بوليفيا على مفترق تاريخي: من رفاق الثورة إلى خصوم السياسة في معضلة الانتخابات المقبلة
تواجه بوليفيا لحظة حاسمة مع تصاعد الانقسام داخل اليسار الحاكم بين مؤيدي موراليس وآرسي، في ظل أزمة اقتصادية وسياسية تهدد المشروع اليساري وتفتح الباب أمام عودة محتملة لليمين.
-
رئيس بوليفيا الحالي لويس آرسي والسابق إيفو موراليس
تبدو بوليفيا، وهي على مشارف انتخابات رئاسية في آب/أغسطس المقبل، أقرب ما تكون إلى مفترق وجودي يهدد أحد أكثر مشاريعها السياسية طموحاً منذ بداية القرن الحالي. لقد بدأ النظام الذي تشكّل مع صعود اليسار بزعامة إيفو موراليس في مطلع الألفية الجديدة يتآكل على يد من شيّدوه، إذ شهد العامان الأخيران تصاعداً في الخلافات داخل حزب "الحركة نحو الاشتراكية" الحاكم، وانتقالها من الغرف المغلقة إلى سلسلة من التظاهرات المنقسمة بين تيار مؤيد للرئيس السابق موراليس، وآخر يدعم الرئيس الحالي لويس آرسي.
على مدار العامين الماضيين، تداخلت مؤسسات الدولة، من الشرطة إلى القضاء، مع الخلاف الشديد بين هذين التيّارين، الذي شمل قضايا قضائية في أروقة المحاكم، واشتباكات مباشرة في الشوارع، واعتقالات، وخطر يلوح في الأفق قد يطوي صفحة اليسار في هذا البلد لمدة أعوام.
أحدث حلقات هذا الصراع تمثلت في إعلان حزب "الحركة نحو الاشتراكية"، السبت الماضي، اختيار إدواردو ديل كاستيو مرشّحاً رسمياً لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، ليحلّ محلّ الرئيس آرسي الذي أعلن مؤخراً عدم الترشّح. وجاء ترشيح ديل كاستيو بعد استقالته من منصبه كوزير للداخلية، وذلك بعد يوم واحد فقط من تظاهرة التيار المؤيد لموراليس في العاصمة لاباز، مطالبة بالسماح للأخير بخوض الانتخابات.
لم يكن قرار آرسي بالتنحي مفاجئاً بقدر ما كان اعترافاً بعمق الأزمة التي تهزّ بالبنية السياسية للحزب الحاكم، والذي تراجع من موقع الهيمنة المطلقة إلى ساحة اشتباك داخلي مفتوحة بين رفاق الأمس. تشكَّلت معالم الانقسام بين تيّاريّ موراليس وآرسي بعد نحو عامين من الانقلاب الذي أطاح بموراليس في 2019، رغم فوزه في الانتخابات آنذاك، ثم ظهرت الخلافات تدريجياً عقب عودته من المنفى إثر فوز آرسي في الانتخابات بالعام التالي. وتوالت هذه الخلافات، بدايةً من خلافات حول الأداء الاقتصادي لآرسي بعد عامه الأول، مروراً باتهامات علنية، وتحشيداً إعلامياً، وعرقلة تشريعية في البرلمان، وصولاً إلى مواجهة حول الشرعية داخل الحزب، أفضت إلى إقصاء موراليس من الحزب في أيار/مايو الماضي بعد خسارته المعركة القانونية والتنظيمية للاحتفاظ برئاسة الحزب.
ولم يكن غريباً في هذا المناخ المشحون أن تتحوّل الخلافات إلى صدامات ميدانية، حيث خرج أنصار موراليس في عدة مناسبات للتظاهر ضد ما اعتبروه "تهميشاً متعمداً" له و"محاولة لإقصائه سياسياً وقضائياً" من الحياة العامة. وقد بلغ التصعيد ذروته في أيلول/سبتمبر الماضي، حين قاد موراليس بنفسه "مسيرة إنقاذ بوليفيا"، التي امتدّت على مسافة 190 كيلومتراً من منطقة كاراكوللو إلى العاصمة لاباز، في استعراض قوة شعبي ورسالة سياسية مباشرة ضد قيادة آرسي. وفي المقابل، ردّ التيار الرسمي داخل الحزب باتهام موراليس بالسعي إلى "تقويض الحكومة المنتخبة" و"تفكيك وحدة المعسكر التقدّمي"، وهو ما أفضى إلى انقسامات داخل النقابات والاتحادات الاجتماعية التي كانت تقليدياً القاعدة الصلبة لحكم اليسار.
وإلى جانب المعركة السياسية، فُتِحَت قضية بحق موراليس في العام الماضي بتهمة تتعلّق باغتصاب قاصر في عام 2016 إبّان فترة رئاسته. وقد رفض موراليس هذه التهم، معتبراً إياها جزءاً من "حملة مبرمجة لاستبعاده من الترشح للرئاسة"، ووصف القضاء بـ "المنحاز والخاضع"، مشيراً إلى أن القاضي الذي أصدر المذكرة عُيِّن خلال ولاية آرسي. وتزامن التصعيد القضائي ضد موراليس مع اتهامات بمحاولة اغتياله في أواخر العام الماضي، حين تعرّضت سيارته لإطلاق نار في حادث لم تُسفر التحقيقات بشأنه عن نتائج حاسمة، لكنه غذّى مناخ الشك وانعدام الثقة بين طرفي الصراع. وصدر في يناير الماضي مذكرة باعتقال موراليس، ما دفعه إلى الاحتماء بمسقط رأسه في منطقة تشاباري حيث يحظى بحماية قواعده النقابية الراسخة. وعلى أي حال، ألغت القاضية ليليان مورينو مذكرة الاعتقال وجميع الإجراءات المتخذة بحقه منذ أسابيع، لكنها سرعان ما تعرّضت للاعتقال ونُقلت إلى لاباز بتهم تتعلّق بخرق قرارات المحكمة الدستورية.
أعلن موراليس في شباط/فبراير الماضي أنه سيخوض الانتخابات الرئاسية عبر حزب "الجبهة من أجل النصر"، متحدّياً قرار المحكمة الدستورية بمنعه من الترشُّح، وذلك استناداً إلى "ثغرة دستورية" تتيح له الترشُّح لولاية رابعة رغماً عن قرار المحكمة. وعلاوة على ذلك، قام موراليس في مارس الماضي بتأسيس حزب جديد باسم "إيفو الشعب"، ورافق ذلك انشقاقات واسعة في صفوف الحزب الحاكم. وقوبل قرار موراليس بتأييد حاشد من أنصاره الذين تظاهروا مؤخراً في لاباز للمطالبة برفع الحظر الدستوري عن ترشُّحه، في حين لجأ الحزب الحاكم أخيراً إلى ترشيح ديل كاستيو بدلاً من آرسي لضمان حفظ مكانة "الحركة نحو الاشتراكية" والسيطرة على الدولة.
بدا لجوء حزب "الحركة نحو الاشتراكية" إلى ترشيح ديل كاستيو بدلاً من آرسي خياراً يسعى لإعادة تموضع وسط أزمة قيادة خانقة وخلافات داخلية حول الأداء الاقتصادي، في ظل تراجع شعبية آرسي وعزوفه عن الترشُّح، مقابل صعود نسبي لأندرو رودريغيز، رئيس مجلس الشيوخ الشاب الذي نأى بنفسه عن الاصطفافات المباشرة رغم انحداره من عباءة موراليس وقرر الترشُّح في الانتخابات الرئاسية. ولكن على أي حال، لم يبدد هذا الترشيح الانقسام داخل "الحركة نحو الاشتراكية" من جهة، وبين الأخير ومؤيدي موراليس من جهة أخرى، وإنما أضاف طبقة جديدة من الالتباس إلى مشهد انتخابي يفتقر إلى مرجعية موحّدة داخل اليسار البوليفي، في وقت تتربَّص فيه قوى يمينية محلية وإقليمية ودولية لضرب المشروع اليساري في البلاد.
خلافات "الحركة نحو الاشتراكية" والتنظيمات المرتبطة به كانت في الأصل تدور حول الأداء الاقتصادي لحكومة آرسي، ورغم أنها تحوّلت في مسار تعقيدها إلى أزمة سياسية خطيرة، بَقِيَت الخلفية الاقتصادية حاضرة في المشهد. بدأت مؤشرات التباطؤ تتضح بجلاء خلال عام 2021 تحت وطأة إجراءات حكومة الانقلاب التي تشكَّلَت في عام 2019 وجائحة كوفيد-19 إلى جانب بعض الإجراءات التي اتخذتها حكومة آرسي. وارتفع الدين العام من نحو 54% في عام 2018 إلى أكثر من 81% من الناتج المحلي بحلول العام الماضي، فيما تراجع النمو الحقيقي إلى أقل من 2%.
ورغم استقرار معدل البطالة نسبياً، فإن التضخم سجَّل ارتفاعاً حاداً بلغ 10% العام الماضي، في ظل شحّ حاد في الدولار وعودة طوابير الوقود إلى شوارع المدن الكبرى. وكان لافتاً اضطرار الدولة إلى بيع جزء من احتياطات الذهب لتأمين واردات الوقود مؤخراً، وهو مشهد عكس هشاشة احتياطي العملة الصعبة، وبيَّن إلى أي مدى أصبح النموذج المعتمد في عهد موراليس يواجه اختبارات قاسية تحت إدارة آرسي.
وعلى وقع هذا المناخ الاقتصادي والسياسي، لا يتوقف المشهد الانتخابي في بوليفيا عند حدود الصراع بين التيارَين المتنازعين داخل اليسار والانقسامات الأخرى داخله، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما يبدو أنه أزمة تمثيل أشمل تطال جميع أجنحة الطيف السياسي في البلاد. وكما هو حال اليسار، ما زالت المعارضة اليمينية مشتتة، رغم نجاحها في تسجيل عدد كبير من التحالفات الحزبية لدى اللجنة الانتخابية. ورغم أن انقسام اليسار يُعَدّ فرصة لعودة قوى اليمين إلى السلطة بعد قرابة عقدين من التهميش، لم تنجح هذه القوى حتى الآن في تقديم مرشّح موحَّد في الانتخابات الرئاسية المقبلة. مُرشَّحون مثل صموئيل ميدينا وخورخي كيروغا ومانفريد رييس ليسوا إلا إعادة تدوير لوجوه قديمة فقدت زخمها الشعبي، خاصة وأن بعضهم تورّط في انقلاب 2019 أو الترويج لسياسات خصخصة جذرية. وبينما تحاول المعارضة استنساخ تجارب اليمين المتطرف في الإقليم، يبقى رهانها معلقاً على انهيار ثقة الناخبين بيسار مشتت أكثر من كونه موحَّداً على برنامج مشترك.
كل ذلك يجري في لحظة إقليمية وعالمية دقيقة، حيث يشتد الصراع الجيوسياسي حول ثروات أميركا الجنوبية، وعلى رأسها الليثيوم. العقود التي أبرمتها بوليفيا مع شركات صينية وروسية لتطوير استخراج الليثيوم من أكبر مُسطّح ملحي في العالم (سالار دي أويوني) أثارت قلقاً متزايداً في دوائر النفوذ الغربية. وتشير تحليلات عديدة إلى أن الانقسام السياسي الحالي، ربما لا ينفصل عن تلك الصراعات، خصوصاً في ظل مساعٍ أميركية لإعادة تشكيل النفوذ في الإقليم عبر دعم أطراف بعينها أو الدفع نحو انقسامات داخلية تسهّل الوصول إلى الموارد الاستراتيجية.
وعلى بُعد أقل من ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات المقررة في 17 آب/أغسطس المقبل، تبدو بوليفيا أمام اختبار مصيري. فبين محاولات إقصاء موراليس قضائياً، وحالة التململ في الشارع، وتهاوي الثقة بمؤسسات الوساطة السياسية، تلوح احتمالات التصعيد في الأفق. وإذا استمر العجز عن إيجاد تسوية داخل معسكر اليسار، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً لن يكون انتقالاً سَلِساً للسلطة، وإنما قد يكون إعادة إنتاج لانفجارات 2019 بشكل أكثر تعقيداً ودموية. فما يظهر اليوم كخلاف بين رفاق الأمس، قد يكون غداً ممرّاً لتفكك الكتلة التاريخية التي حكمت بوليفيا لأكثر من عقد ونصف، ومدخلاً لقوى اليمين العالمي بقيادة واشنطن ورعاياها المحليين الذين قد يتجرؤون ويشنّون انقلاباً في ظل تشتت قوى معسكر اليسار.