السياسة الأميركية في سوريا: دعم للنظام أم سير بالتقسيم؟

السياسات الأميركية تجاه النظام السوري الجديد تمثل مزيجاً من الدعم الظاهري، والتغاضي عن التدخلات الإسرائيلية والمشاريع الانفصالية. رغم تصريحات الدعم، تسهم هذه السياسات بشكل غير مباشر في تعزيز الانقسامات الداخلية، ما يضع سوريا على طريق التقسيم المحتمل.

  • السياسة الأميركية في سوريا: دعم للاستقرار أو سير بالتقسيم؟
    السياسة الأميركية في سوريا: دعم للنظام أم سير بالتقسيم؟

اتسمت العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والنظام السوري السابق بحالة من التوتر المتصاعد، إذ رأت أميركا في النظام الذي لم يعاونها في حربها على العراق، وساند واحتضن المقاومة الفلسطينية، ودعم المقاومة في لبنان، عقبة أمام مشروعها المستمر، "الشرق الأوسط الجديد".

ومن هذا المنطلق كان التجاوب الأميركي مع سقوط النظام واستلام "هيئة تحرير الشام" الحكم في دمشق، يتسم بالإيجابية القلقة، في الأيام الأخيرة من إدارة الرئيس جو بايدن، لينتقل إلى "الإيجابية المندفعة" في عهد الرئيس دونالد ترامب.

وشهدت تصريحات ترامب تحولاً نوعياً، حين أعلن عن دعم اقتصادي محتمل للنظام، ورفع جزئي للعقوبات، رافقتها بعض "الخطوات التحفيزية"، ومنها إعلانه في 14 أيار/مايو 2025 عن "تخفيف العقوبات المفروضة على سورية"، وإعلان وزارة الخارجية الأميركية في 8 تموز/يوليو 2025 عن "دخول قرار رفع هيئة تحرير الشام من قوائم المنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO) حيّز التنفيذ".

ولكن هل تعكس هذه التصريحات و"الخطوات التحفيزية"، رغبة أميركية حقيقية في دعم دمشق، أم أنها جزء من لعبة جيوسياسية أكبر تهدف إلى إعادة رسم موازين القوى في المنطقة، مع الإبقاء على سيف العقوبات، ورقة ضاغطة على الحكومة الانتقالية، في ظل مواجهة العاصمة السورية، اليوم، لـ 3 تحديات كبرى، تلعب الولايات المتحدة، بشكل أو بآخر، دوراً في إثارتها، أو غير مساعد، بالحد الأدنى، على معالجتها.

التحدي الأول: التوسع الإسرائيلي في الجولان المحتل

قبل سقوط النظام السوري في الـ 8 من كانون الأول/ديسمبر 2024، كانت حدود الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان محدودة وفق اتفاقية "فض الاشتباك" الموقعة في 31 أيار/مايو 1974، والتي نصت على إنشاء منطقة عازلة بعرض 10 كيلومترات بين الخطين "ألفا" و"برافو"، تحت إشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF).

وبعد انهيار النظام أعلنت "إسرائيل" أن الاتفاقية "أصبحت لاغية"، وبدأت عملية عسكرية واسعة النطاق أطلقت عليها اسم "سهم باشان"، حيث توغلت في المنطقة العازلة وفي مناطق جبل الشيخ والقنيطرة، مستغلة الفراغ الأمني.

ومنذ ذلك الحين، نفذت إسرائيل أكثر من 350 غارة جوية استهدفت مواقع عسكرية سورية، بما في ذلك مستودعات ذخيرة في ريف درعا، مواقع شمالي مدينة إنخل، تل الحمد غربي مدينة الشيخ مسكين، وتل الشعار في محافظة القنيطرة، بالإضافة إلى محيط مطار المزة العسكري في دمشق.

ورغم تجاوز هذه الاعتداءات المتكررة خطوط الهدنة المعترف بها دولياً، إلا أنها لم تُواجه بمواقف أميركية صارمة، بل غالباً ما لوّنت واشنطن موقفها بالتغاضي عن التصعيد الإسرائيلي، مكتفيةً بتصريحات عامة حول "ضرورة ضبط النفس" دون ضغط فعلي على "تل أبيب".

وشهدت مناطق الجولان، نتيجة لهذه السياسات، زيادة في التوسع الإسرائيلي، مع تحويل الاعتداءات المتكررة إلى استراتيجية شبه اعتيادية للسيطرة على أراضٍ سورية، وهو ما يطرح تساؤلات عن الدور الأميركي الحقيقي في الحفاظ على سيادة دمشق وحدودها، مقابل العلاقات الاستراتيجية مع "إسرائيل"، وحجم التنازلات السياسية التي قد تفرضها واشنطن على سوريا مستقبلياً.

إذ أنّ الرد الأميركي الفعلي على كل ما ذُكِر من اعتداءات كان في الضغط على الحكومة السورية الانتقالية للذهاب نحو "التكيف مع المتطلبات الإسرائيلية" أو تهيئة نفسها لمواجهة عواقب الرفض.

التحدي الثاني: الدعوة الكردية الانفصالية

منذ بداية النزاع السوري، لعبت القوات الديمقراطية السورية (قسد) دوراً محورياً في شمال البلاد، وكان للولايات المتحدة الأميركية نصيب كبير في تأسيسها وتمكينها، وهو ما يتضح في مسارها السياسي والعسكري.

وأسهمت واشنطن في تنظيم هذه القوى وإعادة هيكلتها لتصبح لاعباً مستقلاً قادراً على إدارة مناطق واسعة، بعيداً عن سلطة دمشق.

مع تطور الأحداث، تغيّر موقف "قسد" تجاه النظام الجديد أكثر من مرة، فبدأت العلاقات بمفاوضات شكلية على الحدود الاقتصادية والعسكرية، لكنها سرعان ما عادت إلى تأكيد مطالبها بالاستقلال الذاتي، وصولاً إلى عقد مؤتمر الحسكة الانفصالي الذي رسم خطاً واضحاً نحو المطالبة بالانفصال الفعلي.

فبعد أن توصل الطرفان إلى اتفاق في الـ10 من آذار/مارس الفائت، نص على: 

  1. وقف إطلاق النار في كافة الأراضي السورية.
  2. ضمان حقوق جميع السوريين في كافة المؤسسات بناءً على الكفاءة بغض النظر عن خلفيّاتهم الدينية.
  3. المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية وتضمن الدولة السورية حقّه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية.
  4. ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية؟
  5. دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، تشمل المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز.
  6. ضمان عودة كافة المهجّرين السوريين إلى بلادهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية.
  7. دعم الدولة السورية في مكافحتها لفلول النظام السابق وكافة التهديدات التي تهدّد أمنها ووحدتها؟
  8. رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بثّ الفتنة بين كافة مكوّنات المجتمع السوري

تعطل الاتفاق لشهور، قبل أن يطرح قادة أكراد، بمن فيهم القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، مطالبهم الجديدة من الدولة السورية:

  1. التخلي عن "العربية" في اسم الجمهورية العربية السورية.
  2. إعادة صياغة الدستور المؤقت.
  3. إعادة النظر في قانون إجراء الانتخابات لمجلس الشعب المؤقت.
  4. الموافقة على اللامركزية كأساس للدولة السورية الجديدة.

إضافةً إلى التراجع عن الموافقة على تخلي قوات "قسد" عن سلاحها، مشترطين الحفاظ على وحدات "قسد" العسكرية في تشكيلها القائم في حال جرى التحاقها بوزارة الدفاع السورية.

واعتُبِر الموقف الأميركي تجاه هذه المطالب موقفاً متذبذباً من جهة دعم واشنطن مشاريع الحكم الذاتي الكردية، والتشجيع على مفاوضات مع دمشق بشروطها الخاصة، ومن جهة أخرى، لم تُصدر أي ضغوط جدية لإقناع "قسد" بالاندماج الكامل ضمن الدولة السورية، بل حافظت على قدرتها على التأثير المباشر في مسار الانفصال، مما أتاح لها فرض واقع سياسي قائم جزئياً خارج إطار الدولة المركزية.

التحدي الثالث: المسألة الدرزية

بدأ الصراع مع الطائفة الدرزية في سوريا بعد انهيار السلطة المركزية في بعض المناطق، حيث حاولت "إسرائيل" استغلال حالة الضعف السياسي لإقامة نفوذ لها عبر إعلان "حماية الدروز"، وتشجيع بعض القيادات المحلية على الانخراط في صراع مع الحكومة السورية.

وشهدت العلاقة تصاعداً مع التدخل الإسرائيلي المباشر، الذي شمل دعماً لوجستياً وعسكرياً أحياناً، وصولاً إلى قصف مواقع في دمشق خلال التوترات الأخيرة في تموز/يوليو الفائت، وهو ما أضعف قدرة الحكومة على معالجة الخلاف داخلياً.

وكما في التحديات السابقة، غاب الدور الأميركي الفعّال في الضغط على "إسرائيل" لوقف تدخلها في الصراع الداخلي السوري، مكتفية بتصريحات عامة حول "ضرورة احترام سيادة سوريا"، دون أن تتخذ خطوات عملية تمنع استمرار هذه التدخلات أو توفر حلاً سياسياً يحمي وحدة المجتمع السوري.

وهو ما أضعف بشكل كبير، القوة المركزية للحكومة الانتقالية، ودعم الدعوات الانفصالية، وكان بشكل عملي ممهداً للذهاب إلى مؤتمر الحسكة، الذي جمع ممثلين عن مختلف الأقليات في سوريا، وطالب بإدارة ذاتية، ودولة لا مركزية.

المشروع الأميركي في سوريا

رغم التصريحات الأميركية التي تبدو أحياناً داعمة للحكومة السورية الانتقالية، يظل الواقع مختلفاً؛ إذ تقترن أي إشارات دعم بخطوات تطبيعية مع "إسرائيل"، بينما تُغطّي الولايات المتحدة كل المشاريع التي تدعو إلى الانفصال عن الحكومة المركزية، سواء في الشمال الكردي أو في مناطق النزاع الدرزي. 

كما تمنع واشنطن أي قدرة فعلية لدمج أطياف المجتمع السوري المختلفة، وترفض ممارسة ضغوط جدية على "إسرائيل" لوقف تدخلاتها واعتداءاتها. 

النتيجة النهائية، هي أن السياسات الأميركية، بشكل أو بآخر، تمهد الطريق نحو تقسيم سوريا، وتطرح تساؤلات حول صدق النوايا الأميركية وقدرتها على دعم دمشق في مواجهة تحدياتها الكبرى والجيوسياسية، دون الإخلال بمصالح حلفائها الإقليميين.

اقرأ ايضاً: سوريا الشرع .. بين المنافسة الإقليمية وحسابات ترامب

اخترنا لك