جورج عبد الله: قرار بالإفراج عن أقدم أسير في أوروبا بعد 41 عاماً من السجن
قرار قضائي فرنسي بالإفراج عن جورج عبد الله في 25 تموز/يوليو 2025 بعد 41 عاماً قضاها في السجون. تعرّف إلى قصة أقدم أسير سياسي في أوروبا.
-
المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله (الميادين نت)
يُنتظر أن تطوي فرنسا صفحةً من أطول فصول الاعتقال السياسي في أوروبا يوم 25 تموز/يوليو 2025، بإطلاق سراح المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله الذي قضى أكثر من 41 عاماً في السجون الفرنسية. القرار القضائي الذي صدر اليوم، بالإفراج عنه جاء نتيجة ضغوط شعبية وحقوقية، لبنانية ودولية، استمرّت لعقود، مطالبةً بإنهاء احتجازه كأقدم أسير سياسي في أوروبا.
وقد أثار هذا الإعلان القضائي ارتياحاً واسعاً في لبنان والعالم العربي، باعتباره خطوة نحو تحقيق العدالة، بعدما تجاوز عبد الله كلّ الشروط القانونية للإفراج منذ عام 1999.
لكنّه بقي خلف القضبان بفعل تدخّلات سياسية، خاصّة من الولايات المتحدة، التي طالما اعتبرت عبد الله "خطراً على الأمن القومي" على الرغم من انتهاء مدة محكوميّته.
من هو جورج عبد الله؟
وُلد جورج عبد الله عام 1951 في بلدة القبيات شمال لبنان، في عائلة مسيحية مارونية. تلقّى تعليمه الجامعي في فرنسا حيث درس الفلسفة التي كانت مدخلاً له للتعرّف إلى الفكر اليساري والثوري والتفاعل معه.
عاد إلى لبنان مطلع الحرب الأهلية وانخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، مدفوعاً بإيمانه بقضية المقاومة ومناهضة الاستعمار والصهيونية.
اعتبر جورج عبد الله الكفاح المسلّح الطريق الوحيد للتحرّر، وهو ما جعله محلّ اهتمام وملاحقة من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية فيما بعد.
بداية نشاطه الثوري في لبنان وفلسطين
خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، نشط عبد الله ضمن الأوساط الثورية اليسارية في لبنان والمنطقة، وشكّل جزءاً من التيار القومي العربي المناهض للإمبريالية. وكان على علاقة وثيقة بعدد من الحركات اليسارية الأوروبية التي كانت تتقاطع معه في الموقف من الاستعمار.
وقد نُسبت إلى مجموعات مرتبطة بجورج عبد الله عمليات اغتيال استهدفت دبلوماسيين أميركيين وإسرائيليين في باريس، مما جعله هدفاً مباشراً للأجهزة الأمنية الفرنسية والغربية، على الرغم من غياب أي دليل مباشر يربطه بتلك العمليات.
ظروف اعتقاله في فرنسا
في عام 1984، أُلقي القبض على جورج عبد الله في مدينة ليون الفرنسية، بتهمة حيازة أوراق ثبوتية مزوّرة. وبعد فترةٍ قصيرة، وُجّهت إليه تهم تتعلّق بالمشاركة في أعمال عنف وإرهاب، استناداً إلى علاقاته السياسية وانتمائه السابق للجبهة الشعبية.
وعلى الرغم من ضآلة الأدلّة، بدأت الصحافة الفرنسية والأميركية بتضخيم القضية، وخلق مناخ سياسي ضاغط على القضاء. واعتُبر عبد الله منذ البداية سجيناً سياسياً لا جنائياً، وهو ما أكّدته عدّة منظمات حقوقية لاحقاً.
محاكمته والتعنّت في الإفراج عنه
في عام 1987، صدر بحقّ جورج عبد الله حكم بالسجن المؤبّد، رغم كلّ الاعتراضات على إجراءات المحاكمة. لم تُثبت التهم بشكل مباشر، لكنّ خلفيّة عبد الله السياسية ونشاطه الثوري كانا كافيين لإدانته بالنسبة لباريس.
ومع مرور السنوات، أُثيرت تساؤلات عديدة حول عدالة المحاكمة واستقلالية القضاء الفرنسي، ولا سيما بعد ظهور وثائق تؤكّد أن الضغوط الأميركية حالت دون الإفراج المبكر عنه، على الرغم من استيفائه للشروط القانونية لذلك.
وبحسب مذكّرات جاك أتالي، مستشار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، فقد ورد عام 1988: "لم تكن هناك أي أدلة قانونية ضد جورج إبراهيم عبد الله باستثناء الجواز المزوّر".
على الرغم من أنّ جورج عبد الله استوفى شروط الإفراج منذ عام 1999، إلا أنّ السلطات الفرنسية رفضت مراراً تنفيذ قرارات قضائية بالإفراج عنه، بسبب تدخّلات سياسية مباشرة، أبرزها من واشنطن. وقد اعترفت جهات فرنسية رسمية لاحقاً بوجود "ضغوط دبلوماسية" حالت دون إطلاق سراحه.
وكانت الحكومة الفرنسية تطلب ضمانات من الحكومة اللبنانية بترحيله فور الإفراج عنه، لكن ذلك لم يكن كافياً لإنهاء التعطيل.
41 عاماً في السجون الفرنسية: حياة خلف القضبان
قضى جورج عبد الله أكثر من 4 عقود في زنزانة فرنسية، لم يُبدِ فيها يوماً ندمه على قناعاته، بل ظلّ متمسّكاً بمبادئه السياسية والثورية. كتب رسائل ومقالات من داخل السجن عبّرت عن وعيه العميق بالقضية الوطنية، وموقفه من الأحداث الإقليمية.
لم يطلب عبد الله إطلاق سراحه مقابل تنازلات. وظلّ يرفض أي عرض للإفراج المشروط مقابل التخلي عن مواقفه. وقد أكسبه هذا الصمود احترام قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والعالمي.
وفي عام 2024، بعث المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، المعتقل في فرنسا، رسالة في "يوم الأسير الفلسطيني"، شدّد فيها على ضرورة إدراج قضية الأسرى ضمن مسار النضال الفلسطيني.
وأكّد أنّ تحريرهم واجب لا يحتمل التأجيل. واعتبر أنّ صمود الأسرى يعكس جوهر المقاومة في مواجهة الاحتلال، في وقت تتصاعد فيه سياسات القمع والإبادة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية بحقهم.
حملات التضامن المحلية والدولية
على مدى عقود، لم تتوقّف الحملات التضامنية مع جورج عبد الله، سواء في لبنان أو في فرنسا نفسها. وشاركت منظمات حقوقية ومجموعات يسارية وطلابية في الدفاع عنه، مطالبة بالإفراج الفوري عنه واعتباره أسيراً سياسياً.
وشكّلت المسيرات السنوية أمام سجنه في لانميزان (جنوب فرنسا) رمزاً لهذا التضامن، حيث كانت تتكرّر فيها شعارات: "الحرية لجورج عبد الله" و"فرنسا تسجن الشرفاء".
لماذا يعتبر جورج عبد الله "أقدم أسير في أوروبا"؟
باعتقال دام أكثر من 41 عاماً، يُعتبر جورج عبد الله أقدم معتقل سياسي في أوروبا. تجاوزت فترة اعتقاله بكثير تلك التي قضتها شخصيات معروفة من المعتقلين السياسيين في الغرب. وقد أصبح اسمه رمزاً عالمياً للظلم السياسي، وسوء استخدام القضاء في خدمة المصالح الجيوسياسية.
إنّ صموده طوال هذه السنوات جعله أيقونة في وجدان حركات المقاومة، ومرآة تُظهر ازدواجية المعايير في التعامل مع الحقوق والحريات.
الموقف اللبناني الرسمي والشعبي من قضيته
منذ بداية اعتقاله، طالبت أطراف لبنانية متعدّدة بالإفراج عن جورج عبد الله. و على الرغم من ضعف الزخم الرسمي أحياناً، لم تغب قضيته عن الساحة السياسية اللبنانية.
وشهدت العاصمة بيروت، وكذلك بلدته القبيات، استعدادات لاستقباله، وسط احتفاء إعلامي وشعبي واسع يعكس مدى حضور قضيته في الوعي الجماعي اللبناني.
وعلى مدى أعوام رُفضت طلبات إطلاق سراحه المشروط، وفي شباط/فبراير 2012 زار رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي العاصمة الفرنسية باريس وطالب بإطلاق سراحه، واصفاً إياه بـ "السجين السياسي".
وفي عام 2013، وافق القضاء الفرنسي مبدئياً على الإفراج عنه بشرط ترحيله إلى لبنان، لكن وزارة الداخلية الفرنسية لم تصدر أمر الترحيل اللازم لتنفيذ القرار، ما أبقاه في السجن.
وقد كلّف الرئيس ميشال عون عام 2018 المدير العام للأمن العام السابق اللواء عباس إبراهيم بالتواصل مع رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية برنارد إيمييه، سعياً لإيجاد حلّ لقضية جورج.
وقد نُظّمت عدّة تظاهرات أمام السفارة الفرنسية في بيروت، تطالب بالإفراج الفوري عن جورج عبد الله والتوقيع على قرار ترحيله إلى لبنان.
وكذلك، نظّمت "الحملة الوطنية لتحرير المناضل جورج إبراهيم عبد الله"، في عام 2021 اعتصاماً أمام السفارة الفرنسية في بيروت في الذكرى الـ70 لميلاده.
أبعاد الإفراج: سياسية.. قانونية.. وأخلاقية
يُمثّل قرار الإفراج عن جورج عبد الله تحوّلاً في الموقف الفرنسي، ربما نتيجة تغيّر المزاج العام، أو إدراك السلطات أنّ استمرار اعتقاله لم يعد مبرَّراً قانونياً أو سياسياً. وقد يرى البعض أنّ القرار جاء لتخفيف الضغط الحقوقي المتزايد، فيما يعتبره آخرون تصحيحاً متأخراً لظلم تاريخي.
كما يفتح هذا القرار الباب أمام مراجعة شاملة لملف المعتقلين السياسيين في أوروبا والعالم، والدور الذي تؤدّيه السياسة في توجيه القضاء.