرت العادة فيما بعد أن يختار كل من يجلس على كرسي القديس بطرس اسماً بابوياً رمزياً، تيمّناً بأحد القديسين أو البابوات السابقين. ويُنظر عادةً إلى الاسم الذي يختاره البابا الجديد باعتباره إشارة أولى إلى التوجّهات الكنسية والرعوية التي يعتزم اتباعها، وإلى القضايا التي ستكون محور فترة خدمته.
وفي سياق متابعة التوجّه العام لقداسة البابا لاوون الرابع عشر، الذي يقوم حالياً بجولته الأولى في منطقة "الشرق الأوسط" (تركيا ولبنان)، يستعرض هذا التقرير أبرز الشخصيات التي حملت اسم "لاوون" في تاريخ المؤسسة البابوية، مبيّناً السمات البارزة في عهودهم، وما قد يساعد على فهم الخلفية الرمزية لهذا الاسم ضمن التقليد الرسولي، وبالتالي ربط رمزية الاسم مع رسائل المرحلة السياسية غير المباشرة.
لاوون (القديس الأسد)
عبر تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، حمل اسم "لاوون"- الذي يعني "الأسد"- رمزية خاصة ارتبطت بعدد من البابوات الذين كان لعهدهم أثر بارز في مسار الكنيسة.
وفي استعراض لأبرز من حملوا هذا الاسم في التاريخ الكنسي، نسلّط الضوء على 3 بابوات تميّزت فتراتهم بسمات لافتة، تساعد على فهم الأبعاد الفكرية والرمزية التي ارتبطت باسمهم البابوي.
لاوون الأول (440–461 م)
برز البابا لاوون الأول، الملقّب بـ"الكبير"، في منتصف القرن الخامس كشخصية محورية في ترسيخ مكانة كرسي روما.
ففي عام 452 م، التقى في شمال إيطاليا بأتيلا الهوني—وهو أقوى حكّام الهون وقائد إمبراطوريتهم الممتدة عبر مناطق واسعة من أوروبا الوسطى—وأقنعه بالعدول عن متابعة زحفه نحو روما، الأمر الذي عزّز صورة البابا كمدافع عن المدينة في لحظة تاريخية دقيقة.
كما اضطلع بدور حاسم في مجمع خلقيدونية عام 451 م، وهو المجمع المسكوني الرابع، حيث قدّم تعليمه الشهير حول طبيعة المسيح، الذي أصبح أساس العقيدة الكاثوليكية والبيزنطية في هذا المجال. وقد أسهم هذا الموقف أيضاً، في افتراق الكنائس المشرقية غير الخلقيدونية عن الوحدة الكنسية مع روما والقسطنطينية.
ومن خلال هذه المحطات، تكرّست مكانة لاوون الأول كحارس للعقيدة وفاعل رئيسي في تعزيز سلطة البابوية، وهو ما ساعد في بلورة مفهوم الدور الأول لكرسي روما في البنية الكنسية الغربية.
لاوون الثالث (795–816 م)
الشخصية البابوية الثانية التي سنتناولها من حاملي هذا الاسم هي البابا الـ96 للكنيسة الكاثوليكية، البابا لاوون الثالث. والذي مثّل تتويجه للملك الفرنكي شارلمان إمبراطوراً للرومان عام 800، حدثاً تاريخياً مهماً في تاريخ أوروبا الغربية.
مهّد هذا الحدث لتأسيس مفهوم الإمبراطورية المقدسة ذات الطابع المسيحي في أوروبا، ورسّخ دور الحبر الأعظم كصانع للسلطة الشرعية. وعزّز لاوون الثالث عبر هذا التتويج العلاقة بين الكنيسة والسلطة الزمنية، وأعاد بناء هيبة الكرسي الرسولي في المشهد السياسي، ما كرّس بالفعل فكرة أن "التاج الإمبراطوري لا يكتمل بلا بركة البابوية".
لاوون الثالث عشر (1878–1903 م)
في نهايات القرن التاسع عشر، ارتبط اسم "لاوون" بالقضايا الاجتماعية من خلال أعمال البابا الـ256 للكنيسة الكاثوليكية، لاوون الثالث عشر.
ففي عام 1891 م، أصدر هذا البابا رسالته العامة الشهيرة، "ريروم نوفاروم" (رسالة حول الأمور الجديدة)، التي تناولت حقوق العمال والعدالة الاجتماعية في مواجهة ظروف الثورة الصناعية. شكّلت هذه الوثيقة أول تدخل بابوي جوهري في قضايا العصر الاجتماعية، إذ انتقدت تجاوزات الرأسمالية الصناعية، واستغلال العمال في المصانع.
وبذلك وضع لاوون الثالث عشر الأساس اللاهوتي والفكري لما بات يُعرف بـ"التعليم الاجتماعي الكاثوليكي" الحديث، جاعلاً من الكنيسة صوتاً أخلاقياً في زمن التحولات الاقتصادية الكبرى.
وفي استقراء للسمات القيادية للبابوات الثلاثة الذين حملوا اسم لاوون قبل البابا الحالي، يبرز خيط مشترك من الجرأة والرؤية الإصلاحية، من دفاع الأول عن عقيدة التجسد وعن أسوار روما، لدور الثالث في تعزيز دور الكرسي الرسولي وهيبته، وصولاً إلى الثالث عشر، الذي وبفضل مواقفه الجريئة تلك لُقّب بـ"البابا الاجتماعي".
فهل يُقرأ تبنّي لاوون الرابع عشر لهذا الاسم كإشارة مُسبقة إلى نيّته الاصطفاف مع ذلك الإرث القيادي؟ (هيبة الكرسي البابوي، هيبة أوروبا، الدفاع عن القيم الكاثوليكية، الدفاع عن العمال والفقراء) لعلّه هو نفسه أوضح جزءاً من الإجابة إذ قال إنه اختار اسم لاوون تيمناً بسلفه الثالث عشر الذي واجه الثورة الصناعية الأولى برسالته الاجتماعية، مؤكدًا أن الكنيسة اليوم عليها مجابهة "ثورة صناعية جديدة" في عصر الذكاء الاصطناعي بنفس الروح دفاعاً عن كرامة الإنسان والعدالة والعمل.
البابا لاوون الرابع عشر: خلفيته ومواقفه
برز لاوون الرابع عشر (الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست) كراهبٍ يخدم في الصفوف الأمامية بين الفقراء في أميركا اللاتينية.
انطلق في منتصف الثمانينيات مبشراً في شمال البيرو، حيث شارك عن كثب في خدمة المجتمعات المعدمة وأعمال الإغاثة المحلية عقب كوارث طبيعية.
كما أمضى سنواتٍ طويلة ككاهن شاب في أبرشية تروخيو البيروفية، متنقلاً بين القرى الفقيرة ومخططاتها العشوائية، يعلّم القانون الكنسي ويخدم رعوياً على أطراف المدن، ما جعله على تماس مباشر مع المزارعين الفقراء والسكان الأصليين المهمّشين.
أول بابا ينتمي إلى رهبنة القديس أوغسطين
مع انتخابه عام 2025 أصبح لاوون الرابع عشر أول بابا في التاريخ الحديث ينتمي إلى رهبنة القديس أوغسطين (الأوغسطينية)، التي تستلهم فكر القديس أوغسطينوس وتتميز بالتشديد على الحياة المشتركة والسعي إلى الحقيقة في إطار الجماعة والإصغاء المتبادل.
فالرهبان الأوغسطينيون يعيشون روحانية قوامها "وحدة القلوب والعقول في الله"، والبحث عن المعرفة الإلهية عبر الحوار والمحبّة الأخوية. وكان لهذه الخلفية أثرٌ بيّن في تكوين شخصيته، إذ وصفه رفاقه بأنه يجمع بين نزعة الباحث عن الحقيقة وحرارة الراعي المشفق على شعبه.
موقفه من احتجاجات البيرو عام 2023
عاشت البيرو اضطرابات سياسية واجتماعية عام 2023 تمثّلت في احتجاجات واسعة ضد الفساد والتهميش، بلغت ذروتها عقب عزل الرئيس الأسبق بيدرو كاستيّو وتصاعد الغضب من خليفته. في خضم تلك الأزمة، كان الأسقف بريفوست (لاوون الرابع عشر لاحقاً) صوتاً معتدلاً باسم الكنيسة، إذ أبدى تعاطفه مع المطالب الشعبيّة، مصرّحاً في شباط/فبراير 2023 بأن "بعض المطالب محقّة ومشروعة، وعلى السلطات أن تُحسن الإصغاء إليها وتسعى للاستجابة بما يحقق الخير والعدالة المتساوية للجميع" . و لم يتوانَ عن انتقاد العنف وإراقة الدماء خلال قمع التظاهرات، إذ عبّر عن "حزن وألم بالغين" لسقوط ضحايا في صفوف المحتجّين.
وأظهر بريفوست التزاماً شخصياً تجاه أبناء أبرشيته في تلك اللحظات الحرجة، حيث طلب من الفاتيكان تأجيل نقله إلى روما – كونه عُيّن في مطلع 2023 مسؤولاً في الفاتيكان – قائلاً إنه ليس الوقت المناسب لمغادرة البيرو بينما البلاد منقسمة وتحتاج إلى جهود المصالحة.
موقفه من أزمة اللاجئين الفنزويليين
امتدّ انحياز لاوون الرابع عشر للفقراء والمهمّشين إلى قضية إقليمية أخرى هي أزمة اللاجئين الفنزويليين. فقد شهدت البيرو خلال العقد الماضي تدفق مئات الآلاف من الفنزويليين بسبب انهيار اقتصاد بلادهم، وواجه كثيرون منهم التمييز والتهميش في المجتمع المضيف.
برز الأسقف بريفوست في البيرو كمدافع شرس عن حقوق هؤلاء اللاجئين، حيث نظّم مبادرات لدعمهم وتأمين الغذاء والمأوى والإدماج الاجتماعي لهم، رغم ما قوبلت به تلك الجهود من مقاومة محليّة. وعندما أصبح أسقفاً لشكلايو، واصل هذا النهج فدعم شخصياً برامج لمصلحة المهاجرين الفنزويليين وفتح أبواب الكنائس لهم، ما أكسبه سمعة "الصوت الإنساني" داخل مجلس الأساقفة البيروفي.
موقفه من سياسات الهجرة في عهد إدارة ترامب
لم تقتصر مواقف لاوون الرابع عشر الاجتماعية على موطن خدمته في أميركا اللاتينية، بل تعدّتها إلى ساحات أخرى، وبخاصة سياسات الهجرة في الولايات المتحدة إبّان إدارة دونالد ترامب. فبصفته أميركياً أيضاً، لم يكن الكاردينال بريفوست بعيداً عن الجدل حول تشديد إجراءات الهجرة عند الحدود الأميركية.
انتقد الكاردينال علناً النهج المتشدد الذي اتبعه ترامب حيال المهاجرين، من بناء الجدار العازل إلى سياسة فصل أطفال اللاجئين عن ذويهم، واعتبر تلك السياسات منافية للقيم الإنسانية ولتعاليم الكنيسة الاجتماعية. وعقب انتخابه بابا، أعاد التأكيد على انتقاداته السابقة لإدارة ترامب الثانية، مصرحاً أمام الصحافة بأن من يدّعي الدفاع عن حياة الأجنّة فيما يؤيد المعاملة اللاإنسانية للمهاجرين لا يمكن اعتباره مدافعاً حقيقياً عن قدسية الحياة.
قضية البيئة والمناخ
لم تغب قضية البيئة والمناخ عن اهتمامات البابا لاوون الرابع عشر، سواء قبل أم بعد انتخابه، ويأتي هذا من منطلق شعوره بالمسؤولية وحرصه على العدالة الاجتماعية، إذ يتقاطع اهتمامه بالبيئة مع دعمه للفقراء، الذين يتأثرون أولاً بتداعيات تغير المناخ.
ففي أبرشيته في بيرو، أنشأ لجنة أبرشية متخصصة في "الإيكولوجيا المتكاملة"، وجعل على رأسها سيدة علمانية خبيرة – في خطوة غير معهودة – ما أظهر اهتمامه بتحريك العمل البيئي والتنمية المستدامة على المستوى المحلي مع إشراك النساء في القيادة.
العلاقة بين الكنيستين الغربية والشرقية
ومنذ لحظة انتخابه، أبدى البابا لاوون الرابع عشر اهتماماً خاصاً بردم الهوّة التاريخية بين الكنيسة الكاثوليكية في روما وشقيقاتها الكنائس الشرقية، إيماناً منه بأن الحضور الأخلاقي للكنيسة عالمياً يقتضي وحدة الصف المسيحي. فجاءت أول زيارة خارجية له مكثفة بالدلالات، إذ اختار التوجّه إلى تركيا ولبنان للقاء قادة الكنائس الأرثوذكسية و"الشرق أوسطية".
وفي إسطنبول شارك في صلوات مشتركة مع بطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول، ووقّع معه إعلاناً مشتركاً جدّد التزام الحوار بهدف استعادة الشراكة الكاملة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية.
وفي ذلك الإعلان، رفض الجانبان استخدام الدين لتبرير العنف ودعوا إلى السلام، كما أكدا أن وحدة المسيحيين هي عطية إلهية تستحق بذل الجهود والصلوات لتحقيقها، وأعاد لاوون وبرثلماوس التذكير بالأساس الإيماني المشترك – قانون الإيمان النيقاوي – وبالمبادرات التصالحية السابقة مثل رفع الحرم المتبادل عام 1965، حاثَّين على "مزيد من الجرأة في مواصلة الحوار اللاهوتي والأخوي لتذليل العقبات المتبقية". كذلك أعربا عن أملهما في التوصل إلى توحيد موعد الاحتفال بعيد الفصح مستقبلاً كرمز للوحدة.
القضية الفلسطينية وحرب الإبادة في غزة
اتخذ البابا لاوون الرابع عشر موقفاً إنسانياً واضحاً تجاه غزة: دعا إلى وقف الحرب فوراً، وإلى حماية المدنيين وأماكن العبادة، وإلى دخول مساعدات إنسانية عاجلة، واحترام القانون الدولي كضرورة لحماية الضحايا. كما جدد دعمه لحل "الدولتين" كطريق للسلام.
وريث سلالة لاوون؟
في ضوء ما تقدّم من محطات مسيرة لاوون الرابع عشر، ومواقفه قبل وبعد اعتلاء السدة البابوية، يتضح أننا أمام شخصية حاولت أن تجسّد عملياً السمات الثلاث التاريخية لاسم "لاوون".
في دفاعه عن الكنيسة وعقيدتها وقيمها، ورفعه صوته كقائد أخلاقي في قضايا الهجرة والحروب والتغير المناخي، والمبادرة إلى مدّ الجسور مع قادة الشرق والغرب، وإعلانه انحيازه لقضايا الفقراء والعدالة.
والسؤال هنا ليس عمّا إذا كان البابا لاوون الرابع عشر هو وريث تلك السلالة فحسب، بل السؤال حول: متى تعود السلطة القيمية والأخلاقية في العالم، إسلامية ومسيحية هي "الأسد"؟ متى سيُنتزع حكم العالم من "ضباع" السوق، إلى "أسود القيم"؟
ماذا في الرسائل السياسية غير المباشرة في زيارته للبنان؟
زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان ليست محطة عابرة في روزنامة الفاتيكان، إنها مبادرة رمزية وإنسانية وسياسية في آن. بين رسائل السلام والوحدة والتعايش، وبين الأمل بالمصالحة والاستقرار، تبدو زيارته محاولة لإحياء حضور لبنان الروحي والثقافي في قلب العالم المسيحي، ولإظهار أن لبنان، رغم أزماته العميقة، لا يزال أرض رسالة - رسالة تذكّر العالم بقيمة التنوع، وبالعدالة الاجتماعية، وبالسلام.