الجيش السوداني نحو دارفور.. هجوم بري لوقف المسيّرات
بموازاة دفاعه المستميت عن الفاشر المحاصَرة في دارفور، تتجه قوات الجيش السوداني بإيقاع متسارع، منطلقة من وسط البلاد ومحيط الخرطوم، نحو الغرب، حيث أطلقت قوات الدعم السريع في دارفور سلسلة هجمات عبر المسيّرات.
-
الجيش السوداني نجح في تحقيق هدفه المتمثّل بإخراج قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم، ومن وسط البلاد
في الشهرين الماضيين، نجح الجيش السوداني، بعد سلسلة معارك ضارية، في تحقيق هدفه المتمثّل بإخراج قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم، ومن وسط البلاد، حيث ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض. وانسحب الدعم السريع نحو الغرب، في إقليم دارفور، حيث مرتكزاته ومواقعه الأولى والمناطق التي ينتمي إليها قوامه الأساسي قبلياً، لكنه أطلق سلسلة هجمات عبر المسيّرات، استهدفت منشآت استراتيجية في العاصمة المؤقتة بورسودان، على ساحل البحر الأحمر، شرقي البلاد، والتي تضم قيادة القوات المسلحة وأهم الموانئ، والمطار البديل لمطار الخرطوم الذي دمرته الحرب.
وتحاصر قوات الدعم السريع الآن مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، باسطةً سيطرتها على كامل الإقليم، باستثناء جيب تحت سيطرة حركة تحرير السودان- جناح عبد الواحد النور، التي تعلن الحياد في الصراع مطالِبةً بوقف القتال، وعلى مناطق في ولاية النيل الأبيض.
في المشهد الحالي، يسيطر الجيش على الشمال والشرق، حيث الولايات المؤيدة له في أغلبها، متمسكةً بنموذج الدولة المركزية الجامعة، على الرغم من انتماء سكانها إلى مكوّنات قبلية وعرقية مختلفة، والواقع الفيدرالي القديم في السودان. وبموازاة دفاعه المستميت عن الفاشر المحاصَرة في دارفور، الذي تشارك فيه قوات مساندة (القوة المشتركة) ولجان مقاومة شعبية، تتجه قواته بإيقاع متسارع، منطلقة من وسط البلاد ومحيط الخرطوم، نحو الغرب على ثلاثة محاور، مروراً بولاية شمال كردفان، حيث يستهدف الدعم عاصمتها، مدينة الأُبيض، بقصف مدفعي على المدنيين، وغرب كردفان، حيث سيطرت الأسبوع الماضي على بلدة الخوي، بعد سيطرة الدعم على مدينة النهود ذات الموقع الاستراتيجي في الولاية نفسها.
تمثل ولاية شمال كردفان معبراً برياً ضرورياً بين الخرطوم وغرب السودان، فيحاول الجيش توسيع دائرة سيطرته حول الأُبيض، الواقعة في أقصى جنوب الولاية، وربطها بقواته في جنوب كردفان، التي تسيطر على مساحات منها الحركة الشعبية لتحرير السودان - شَمال بقيادة عبد العزيز الحلو، الحليفة للدعم، وتقدمت جنوباً لفك الحصار عن مدينة الدلنج، ثاني أكبر مدن الولاية. ومن ناحية أخرى حسمت القوات الحكومية، الجيش والقوات الرديفة، الموقف لصالحها في أم درمان، إحدى المناطق الرئيسة الثلاث للخرطوم. وبعدها انطلق استهداف الدعم السريع لمحطات كهرباء في العاصمة بالمسيّرات.
كانت الحركة الشعبية بسطت سيطرتها منذ اندلاع الحرب على مساحات من ولاية النيل الأزرق، جنوب شرق البلاد، وأراضي جبال النوبة ومناطق في ولاية جنوب كردفان، بهجمات استهدفت الجيش. وتحالفت مع قوات الدعم السريع تحت شعار "التحرر من التهميش وسطوة المركز"، والإصلاح الهيكلي للدولة على أساس العلمانية والمواطنة المتساوية، والمطالبة بحقوق سكان تلك المناطق. ووقّعت في شباط الماضي مع 20 كياناً سياسياً ومدنياً وحركة مسلحة، بينها قوات الدعم السريع، ما سُمي "ميثاق السودان التأسيسي" والدستور المؤقت، في العاصمة الكينية نيروبي، حيث تم إعلان إطلاق تحالف "تأسيس"، الذي يعتزم تشكيل "حكومة موازية" للسودان، من دون تجاوب دولي معتبر، في مقابل جهد سوداني أممي لتسجيل انتهاكات الدعم السريع في حق المدنيين، مع اتهام رسمي موثّق للإمارات بتسليحه عبر تشاد وليبيا.
رصد مشروع التهديدات الحيوية، التابع لمركز دراسات الحرب في واشنطن، في تقرير نشره الشهر الماضي، أن خطوط الإمداد الرئيسية للدعم السريع من الخارج تمتد من تشاد، من مطار أم جرس في الشمال الشرقي قرب الحدود السودانية، ومنطقة الكفرة في ليبيا، من حيث تأتي المؤللات والوقود، ودولة جنوب السودان عبر بلدة كفيا كنجي، المتنازع عليها على الرغم من الانفصال، من حيث يأتي الوقود تحديداً، وجمهورية وسط أفريقيا عبر بلدة أم دافوق الحدودية، التي سيطر عليها الدعم بعد شهر من اندلاع الحرب، وتقع أقصى جنوب غرب السودان، في ولاية جنوب دارفور.
الآن تعكس اندفاعة الجيش غرباً توجهاً لإزاحة قوات الدعم السريع إلى أقصى الغرب، وحصرها في إقليم دارفور، وهامش الحدود مع تشاد وأفريقيا الوسطى، ما يواجه معضلة مستقبلية هي استمرار تدفق الدعم الخارجي عبر الحدود، مع سهولة إطلاق المسيّرات، ومداها الكافي للتهديد، إذ يتطلب استهداف بورسودان في الشرق أو الخرطوم في الوسط من دارفور أو غرب كردفان أن تقطع المسيّرة 1500 كلم. لكن الخطاب الرسمي يؤكد أن الهدف هو "القضاء على" قوات الدعم السريع، ما يفيد بأن الاستراتيجية المتّبعة تقضي بحصر الأخيرة في أضيق مساحة جغرافية ممكنة، بالتناسب مع الموقف الحالي، في إقليم دارفور، ثم تصفية مرتكزاتها برياً بصورة حاسمة، على نحو يفقدها القدرة على البقاء بالأساس، أي على الحركة والقتال، وتلقّي الإمدادات ومنها المسيّرات أو مكوّناتها.
في دارفور، يُعد أحد أهم مرتكزات علاقة الدولة السودانية بالإقليم حضور فعلي لإدارة مدنية موالية للدولة، في الإطار الفيدرالي السوداني، ممثلةً في مني أركو مناوي حاكم الإقليم، وثيق الصلة بالمركز في الخرطوم، والمنشق سابقاً عن حركة جيش تحرير السودان - إقليم دارفور وجبل مُرة، فضلاً عن افتقاد تحالف "تأسيس" والحكومة الموازية لحاضنة شعبية معتبرة بصفة عامة، في السودان شاسع المساحة، والبنية المفككة نسبياً للدعم السريع نفسه، وقوامها من المرتزقة غير العقائديين، وبعضهم أجانب، مفتقدةً للتجانس القبلي والاجتماعي ولا تعكس تحالفاً قبلياً متماسكاً، حتى في دارفور إلى حيث ينتمي قوامها الأساسي، في مقابل الجيش الذي يحكم الآن العاصمة التاريخية وأغلب المدن الرئيسية الأكبر، بعد نجاحه في طرد الدعم من وسط البلاد.
مع افتقاد المعارضة الليبرالية والأحزاب التاريخية التقليدية، مثل الأمة والمؤتمر الوطني، للحلول العملية والبدائل الشاملة، واستحالة تطبيق "وقف إطلاق نار نهائي" مقابل تحركات الدعم السريع واستهدافاته لأماكن حيوية، أي تنفيذ سيناريو تقويض استقرار وإخضاع، لإعادة تأسيس النظام السياسي في البلاد وفق خطابه؛ تسعى الدولة السودانية لتحقيق سيطرة على الأرض أولويةً، ولم شتات جهازها الإداري المرهَق لإعادة الحياة إلى المناطق البعيدة عن الاشتباكات، ودفع عجلة الاقتصاد، الذي يفتقد الآن نسبة معتبرة من الموارد بفعل الحرب. وقد تكون تراهن على أن يسفر الاستقطاب الحاد الحالي بين القوى السياسية عن شركاء مدنيين موثوقين، يجمعهم والقوات المسلحة هدف الحفاظ على هيكل الدولة، ولا يرون في تمرد الدعم فرصة محاصصة جهوية أو قبلية أفضل، يستحيل تحقيقها بالأساس في ظل تفكك الهيكل نفسه.
لكن يكمن تحدٍ آخر في خلفية المشهد، يجعل تأسيس (حياة سياسية جديدة) في السودان، أو إطار حكم مدني تمثيلي، مهمة شاقة، هو انتشار النزعات الانفصالية في الأعوام الأخيرة عند بعض قبائل الشرق، والتفكك الإداري على مستوى البلديات بصفة عامة، بفعل فوضى الحرب والنزوح وتنازع السيطرة بين طرفي الصراع، ومن هنا تحرص الدولة على تثبيت شرعية حكمها بتوسيع استعادة السيطرة، وتعميق التواصل مع أطراف دولية داعمة، أبرزها الصين وروسيا، مع استمالة الموقف السعودي، المتعاطف بالفعل، واستنهاض موقف عربي بدعم مصري، مع الاحتفاظ بشرعية دولية تجلّيها تحركات قوات الدعم السريع وممارساتها، لا العكس.