قضية هيلية دوتاغي.. الحريات والأكاديميا قيد الملاحقة
في إطار سياسات ترامب ومحاولاته لإسكات الأصوات الداعمة لفلسطين.. تتواصل حملة ملاحقة الطلاب المشاركين في الاحتجاجات ضد الإبادة في غزة، وأخرها إيقاف هيلية دوتاغي، الباحثة في جامعة ييل.
-
الباحثة في جامعة ييل الأميركية هيلية دوتاغي
في الشهر الثالث من ولايته، تتحول وعود حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانتخابية إلى واقع يطارد الطلاب العرب والدوليين المشاركين في الاحتجاجات على عملية الإبادة الإسرائيلية في غزة. إذ وعد بترحيلهم، وسجن "المحرّضين" على التظاهرات التي وصفها بغير القانونية. وتفجرت قضية الطالب الفلسطيني في جامعة كولومبيا، محمود خليل، الذي اعتقلته سلطة الهجرة الفيدرالية بناءً على أمر من وزارة الخارجية بإلغاء بطاقته الخضراء (الإقامة) ومن ثم ترحيله، في إجراء بدا تمهيداً لملاحقة أمنية واسعة، تتسق وخطاب ترامب وبرنامجه، المرتكزَين على أسس أبرزها "خطر المهاجرين"، ومنها "حق إسرائيل في دعم أكبر".
تبدو تلك الإجراءات الجديدة انقلاباً على القيم الليبرالية الأساسية، وخصوصية المجال الأكاديمي وحريته. ومخالفة للتعديل الدستوري الأول، وفق ناقديها، الذي يحظر تحريك الادعاء ضد أشخاص وفق خطابهم، ويمنع وضع قيود حكومية تميّز بين الآراء أو دفْع الأفراد لدعم خطاب يختلفون معه. لكنها تعكس جانباً جوهرياً من برنامج ترامب اليميني المتطرف، الهادف لإعادة تركيز رؤوس الأموال والإنتاج محلياً، والحمائية الاقتصادية (فرض التعريفات الجمركية)، وخفض الكلفة السياسية والمالية للهيمنة. في تطبيق لنسخة أقدم من السياسات الاستعمارية، تتباين ونسخة العولمة الرأسمالية المستقرة، التي يمثلها الحزب الديمقراطي، وقد اشتبكت سابقاً مع القضاء، باعتباره مساحة لنفوذ الأخير، ومع المجال الأكاديمي الذي تصفه بمعقل لأفكار اليسار.
يمثّل الطالب، الذي نال درجة الماجستير في كانون الأول/ديسمبر، طليعة التحرك الطلابي المناهض للإبادة في جامعة كولومبيا، العام الماضي، وسبق أن تم إحالته للتحقيق أمام لجنة تأديبية، ساءلت عشرات الطلاب المؤيدين للفلسطينيين. لكن محكمة فيدرالية، المحكمة الجزئية في مانهاتن - نيويورك برئاسة القاضي جيسي فورمان، أصدرت قراراً يمنع السلطة من ترحيله، إلا بأمر المحكمة، مخاطبة محامي الإدارة الأميركية بطلب ادعاء أوضح ضد الطالب.
ويؤكد خبراء قانونيون أن لقاضي الهجرة وحده صلاحية إلغاء الإقامة، حال توجيه ادعاء، وليس للسلطة التنفيذية، بينما أصدر قاضٍ فيدرالي آخر في مقاطعة كولومبيا أمراً تقييدياً مؤقتاً يمنع الحكومة من ترحيل 5 فنزويليين لمدة 14 يوماً، بعد أن رفعت منظمتان حقوقيتان دعوى قضائية، اتهمتا فيها إدارة ترامب بالشروع في استخدام قانون الأعداء الأجانب لعام 1798، الذي يمتنع تفعيله سوى وقت الحرب، وفق نص الدعوى.
قضية هيلي دوتاغي
قضية أخرى ظهرت في ذات السياق مع توجه إدارة ترامب لمراجعة التمويل الحكومي لجامعة ييل، وعدة جامعات شهدت الاحتجاجات. إذ أوقفت الجامعة هيلي دوتاغي، الباحثة في القانون الدولي والجغرافيا السياسية، ذات الكتابات البحثية المختصة في قوانين العقوبات على الدول.
تولت هيلي منصب نائب مدير برنامج القانون والاقتصاد السياسي في كلية ييل للقانون، في أول تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، ونالت درجة الماجستير في القانون من كينغز كوليدج - لندن، والدكتوراه في الدراسات القانونية في جامعة كارلتون، بعد خمس سنوات من البحث في نظام العقوبات على إيران، وتحليل أضرار العقوبات على الشعوب بصفتها أحد أنواع العنف، والمستفيدين منها، وتداعياتها وطبيعتها الإمبريالية المعادية لدول الجنوب العالمي، لا سيما الرافضة للسياسات الأميركية.
اتهمت منصة الكترونية صهيونية، مدعومة بالذكاء الاصطناعي، الباحثة التي درست العقوبات الأميركية على المصارف وقبلها درست القانون والعلوم السياسية، بأنها عضوة في "منظمة إرهابية"، وتروج لأنشطتها وتجمع تبرعات لصالح شبكة (صامدون) للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين، التي صنفتها الولايات المتحدة "إرهابية" منتصف تشرين الأول/أكتوبر عام 2024 وأدرجتها على قائمة العقوبات، بزعم ارتباطها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وقالت صامدون في بيان عن حظر أنشطتها وتصنيفها بالإرهاب، إن القوى الإمبريالية تصادر صوت الشعب الفلسطيني والعربي في الشتات وناشطين دوليين، يقاومون دعم الدول الكبرى للاحتلال. وأوضحت أن آلاف الناشطين اعتُقلوا واقتُحمت منازلهم في أميركا الشمالية وأوروبا، في بلدان مختلفة، وتلقوا أوامر ترحيل بسبب نشاطهم السلمي، مع حظر ألمانيا للشبكة، في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
عُرفت هيلي بدفاعها عن الحقوق الفلسطينية والكفاح من أجل التحرر من قبل 7 أكتوبر. وسبق لها جمع شهادات لمواطنين من عدة دول تعرضت للعقوبات الأميركية، في محاكمة شعبية عالمية للسياسات الإمبريالية والعقوبات استغرق تنظيمها عامين. ولها كتابات عن الأعمال العدوانية الأميركية ضد العراق وأفغانستان، والقوانين الدولية للحرب، والحصانة الأميركية من التعرض لادعاء قانوني دولي لانتهاكها. وانتقدت "فشل نظام القانون الدولي في صيانة أبسط قواعده"، خاصة تجاه غزة والفلسطينيين.
دوتاغي ورفض الصمت والامتثال لشروط العمل المقيدة
بعد قرار الجامعة وقف حسابها الإلكتروني على الشبكة الداخلية ومنحها إجازة، قالت هيلي في مقابلة مع الصحافي جيرمي سكوهيل، صاحب كتاب (بلاك ووتر والحروب القذرة)، إنها لم تقبل سابقاً العمل بشرط الصمت والامتناع عن إبداء الرأي أو المساومة على مبادئها. وأكدت أنها بصفتها الأكاديمية تؤمن أن معنى المعرفة هو أن تكون في خدمة المستضعفين.
وأوضحت أن قضيتها ليست حالة فردية، بل في سياق حملة لردع الجميع عن قول الحقيقة، والتفكير بشكل نقدي أو تحدي سرديات الإعلام السائد للشركات الكبرى، والأكاديميا الغربية التقليدية، للحفاظ على هيمنة والتحكم في هذه السرديات. وأشارت إلى أن الوعي والأفكار و"الخطاب" يقعان في قلب الصراع مع منظومة الهيمنة.
وقالت هيلي إنها علمت بتقرير منصة (جويش أونلاين) عنها في اليوم التالي لصدوره، ولم تأخذه على محمل الجد أولاً، لكن تبع النشر حملة تشويه ودعاية فاشية، نظمتها مجموعات وصفحات يمينية متطرفة، بعضها ناشط في الجامعة نفسها، على موقع إكس. وأُبلغت لاحقاً أن "أعلى مستوى إداري" في كلية القانون اطلع على التقرير، وتم استدعاؤها لما وُصف بمقابلة فورية مساء نفس اليوم. فأبلغت محاميها الذي تحدَث مع الممثل القانوني للجامعة، التي رفضت تأجيل المقابلة لليوم التالي أو الإفصاح عن طبيعة الاستدعاء. كما طلبت رداً مكتوباً من هيلي على طلب التأجيل، ولم تنتظر الرسالة وأرسلت فور انتهاء مكالمة محاميها رسالة تعلمها بحظر دخولها الحرم الجامعي، وحظر حسابها الإلكتروني، تلاها حذف اسمها من المشاركين ببرنامج القانون والاقتصاد السياسي.
اللافت أن كلية القانون كلفت مستشاراً قانونياً متعاقداً من خارج الجامعة، يفخر بتقديم خدمة الاستشارات لـ "إسرائيل" كما يوضح موقعه الرسمي، وفق قول هيلي، ويعمل ممثلاً قانونياً لشركات سلاح وصناعات جو-فضائية، وشركات ذات استثمارات في المجال العسكري ومستلزمات إبادة الفلسطينيين في غزة. ما يعني تضارب مصالح واضح، يجعل مَن تنتقدهم الباحثة محققين معها أو جهة مساءلة، ويُسقط حقها القانوني الأساسي في حياد الجهة التي تسألها، فضلاً عن حرمانها الوقت الكافي للتشاور مع ممثلها القانوني، ورفض إرسال السبب في إجراء المقابلة، والاستناد على تقرير انتج بالذكاء الاصطناعي، لم يقدم أي أدلة على اتهاماته المرسلة، التي تحتاج - بفرض جديتها - إلى جهة أو لجنة فحص تقوم بتحقيق، يشمل استجواب الباحثة ويجمع أدلة كافية.