سناء محيدلي فجّرت حاجز الاحتلال مبتسمةً.. اللحظات الأخيرة من حياة "عروس الجنوب"

الميادين نت يطّلع من شقيق "عروس الجنوب" على تفاصيل شخصية قبل تنفيذها عمليتها ضد الاحتلال عام 1985، وفي وصيتها تقول: "كم أنا سعيدة وفرحة بما فعلته.. أرجوكم أقبّل أياديكم لا تبكوني.. لا تحزنوا عليّ. بل افرحوا اضحكوا.. أنا الآن مزروعة في تراب الجنوب أسقيها من دمي".

  • سناء محيدلي فجرّت حاجز الاحتلال مبتسمةً..  اللحظات الأخيرة من حياة
    سناء لأهلها: سنعود إلى الجنوب ونقضي الصيف هناك (غرافيك: محمد دياب)

تركت زينة الصبايا وربطات الشعر الزاهية، فربطت شعرها وارتدت حلّة الانتماء إلى أديم الأرض وثراها. ارتدت بدلة النضال، وانتعلت "البسطار" العسكري ضد محتلٍ دنّس قريتها ولوّث أرض بلدها بممارساته الممتدة عبر حِقب الزمن من فلسطين إلى لبنان.

داهمت سناء محيدلي في 9 نيسان/ أبريل عام 1985 موقعاً لجيش الاحتلال قرب حاجز باتر – جزين بين الجنوب وجبل لبنان فكانت بحقّ "عروس الجنوب"!

"إن فيكم قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ"! 

بعد 40 عاماً على عملية "سناء محيدلي وفي ذكراها المتوقدة دوماً في نفوس شرفاء العرب والعالم، نتذكّر صبية لبنانية اقتحمت، وهي في الـ 17 من عمرها، تجمعاً لآليات جيش الاحتلال الإسرائيلي على معبر باتر–جزين، حيث كانت تتجمع أعداد كبيرة من الشاحنات والدبابات والآليات المجنزرة والعديد من المشاة المنسحبين من تلال الباروك ونيحا، وذلك باقتحامها القوة العسكرية للعدو الإسرائيلي بسيارة بيجو 504 مجهزة بـ200 كلغ من مادة ت.ن.ت شديدة الانفجار". بحسب بيان جبهة المقاومة الوطنية.

يومها، تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية أنباء هذه العملية الاستشهادية، كما اعترف الاحتلال بها، وتناولت وسائل إعلامه الخبر محذّرةً جنودها من حصول عمليات أخرى. 

وزعم الناطق العسكري في القيادة الشمالية بجيش الاحتلال بأن ضابطين فقط من الجيش قد قُتلا وأن جنديين آخرين أًصيبا بجروح من جرّاء العملية. كاشفاً أن السيارة المفخخة وصلت من بيروت، وانفجرت عندما اقترب جنود الاحتلال لتفتيشها.

  • الاستشهادية سناء محيدلي
    الاستشهادية سناء محيدلي

وكانت سناء تعمل في أوقات فراغها وبعد الدراسة في محل معد لبيع أشرطة الفيديو في منطقة المصيطبة - غرب بيروت، وخلال عملها هناك قامت بتسجيل 36 شريط فيديو للشهيد وجدي الصايغ الذي نفذ عملية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة قريبة من الموقع الذي نفذت فيه سناء عمليتها الاستشهادية لاحقاً، وفي المتجر نفسه أيضاً قامت بتسجيل وصيتها عبر الكاميرا.

في العاشرة من صباح يوم الأحد 24 آذار/ مارس 1985 خرجت من منزل ذويها في المصيطبة بحجة شراء طلاء للأظافر، وفي طريقها قالت لعناصر حاجز أمني قرب المنزل إنه في حال افتقادها عليهم إبلاغ ذويها أنها لن تعود. في السادسة مساءً بدأ البحث عنها عند الأهل والأقارب والأصدقاء من دون جدوى، ثم بدأت الاتصالات مع الأحزاب والأجهزة الأمنية من دون نتيجة.

كانت العائلة تتوقع سماع عملية بطولية ضد قوات الاحتلال لأن سناء قالت لصديقة قبل اختفائها بثلاثة أيام إنها ستقوم بعمل يتحدث عنه أهلها والناس بفخر واعتزاز، وإن الكل سيقول إنه كان يعرف سناء وإن العمل في محل تأجير أفلام الفيديو لم يكن طموحها.

رسالة متلفزة لوصية الشهيدة

وفي مساء يوم العملية، أطلت الاستشهادية محيدلي عبر فيديو مسجّل من خلال شاشة تلفزيون لبنان لتعلن وصيتها بنفسها والتي قالت في جزء منها: "أحبائي إن الحياة وقفة عز فقط. أنا لم أمت بل حية بينكم أتنقل.. أغني.. أرقص.. أحقق كل آمالي.. كم أنا سعيدة وفرحة بهذه الشهادة البطلة التي قدمتها.. أرجوكم أقبّل أياديكم فرداً فرداً لا تبكوني.. لا تحزنوا عليّ. بل افرحوا اضحكوا.. أنا الآن مزروعة في تراب الجنوب أسقيها من دمي وحبّي لها.. لا تغضبوا عليّ لأني خرجت من البيت دون إعلامكم.. أنا لم أذهب لكي أتزوج ولا لكي أعيش مع أي شخص بل ذهبت للشهادة الشريفة الباسلة السعيدة.. وصيتي هي تسميتي "عروس الجنوب".

أجمل فستان من الوالدة لـ "عروس الجنوب"

وبثّ التلفزيون اللبناني مقابلة مع عائلة الشهيدة قال فيها والدها يوسف إنه معتز بابنته سناء وشبهها بجميلة الجزائرية، مضيفاً: لقد أرادت الاستشهاد من أجل الجنوب، أما والدتها السيدة فاطمة محيدلي فقالت إن شعور الاعتزاز لديها طغى على شعور الحزن وأنها بصدد إعداد أجمل فستان عرس لعروس الجنوب الحقيقية سناء محيدلي،  وكانت شقيقتها الصغرى عبير (10 سنوات) مفاجأة المقابلة التلفزيونية بقولها" أنا مستعدة للسير على طريق الشهادة لتحرير الجنوب تماماً كما فعلت أختي الشهيدة سناء".

واحتفظ الاحتلال برفاتها حتى تموز/ يوليو من العام 2008، حين تمت إعادتها خلال عملية "الرضوان" لتبادل الأسرى. فاستلمت قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي -الذي تنتمي إليه عروس الجنوب - رفاتها، وسلمتها لذويها لتُدْفَن في مسقط رأسها بلدة عنقون الجنوبية.

شقيق الشهيدة: عملية سناء كانت نقطة تحول

تواصلنا مع شقيق الشهيدة، رامي، الذي نشر منذ أيام عبر صفحته قصيدة لابنته "سناء" تقول في أبياتها:

"أنا “سناءُ” الطفلةُ… وفي اسمي حكايتكِ

أحملُ عبيركِ في دمي، وأُنشِدُ رايتكِ

يا عمّتي، يا عروسَ الجنوبِ والمَدى

هل تسمعين ابنةَ أخيكِ، تُقسم ألا تهتدى؟

لن أنحني، فالعزُّ في كفّي ارتوى

وسيفُكِ باقٍ، لا يُغمدُ في المدى"!

هذه الكلمات الصادقة خير دليل على جدوى بذرة المقاومة التي زرعتها "عروس الجنوب"، ويذكر التاريخ أن العملية كانت مفصلاً مهماً في انجلاء فجر المقاومة الوطنية اللبنانية في وجه المحتل آنذاك، فكرّت العمليات الاستشهادية النوعية، التي شارك فيها مناضلات مثل: وفاء نور الدين، ابتسام حرب، لولا عبود وغيرهن..

كما لعبت المرأة الجنوبية دورها الفاعل في التظاهرات والانتفاضات ضد قوات الاحتلال في القرى الجنوبية، واستخدم بعضهن الزيت المغلي والحجارة في وجه المحتل.

وتنهض هذه الكلمات شاهداً على أننا قادرون، في شتى الأماكان والمجالات، على هزيمة الاحتلال، بوحدتنا وتضامننا، على نهج سناء المؤمنة بقول: "إن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ".

ألم يقل الشاعر عصام العريضي في سناء:

"لم يَعُدْ اسمي ذكاء
قالتِ الشمسُ حَيِيّه
أنا بعد اليوم أصبحتُ سَنَاءْ
أجملُ الأسماءِ اِسْمٌ لِصَبِيّةْ
أعطتِ العالَمَ درساً في الِفداءْ
جاءَ في حَجْمِ القضيّةْ
علَّمَ الأجيال بعدَ اليومِ
أنَّ الهَمَجيَّهْ
سُحِقَتْ من تحتِ أقدام صَبيَّهْ
اسمها الضّاحك للشمسِ سناءْ
اعذريني يا سَماءْ
قالتِ الشّمس السّنيةْ".

يقول شقيق الشهيدة "منذ عام 1985، تغيّرت أمور كثيرة على مستوى الشكل، لكن جوهر المعركة لم يتغيّر. آنذاك كان الجنوب اللبناني رازحاً تحت الاحتلال الإسرائيلي، وكنا محرومين من العودة إلى أرضنا، إلى ترابنا. أما اليوم، ورغم تحرير الجنوب، ما زال في دائرة الخطر، وما زال العدو الإسرائيلي يعتدي ويقصف وينتهك السيادة اللبنانية. سناء لم تكن مجرد شهيدة، بل كانت نقطة تحوّل؛ جسّدت بإيمانها ودمها أن "إسرائيل" يمكن أن تُهزَم، وأن الحرية تستحق أن نضحي من أجلها.

أما عن سناء الطفلة والفتاة في بيت أهلها فيقول رامي: سناء كانت الأخت الكبرى، والأحنّ علينا جميعاً. كانت قلب البيت وروحه. تمتاز بحنانها وهدوئها وطيبة قلبها. كانت تساعد والدتي في كل تفاصيل الحياة اليومية، وتحتضننا بمحبة الأم. نضجها كان ظاهرًا في تصرفاتها، في أسلوب حديثها، وفي قدرتها على التعبير عن قضايا أكبر من عمرها بكثير. كانت كثيرة التأمل، عميقة التفكير، تحمل في داخلها وجع الجنوب وكرامة الأرض، حتى وهي في أبسط لحظات الحياة اليومية.

وتابع "سناء لم تتخذ قرارها نتيجة حماسة لحظية، بل نتيجة وعي تراكمي عميق. لم تكن تحضر ندوات سياسية، ولكن بحكم عملها، كانت تطّلع على العمليات الاستشهادية التي نفّذها الأبطال الذين سبقوها. تأثرت بهم بصدق، وكانت تتابعهم وتقرأ عنهم، ما شكّل لديها يقينًا راسخًا بأن الاحتلال لا يُواجه إلا بالمقاومة، وأن الشهادة ليست نهاية، بل بداية للتحرير. انتماؤها لقضيتها لم يكن شكليًا، بل متجذرًا في وجدانها ووعيها ورؤيتها للحياة والكرامة".

تأثرت بالشهيد بلال فحص

"كان حلم سناء أن تتحرر أرضنا، وأن نعود إلى الجنوب من دون حواجز، من دون إذن من الاحتلال"، يقول رامي، ويتابع: كانت تقول دائمًا: "إسرائيل ستُهزَم، وسنعود إلى الجنوب"، تأثرت كثيرًا بالشهيد البطل بلال فحص، وكان له مكانة خاصة في قلبها، وكانت ترى فيه مثلاً  أعلى في الإيمان والثبات والشجاعة. كما تأثرت بفكر الرئيس أنطون سعادة، وكانت تردّد عباراته وتؤمن بفكرته في النهوض والتحرر والمقاومة".

وعن أيام ولحظات سناء الأخيرة يقول: "في الأيام الأخيرة، بدا واضحًا أن سناء كانت تتحضّر لأمر ما. كان في عينيها بريق غريب… سكينة ممزوجة بعزم لا يوصف. لم تُفصح عن شيء، لكنها كانت تبتسم أكثر، تتأمل أكثر، وكأنها بدأت تودّع الحياة بهدوء العظماء. 

  • من إحياء الذكرى السنوية قرب حاجز باتر - جزين
    من إحياء الذكرى السنوية قرب حاجز باتر - جزين

حاولت الاتصال بخالي غالب حمية أكثر من مرة، لكنه لم يتمكن من التواصل معها. وبعد رحيلها، اكتشفنا أنها تركت هدايا رمزية لأبي وأمي، تذكارات الوداع… لكنها لم تقل كلمة واحدة تشير إلى نيتها، لأنها كانت تعرف أن الفعل أبلغ من كل الكلام".

تحرير الجنوب لا يكتمل من دون تحرير فلسطين

أما عن حضور فلسطين المحتلة في وعي سناء فيقول رامي: فلسطين كانت في صلب وجدان سناء. لم تكن تفصل يومًا بين الجنوب وفلسطين، بل كانت تعتبر أن معركتنا واحدة، وأن الاحتلال واحد، وأن النصر لا يتجزأ. كانت تتابع كل ما يجري في فلسطين، وتتكلم عنها بحرقة وانتماء كامل. 

بالنسبة إليها، كان تحرير الجنوب لا يكتمل من دون تحرير فلسطين، ولا كرامة للبنان من دون كرامة لفلسطين. كانت تؤمن أن الشهادة في سبيل الجنوب هي أيضًا طريق إلى القدس، وأن العدو واحد، والمقاومة واحدة، والحرية لا تُجزّأ.

هكذا كانت تحتضننا: ابتسموا!

يصف رامي أخته فيقول: سناء لم تكن فقط شهيدة. كانت إنسانة استثنائية في تفاصيلها اليومية، في بساطتها، في حضورها الدافئ بيننا. كانت الأخت الكبرى، لكنها كانت أكثر من أخت… كانت حناننا الكامل، كانت الحضن الذي نرجع إليه من تعب النهار، وكانت الابتسامة التي تبرد الهمّ حتى من دون كلام.

في الفترة الأخيرة قبل تنفيذ عمليتها، كانت تعود من عملها إلى المنزل بطاقة إيجابية ملحوظة. مشهدها لا يغيب عن ذاكرتنا: تدخل إلى البيت بابتسامتها المعهودة، تحتضن والدتي وتقول لها: ابتسمي… اضحكي، أريدك دائمًا أن تظلي مبتسمة.

  • ضريح سناء في بلدتها عنقون - جنوب لبنان
    ضريح سناء في بلدتها عنقون - جنوب لبنان

كأنها كانت تزرع نورًا في تفاصيلنا، وكأنها كانت تُهيّئنا لغيابٍ لم نفهمه حينذاك.سنعود إلى الجنوب ونقضي الصيف هناك

 ويختم رامي بالقول: "في كل لقاء عائلي، كانت تردّد بثقة وطمأنينة: سنعود إلى الجنوب، سنقضي الصيف كله هناك… في أرضنا الطاهرة. لم تكن تقول ذلك كشعار… بل كانت تقولها كحقيقة آتية، كيقين محفور في وجدانها.

سناء لم تكن شهيدة فقط لأنها فجّرت جسدها في وجه الاحتلال، بل لأنها فجّرت فينا وعياً، وحباً، وكرامة… سناء كانت أيقونة حقيقية تمشي بيننا".

اخترنا لك