ما وراء الاشتباكات الأخيرة في ليبيا.. أزمة شرعية متعددة الرؤوس
تطرح الاشتباكات العنيفة التي شهدتها العاصمة الليبيبة طرابلس الأسبوع الفائت، إشكاليات متعددة حول مرجعية القرار على الأرض، وتداخل المصالح بين القوات العسكرية، والخلافات بين حكومة الوحدة والمجلس الرئاسي.
-
أطفال يمرون بسيارة مدمرة ومحروقة نتيجة الاشتباكات جنوبي طرابلس (13 أيار/مايو 2025) (أ ف ب)
بعد أسبوع دام، استعاد معه سكان العاصمة الليبية طرابلس ذكريات أليمة ليست بعيدة من الاقتتال بين أبناء المدينة الواحدة والشعب الواحد، عادت منذ الخميس أجواء الهدوء الحذر لتعم غالبية الأحياء التي شهدت مواجهات عنيفة، أسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.
وبغض النظر عن رسائل التهدئة التي حاول المجلس الرئاسي بثها في صفوف الليبيين، بإعلانه فتح تحقيق موسع عن المتسبب في الأحداث الأخيرة التي شهدتها العاصمة الأسبوع الماضي، فإن هواجس العودة إلى المربع الأول، أمنياً وسياسياً، قفزت لتشكل العنوان الأبرز للنقاشات في ليبيا، لكنّ سؤالاً بعينه تكرر خلال اليومين الماضيين.. هل من يملك السلاح هو من يملك القرار في ليبيا حالياً؟
نقطة الاشتعال.. من اغتال غنيوة؟
رغم تضارب الروايات وغموضها، حول ظروف مقتله، فإن المؤكد، أن اغتيال قائد "جهاز دعم الاستقرار" عبد الغني الككلي والمشهور بلقب " غنيوة"، كان هو على الأقل السبب المباشر في إشعال مواجهات شوارع دموية، شهدتها أحياء جنوب العاصمة، بين عناصر "جهاز دعم الاستقرار " و قوات "اللواء 444 "، واللافت ليس فقط توسع القتال إلى أنحاء متفرقة من العاصمة طرابلس، ولكن تصاعد وتيرة المعارك، ودخول أسلحة ثقيلة ومدرعات إلى ساحات المواجهة، الأمر الذي بعث برسائل مقلقة جداً، حول الوضعين العسكري والأمني في ليبيا.
الجماعات المسلحة.. دولة داخل الدولة
قصة صعود غنيوة، كما يسميه المقربون منه، إلى دوائر التأثير في صناعة القرارين العسكري والسياسي في ليبيا، تعكس إلى حد بعيد، جانباً كبيراً من الأزمة المركبة والمعقدة، التي تفرمل كل محاولات القوى الحية والمخلصة داخل ليبيا وخارجها، لبلورة مشروع سياسي لدولة لطالما حلم بها الشعب الليبي منذ عقود.
يترأس عبد الغني الككلي منذ سنوات جهاز دعم الاستقرار، وهو قوة عسكرية كبيرة تتبع نظرياً المجلس الرئاسي باعتباره قائد الأركان الأعلى في البلاد بحسب اتفاقية جنيف، لكن الشواهد على الأرض، تؤكد أن هذا الجهاز، يتمتع باستقلالية شبه كلية، وهو يشكل جسماً عسكرياً وسياسياً يسيطر على أحياء هامة وواسعة في العاصمة الليبية طرابلس، بل إن قائده "غنيوة"، الذي اغتيل الأسبوع الماضي، يطلق عليه في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض التقارير الإعلامية بأنه "صانع الحكام" في طرابلس.
أما الطرف الثاني في المواجهات الدامية التي شهدتها ليبيا خلال الأيام الماضية، فهو "اللواء 444"، هو تشكيل عسكري قوي جداً داخل المنطقة الغربية من عموم ليبيا، وهو يتبع أيضاً وللمفارقة إلى المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي، الأمر الذي يذكرنا بالسؤال الكبير في البلاد، من يملك سلطة القرار فعلياً على الأرض؟
هذا الوجود الكثيف للفصائل المسلحة في طرابلس شكل معضلة أمام أي سلطة مركزية تحاول إعادة بناء مؤسسات الدولة، فبعد 2011، أصبحت العاصمة مقسّمة فعلياً بين مجموعات أمنية عديدة، لكل منها مناطق نفوذها، ومرجعياتها، وولاءاتها المتشابكة.
الدبيبة بين مطرقة السلاح وسندان "الرئاسي"
ورغم محاولة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الاستفادة من التوازن بين هذه القوى لفرض سيطرته على القرار الأمني، فإن التجربة أثبتت أن هذه المعادلة هشّة بطبعها، وقابلة للاشتعال في أي لحظة.
وبدا هذا واضحاً في التجربة المريرة التي عاشتها ليبيا خلال الأيام الماضية، حين عمد الدبيبة إلى إصدار سلسلة من القرارات ذات الطابع الأمني، من بينها إقالة بعض القيادات الأمنية، ومحاولة إعادة هيكلة "جهاز دعم الاستقرار"، وهو ما عدّه خصومه محاولة للتمركز أكثر داخل الأجهزة المسلحة وإعادة توزيع خريطة الولاءات.
لكن هذه الخطوات لم تمر بهدوء، فقد أصدر المجلس الرئاسي الليبي، باعتباره القائد الأعلى للجيش الليبي، قراراً عاجلاً بتجميد كافة القرارات الأمنية والعسكرية التي صدرت مؤخراً عن الحكومة، في خطوة تُقرأ على أنها اعتراض صريح على محاولة الدبيبة الاستفراد بملف السلاح.
وفي بيان رسمي، دعا المجلس الرئاسي إلى "الوقف الفوري لإطلاق النار وعودة التشكيلات كافة إلى مقارها"، مطالباً بـ"فتح تحقيق عاجل وشفاف في الأحداث"، ومهدداً بـ"اتخاذ إجراءات سيادية رادعة" إن استمرت الانتهاكات.
ما وراء الاشتباكات.. أزمة شرعية متعددة الرؤوس
بعيداً من الميدان، تكشف الاشتباكات الأخيرة عن أزمة بنيوية عميقة تضرب المؤسسة الأمنية الليبية، فغياب قيادة عسكرية موحّدة، وتداخل الصلاحيات بين المجلس الرئاسي، ورئاسة الحكومة، ورئاسة الأركان، جعلا من الفصائل المسلحة لاعباً أساسياً لا يمكن تجاوزه، بل وغالباً ما يُسترضى على حساب بناء الدولة.
من هنا، يمكن قراءة التطورات الأخيرة على أنها فصل جديد من الصراع على الشرعية، لا سيّما مع تجدد الحديث عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية المؤجلة، وتعثر مسارات التوحيد المؤسساتي، وفشل المبادرات الدولية في وضع حدّ لتعدد مراكز القرار.