صوت الشغالين وضجيج السياسة: عيد عمال بطعم الانقسام في تونس

شهدت العاصمة التونسية سلسلةً من التحرّكات لمناسبة اليوم العالمي لعيد العمال، وحملت هذه التحرّكات شعارات ورسائل متباينة، تعكس حجم التوتر السياسي وتأزّم الوضع الاجتماعي الذي تمرّ به البلاد.

  • من المظاهرات ضدّ الرئيس التونسي في عيد العمال (أ ف ب)
    من التظاهرات ضدّ الرئيس التونسي في عيد العمال (أ ف ب)

شهدت العاصمة التونسية سلسلة من التحرّكات بمناسبة اليوم العالمي لعيد العمال، وحملت هذه التحرّكات شعارات ورسائل متباينة تعكس حجم التوتر السياسي وتأزّم الوضع الاجتماعي الذي تمرّ به البلاد، وبدل أن يكون هذا اليوم مناسبة لإعلاء صوت الشغّالين وتوحيد المطالب الاجتماعية، تحوّل إلى لحظة سياسية كشفت عمق الانقسام في الشارع، وتعدّد الرهانات التي تُمزّق النسيج الوطني، هذه التحرّكات وإن كانت متزامنة، فقد اختلفت في الشعارات والخطاب، لتؤكّد أنّ تونس تعيش أزمة مركّبة، تتجاوز البعدين الاقتصادي والاجتماعي إلى مأزق سياسي.

اتحاد الشغل يسعى إلى استعادة المبادرة

في ساحة محمد علي الحامي، حيث التاريخ النقابي يعانق الذاكرة الوطنية، صعد الأمين العام للاتحاد العامّ التونسي للشغل نور الدين الطبوبي إلى المنصة وهو يدرك أنّ الرهانات اليوم تتجاوز تحسين الأجور أو إصلاح الصناديق الاجتماعية.

وفي خطاب تصعيدي، قال الأمين العام للاتحاد بوضوح: "تونس تمرّ بأزمة خانقة مسّت جميع المستويات، وعمّقتها أزمة عالمية حادّة، وإنّ محاكمة الرأي والتعبير أصبحت خبزاً يومياً، وشملت النقابيين والمدوّنين والإعلاميين، موضحاً أنّ الأمل في تونس تبخّر في ظلّ التفرّد بالرأي والقرار".

ولا يحمل هذا الخطاب فقط مضموناً احتجاجياً، بل يشير إلى توصيف دقيق لأزمة الوضع الحالي، حيث يتم استبعاد التشاركية في غياب حوار وطني، وهو ما أكده الطبوبي في كلمته المطوّلة بمناسبة عيد العمال.

ولكن ما يجعل هذا الخطاب أكثر تعقيداً، هو أنه يصدر في وقت يعيش فيه الاتحاد نفسه هزّة داخلية غير مسبوقة، تحوّلت إلى كرة ثلج متدحرجة، نتيجة انقسامات حادّة بين قيادات مكتبه التنفيذي، دفعت 5 أمناء عامّين مساعدين (أنور بن قدور، وصلاح الدين السالمي، والطاهر البرباري، ومنعم عميرة، وعثمان الجلولي) للمطالبة باستقالة الأمين العام للاتحاد نور الدين طبوبي.

ويطالب الأعضاء الخمسة بتبكير موعد عقد المؤتمر الانتخابي، والسبب الرئيس يعود لرفضهم توجّهات القيادة الحالية، ورغبتهم في إنهاء المدة النيابية الحالية قبل موعدها المقرّر عام 2027 ، إضافة الى تشكيك قطاعات مهنية في جدوى تحرّكات المركزية النقابية وفي قدرتها على افتكاك مكاسب فعلية، خاصة بعد تجميد جولات التفاوض وغياب الأثر الفوري لأيّ تحرّك، إلى جانب الضغط الاجتماعي من القاعدة خصوصاً في ظلّ الوضع المعيشي المتردّي، وتجميد الأجور، وارتفاع الأسعار، كلّها عوامل جعلت الاتحاد مطالباً بنتائج عاجلة، بينما فضاؤه للمناورة يضيق أكثر فأكثر.

وفي ظلّ كلّ هذه الظروف، بدا خطاب الطبوبي وكأنه محاولة لـ"استعادة المبادرة" من داخل حالة الشكّ، ولإعادة ترسيم دور الاتحاد كمؤسسة سياسية-اجتماعية لا يمكن تجاوزها، لا في التفاوض ولا في هندسة المرحلة المقبلة.

تراجع الحريات: أزمة تتفاقم

وعلى بعد أمتار من تجمّع العمال في ساحة محمد علي، خرجت مجموعة من الناشطين الحقوقيين والصحافيين والمدوّنين في وقفة رمزية دفاعاً عن حرية التعبير وحرية الصحافة، في ظلّ ما يعتبرونه تراجعاً مقلقاً للمكاسب الديمقراطية، وفي هذا السياق قال الناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري وسام الصغير في تصريح للميادين نت "لقد أصبحت الحريات في تونس شبه معدومة، في ظلّ موجة من الإيقافات والاعتقالات التي طالت معارضين وناشطين، واعتماد القضاء كأداة لتصفية الخصومات السياسية" وأضاف "أنه ومع إدماج الجهاز القضائي في دوائر التنافس السياسي، لم تعد هناك إمكانية للتعبير الحرّ، إلا من خلال رفع الصوت بالتنديد بهذه المظالم".

ويأتي هذا التحرّك في ظلّ تزايد المحاكمات ضدّ الصحافيين والقضاة والمعارضين، من ذلك اعتقال القاضي السابق أحمد الصواب، الذي شكّل اعتقاله بحسب مراقبين نقطة مفصلية في هذا الصراع، ورفع من منسوب الغضب الحقوقي.

وقد قوبل المرسوم 54 بانتقادات واسعة إذ اعتُبر سيفاً مصلتاً على حرية التعبير وفق حقوقيين، وارتفعت على أثره محاكمات بتهم تتعلّق بـ"نشر الأخبار الكاذبة"، وهو ما أدانته منظّمات دولية ومحلية.

تحرّك أنصار الرئيس.. السيادة أولاً

وفي شارع الحبيب بورقية رمز الثورة خرج أنصار الرئيس  قيس سعيّد، حاملين رسالة واحدة مفادها "السيادة الوطنية خط أحمر".

وجاء هذا التحرّك كردّ فعل على انتقادات خارجية وجّهتها جهات أوروبية وأميركية في إثر أحكام بالسجن على عدد من المعارضين السياسيين في قضية ما يعرف بالتآمر على أمن الدولة، حيث اعتُبر في بعض العواصم الغربية مؤشراً خطيراً على تراجع استقلال القضاء.

وفي حديث للميادين نت قال صبري مبروك عضو مجلس الأقاليم عن محافظة القيروان "إنّ الدفاع عن الوطن حقّ مشروع، كما أنّ الحفاظ على الكرامة الوطنية واجب لا حياد عنه، لقد تربّينا على هذه المبادئ، ونؤمن بضرورة غرسها في الأجيال القادمة" مضيفاً  "إن هذا الحضور الشعبي الكثيف اليوم ليس مجرّد تظاهرة، بل هو رسالة واضحة ومضمونة الوصول إلى كلّ من يحاول المساس بالسيادة الوطنية، وإلى أولئك الذين يستقوون بالخارج ويستعينون بالأجنبي للعودة إلى المشهد السياسي عبر التضليل والتزوير والتحايل على إرادة الشعب التونسي".

ومن جانبه قال أحد المتظاهرين إنّ الحضور في هذا التحرّك هو رسالة قوية نؤكّد من خلالها دعمنا لرئيس الجمهورية، في الخيارات الوطنية المستقلة التي تنأى بتونس عن التبعية وتضع المصلحة العليا فوق كلّ اعتبار.

وأعرب الرئيس التونسي قيس سعيّد، الثلاثاء، عن رفضه ما سمّاه "التدخّل الأجنبي السافر" في شؤون بلاده، بعد إصدار دول وجهات أجنبية بيانات انتقدت أحكاماً قضائية ضدّ معارضين له بتهمة "التآمر على الدولة".

وكشف عن موقفه خلال استقباله وزير خارجيته محمد علي النفطي في قصر قرطاج، وفق بيان صدر عن الرئاسة التونسية، حيث أشار البيان إلى أنّ سعيّد أكد خلال اللقاء أنّ "التصريحات والبيانات الصادرة عن جهات أجنبية، مرفوضة شكلاً وتفصيلاً، وتعدّ تدخلاً سافراً في الشأن الداخلي التونسي". 

الحوار ممكن 

رغم التباين الحادّ في المواقف والشعارات، فإنّ سلسلة التحرّكات التي شهدتها تونس بمناسبة عيد العمال تؤكّد أنّ البلاد تعيش لحظة دقيقة تتطلّب إصغاءً حقيقياً لأصوات كلّ الأطراف. فالمطالب الاجتماعية المشروعة، والدعوات لاحترام الحريات، والتمسّك بالسيادة الوطنية، ليست بالضرورة متعارضة، بل يمكن وفق مراقبين أن تكون منطلقاً لحوار وطني جامع يعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها. ولا يمكن تجاوز هذا المنعطف إلا بإرادة سياسية صادقة، تضع مصلحة البلاد فوق كلّ الحسابات، وتعيد بناء المشهد على قاعدة التوازن والحوار والتشاركية، لتجاوز الخلافات والنهوض بالبلاد قدماً.

اخترنا لك