المهاجرون الفنزويليون ورقة ضغط أميركية: ترحيل قسري إلى السلفادور وسجون مشددة

أزمة ترحيل المهاجرين الفنزويليين إلى السجون السلفادورية تمثّل أحد أكثر تجليات السياسة الدولية قسوةً وتجرّداً من البعد الإنساني في الأعوام الأخيرة، حيث تتحوّل مصائر أفراد عاديين إلى أدوات ضغط في صراعات جيوسياسية معقّدة.

  • المهاجرون الفنزويليون ورقة ضغط أميركية: ترحيل قسري إلى السلفادور وسجون مشددة
    مصير المهاجرين الفنزوليين المرحَّلين من الولايات المتحدة يبقى معلَّقاً في مهبّ قرارات قضائية مؤجَّلة، وحسابات دولية متشابكة، وتوازنات قوى متقلّبة

في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ لحظات التاريخ المعاصر، يتعرض مئات المهاجرين الفنزويليين للترحيل القسري من الولايات المتحدة إلى سجون مشددة الحراسة في السلفادور، بموجب قانون يعود إلى عام 1798، وسط انتقادات حقوقية ودولية متصاعدة، واتهامات بتحويل الهجرة إلى تجارة مربحة وأداة ضغط جيوسياسي. ففي منتصف آذار/مارس الحالي، أعلنت حكومة السلفادور استقبالها 238 فنزويلياً تم ترحيلهم من الولايات المتحدة إلى سجن "مركز احتجاز الإرهابيين"، سيئ السمعة، بعد أن وُصِفوا بأنهم "عناصر مشتبه في انتمائهم إلى عصابة ترين دي أراغوا"، وهي رواية اعتمدت عليها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من أجل تبرير الترحيل، بالاستناد إلى القانون سابق الذكر، والذي لم يُفعَّل منذ الحرب العالمية الثانية. لكنْ، خلف هذه الرواية، تتكشّف تفاصيل صادمة عن ترحيل قسري جرى من دون محاكمة أو اتهامات واضحة، وسط ظروف غير إنسانية، تنتهك القوانين الدولية.

القانون المذكور، والذي استخدمته إدارة ترامب، يمنح الحكومة الأميركية سلطات استثنائية تتيح ترحيل غير المواطنين من دون محاكمة، أو حتى مثول أمام قاضٍ. وكان هذا القانون استُخدم سابقاً ضد الأميركيين من أصول يابانية، خلال الحرب العالمية الثانية، ليُعاد إحياؤه اليوم ضد الفنزويليين، تحت ذريعة الانتماء إلى عصابات إجرامية. هذا التفعيل للقانون أثار ردود فعل واسعة، وعدّته منظمات حقوقية دولية سابقةً خطيرةً، تهدّد مبدأ المحاكمة العادلة، وتفتح الباب أمام استهداف جماعي قائم على الهوية والجنسية. وبحسب تقارير إعلامية، دفعت واشنطن 6 ملايين دولار إلى حكومة السلفادور، في مقابل استقبال هؤلاء المرحّلين، الأمر الذي دفع مسؤولين فنزويليين إلى اتهام البلدين بتحويل المهاجرين إلى "سلعة تُباع وتشترى".

لم يتأخر الرد الرسمي الفنزويلي على هذه الإجراءات، إذ صعّدت كاراكاس لهجتها الدبلوماسية تجاه كل من واشنطن وسان سلفادور. الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، وصف ما يحدث بأنه "فاشية جديدة" و"انتهاك جماعي لحقوق الإنسان"، وخصّ الرئيس السلفادوري، نجيب بوكيلة، باتهامات مباشرة، قائلاً إنه "يحتضن معسكرات اعتقال جديدة، ويخدم المصالح الأميركية على حساب كرامة أبناء أميركا اللاتينية". وفي السياق نفسه، وصفت ديلسي رودريغيز، وهي نائبة الرئيس الفنزويلي، سجون السلفادور بأنها "معسكرات اعتقال حديثة"، مطالبةً بتدخل دولي فوري لإيقاف ما أكدت أنه "انتهاكات جسيمة للقانون الدولي". وأعلنت الحكومة الفنزويلية، منذ أيام، تحركات قانونية، شملت تقديم دعاوى أمام المحاكم السلفادورية. ورفعت مكاتب محاماة فنزويلية طلبات إلى المحكمة العليا في سان سلفادور، للمطالبة بالإفراج عن المرحَّلين، أو تقديمهم إلى محاكمات عادلة.

وبين القصص التي فجّرت موجةً من الغضب، شعبياً ورسمياً، تبرز حالة الحلّاق الفنزويلي فرانسيسكو غارسيا، الذي رُحِّل إلى السلفادور فقط لأنه يحمل وشوماً، على الرغم من خلوّ سجله الجنائي من أي مخالفة. وصرّحت والدته بأن ابنها "تعرّض للخداع، ووقّع أوراقاً ظنّاً منه أنها تخص عودته إلى فنزويلا، لكنه أُرسل إلى سجن مشدد الحراسة في بلد ثالث". كذلك، ظهرت قصة الشاب ميرفين يامارتي، الذي أُلقي القبض عليه في دالاس مع أصدقائه ورُحّل إلى السلفادور من دون أن تُوجَّه إليه تهم واضحة. وأثار ظهور يامارتي في فيديو رسمي، بثّه الرئيس السلفادوري، ضمن مجموعة من "المشتبهين"، صدمةً لدى أسرته، التي أكدت أن ابنها "كان يخطط العودة الطوعية إلى فنزويلا بسبب تدهور ظروفه المعيشية في الولايات المتحدة".

ولم يتأخر التضامن الشعبي داخل فنزويلا، إذ خرجت عائلات المرحَّلين في تظاهرات حاشدة، ورفعت شكاوى إلى الهيئات الرسمية، كما أطلقت حملة توقيعات شعبية تطالب بإعادتهم فوراً إلى البلاد. وبدأت بالفعل، منذ فترة، رحلات العودة ضمن "خطة العودة إلى الوطن" الحكومية، والتي استقبلت حتى الآن أربع دفعات من المهاجرين القادمين من الولايات المتحدة ودول أخرى، على الرغم من أن وتيرة الرحلات ما زالت غير منتظمة. وأكد وزير الداخلية الفنزويلي، ديوسدادو كابيو، أن أياً من المرحَّلين لا ينتمي إلى عصابة "ترين دي أراغوا"، مشدداً على أن الرواية الأميركية - السلفادورية تمثّل "محاولةً مكشوفةً لتبرير سياسة الترحيل القسري وتحويل المهاجرين إلى أدوات في لعبة سياسية إقليمية".

في الخلفية الأوسع، لا يمكن فصل ما يجري عن العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على فنزويلا، منذ ما لا يقل عن عقدين، والتي أدّت إلى موجات هجرة ضخمة في اتجاه دول أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية والولايات المتحدة. واتهمت كاراكاس المعارضة اليمينية الفنزويلية، ولاسيما زعيمتها الحالية، ماريا كورينا ماتشادو، وزعيمها السابق، خوان غوايدو، بالمشاركة في ترويج روايات تربط بين المهاجرين الفنزويليين والجريمة المنظمة، لتبرير القمع بحقهم. وتقول الحكومة الفنزويلية إن هذه الروايات الكاذبة تهدف إلى "تقويض صورة المهاجرين وتشريع سياسات الترحيل الجماعي، التي تصبّ في نهاية المطاف في مصلحة استراتيجية الضغط القصوى"، في إشارة إلى نهج واشنطن منذ سنوات ضد الحكومة البوليفارية ومادورو.

التصعيد لم يبقَ محصوراً في فنزويلا وحدها، بل امتد أيضاً إلى دول ومنظمات إقليمية ودولية، بحيث أصدرت مجموعة من الدول والمنظمات الاجتماعية بيانات إدانة لما يحدث بحق المهاجرين الفنزويليين. ووصف بعضُ البيانات ما يجري بحقهم بأنه "عبودية حديثة"، في اتهام لحكومتي واشنطن وسان سلفادور بانتهاك القوانين الدولية وتحويل الهجرة إلى تجارة سياسية. وعبّرت منظمات حقوقية دولية، ومنظمات من روسيا وإيطاليا وإيران وبوليفيا، ودول أخرى، عن تضامنها مع المهاجرين، مطالبةً بالإفراج الفوري عنهم، ورفع العقوبات المفروضة على فنزويلا، ووقف العمل بالقوانين "الاستثنائية" التي تستهدف المهاجرين لأسباب سياسية وجيواستراتيجية.

في مواجهة هذه الحملة، تبنّت الحكومة الفنزويلية سياسة مزدوجة، تقوم على الضغط، دبلوماسياً وقانونياً، من جهة، وتكثيف العمل الإعلامي من جهة أخرى، في محاولة لكشف الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون الفنزويليون في الخارج. ووجّه مادورو انتقادات لاذعة إلى الأمم المتحدة، متهماً إياها بـ"الصمت المتواطئ تجاه هذه الانتهاكات"، في إشارة إلى أن ذلك "يشبه تماماً صمتها على ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة". وفي السياق نفسه، أكد ممثل فنزويلا في الأمم المتحدة، ألكسندر يانيز، أن ما يجري يمثّل "انتهاكاً صريحاً لميثاق المنظمة الدولية"، محذراً من أن استخدام "قانون عام 1798" يمثّل "سابقةً قد تُطبَّق لاحقاً على مهاجري دول أخرى في أميركا اللاتينية".

وفي تطور لافت خلال الأيام الأخيرة، شهد الملف تحركات جديدة على المستويين القضائي والدبلوماسي، قد تعيد رسم مسار الأزمة. تقدّمت مجموعة من المحامين في السلفادور بعريضة أمام المحكمة الدستورية العليا للطعن في قانونية احتجاز المرحَّلين الفنزويليين، مستندةً إلى خروق دستورية، تمسّ الحق في الحرية والمحاكمة العادلة. وفي الوقت نفسه، كثّفت الحكومة الفنزويلية جهودها لتأمين عودة مواطنيها، معلنةً استقبال دفعة خامسة من المرحَّلين، وسط شهادات جديدة عن التعذيب النفسي والجسدي في مراكز الاحتجاز. كما اتّسعت دائرة الإدانة الدولية، إذ وصف بيان صادر عن مجموعة من الحقوقيين والدبلوماسيين ما يجري بأنه "مأسسة للإتجار بالبشر"، ودعا إلى فتح تحقيق أممي مستقل. وبينما تواصل كاراكاس تحرّكها القانوني لإطلاق سراح المرحَّلين، تتزايد الضغوط على واشنطن وسان سلفادور لتقديم توضيحات، في ظل تأكّل السردية الرسمية، وتنامي الأصوات التي ترى في هذه الإجراءات انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني.

تمثّل أزمة ترحيل المهاجرين الفنزويليين إلى السجون السلفادورية – بعد مأساة فلسطين وغزة المستمرة – أحد أكثر تجليات السياسة الدولية قسوةً وتجرّداً من البعد الإنساني في الأعوام الأخيرة، بحيث تتحوّل مصائر أفراد عاديين إلى أدوات ضغط في صراعات جيوسياسية معقّدة. فالولايات المتحدة، التي لم تتوانَ عن استخدام كل أوراق الضغط المتاحة ضد حكومة كاراكاس، لم تكتفِ بالعقوبات الاقتصادية، التي استهدفت قطاعات استراتيجية كالنفط، ولا بتمويل المعارضة اليمينية ومحاولات زعزعة الاستقرار، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك عبر استخدام ورقة المهاجرين أنفسهم، فاقتادتهم إلى السجون كونهم رهائن سياسية في معركة النفوذ. وفي المقابل، تصرّ فنزويلا على عدم الرضوخ لهذا الابتزاز، وتسعى جاهدةً لاستعادة مواطنيها والدفاع عن كرامتهم وحقوقهم. وبين هذا وذاك، يبقى مصير المهاجرين المرحَّلين معلَّقاً في مهبّ قرارات قضائية مؤجَّلة، وحسابات دولية متشابكة، وتوازنات قوى متقلّبة. 

اخترنا لك