مدينة الفاشر في السودان.. بين المأساة الإنسانية وفظائع "الإبادة الجماعية"

  • مدينة الفاشر في السودان.. بين المأساة الإنسانية وفظائع الإبادة الجماعية
    مدينة الفاشر في السودان.. بين المأساة الإنسانية وفظائع الإبادة الجماعية

ثمانية عشر شهراً عاشتها مدينة الفاشر تحت الحصار وفي ظروف إنسانية بالغة التعقيد، حيث النقص الكبير في الغذاء والدواء، مع تكثيف الهجمات اليومية عليها، حتى بلغت مئتين وسبعة وستين هجوماً. وفي يومي السبت والأحد صد الجيش السوداني والقوات المساندة له هجوماً كبيراً لمليشيا الدعم السريع على مدينة الفاشر وكبدتها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. وأصدرت الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني (مقرها الرئيسي مدينة الفاشر) بياناً رسمياً أكدت فيه أن الهجوم وقع من خمسة محاور وباستخدام المشاة والمركبات القتالية والمدرعات والمصفحات "بمساندة أعداد كبيرة من المرتزقة القادمين من كولومبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى".

قرار الانسحاب من الفاشر

اشتداد المعارك وازدياد القتلى من المدنيين جعل قيادة الجيش السوداني في الفاشر والقوات المساندة لها تقرر الإنسحاب من المدينة، كما ذكر قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في كلمته للشعب السوداني يوم الاثنين 27 أكتوبر 2025 والتي بثها التلفزيون الرسمي. وجاء فيها: "وافقنا على انسحاب الجيش من الفاشر لمكان آمن. القيادة وإدارة الأمن بالفاشر نجحوا في أن يغادروا المدينة ليجنّبوها المزيد من الدماء والدمار والخراب ". وفي ختام كلمته أكد: "عازمون على تطهير الأرض وسنقضي على هؤلاء المرتزقة".

بعده بأربع وعشرين ساعة وجّه حاكم دارفور مني أركو مناوي خطاباً ذكر فيه عدة نقاط أهمها قوله: "رغم الإمكانيات الهائلة التي وفرتها الدولة الراعية والممولة لهذه الحرب، إلا أننا نعترف بوجود أخطاء وإخفاقات يتحملها الجميع. يجب علينا إصلاح أي أخطاء بشكل صارم لحماية البلاد من الغزو". وأضاف: " نحن أهل دارفور جزء أصيل من السودان. لضمان وحدة السودان، يجب هزيمة الأداة التي تستغلها القوى الساعية للاحتلال، وهي الدعم السريع. هذه معركة وجودية لا تقف عند سقوط مدينة واحدة ".

اقرأ أيضاً: "الجيش السوداني يلاحق الدعم السريع.. الميدان والتحولات الاستراتيجية"

"الوضع مأساوي".. آلاف القتلى والمصابين ومئات آلاف النازحين

وبالنسبة للوضع الإنساني بعد سقوط مدينة الفاشر في قبضة الدعم السريع، فقد وصفت المفوض المناوب لحقوق الإنسان بالسودان، منى نور الدائم، الوضع في الفاشر بالمأساوي والكارثي، وقالت إن الدعم السريع تلاحق الفارين من الفاشر بالقتل والنهب والاغتصاب، كما استنكرت الصمت المريب من المنظمات الدولية لمخالفات وانتهاكات الدعم السريع. وأكدت أن عدد المدنيين الذين قُتلوا بلغ 2000 شخص بحسب الإحصاءات الأولية، كما جرت تصفية الجرحى والمرضى في المستشفيات، وقاموا بإعدام أصحاب التكايا والمطابخ الجماعية. واستهدفوا الكوادر الطبية والعاملين في المنظمات.

كذلك، صرّحت نقابة "أطباء السودان"، بأن "قوات الدعم السريع ارتكبت مجزرة مروعة بحق مدنيين عُزّل على أساس عرقي، في جريمة تطهير عرقي. مضيفة أن تقارير فرقها الميدانية تشير إلى أن عدد الضحايا يُقدّر بالآلاف، وسط صعوبات بالغة في التواصل وانعدام تام للأمن. وأفادت النقابة بوقوع انتهاكات واسعة النطاق من قبل قوات الدعم السريع، بما في ذلك "الإعدامات بإجراءات موجزة، ومداهمات المنازل، والعنف الجنسي، وإجبار الضحايا على حفر قبورهم ودفن أنفسهم أحياء". ولفت البيان إلى أن "الأبرياء أُعدموا حرقاً ويعتقد أن معظمهم تعرضوا لعمليات قتل جماعي، في حين لا يزال 177 ألف أسرة محاصرة فيها نحو 130 ألف طفل".

اقرأ أيضاً: "السودان في لاهاي.. محاولة قطع إمدادات الدعم السريع"

إدانات وردود أفعال تستنكر جرائم "الدعم السريع" 

وعلى مستوى ردود الأفعال، دانت حكومة السودان بأشد العبارات الجرائم التي وصفتها بـ"الإرهابية والمروّعة" التي ترتكبها الدعم السريع في مدينة الفاشر، مؤكدة أن هذه الانتهاكات تمثل "إبادة جماعية ممنهجة ضد المدنيين العزّل".

وقالت وزارة الخارجية والتعاون الدولي السودانية في بيان رسمي إن الدعم السريع نفذت عمليات قتل عنصري وترويع استهدفت النساء والأطفال وكبار السن، مشيرة إلى أن مرتكبي الجرائم يوثقون أفعالهم "بفخرٍ ووقاحة"، ما يعكس "الطبيعة الإجرامية للمليشيا التي احترفت سفك الدماء والإرهاب".

وأضاف البيان أن الدعم السريع خططت لهذه "الإبادة الجماعية عبر حصار مدينة الفاشر وتجويع سكانها لأكثر من عامين، لتتوج الحصار بمجزرة جديدة تُضاف إلى سجلّها الأسود".

و نقلت وكالة السودان للأنباء (سونا) تصريحاً لوزير الخارجية البريطاني ايفيت كوبر قال فيه: "نشهد نمطاً مقلقاً للغاية من الانتهاكات في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، بما في ذلك القتل والتعذيب والعنف الجنسي الممنهج".

و أضاف الوزير البريطاني أن دخول الدعم السريع إلى الفاشر، له تداعيات مروّعة ومدمرة على المدنيين، حيث أن مئات الآلاف محاصرون في المدينة، ويواجه الكثيرون منهم التهجير القسري والعنف العشوائي، وبالتالي فإن التبعات الإنسانية كارثية.

من جانبه ذكر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يتلقى تقارير متعددة ومقلقة تفيد بأن قوات الدعم السريع تنفذ فظائع، بما فيها عمليات إعدام بإجراءات موجزة.

وقال فولكر تورك المفوض السامي لحقوق الإنسان : "في الفاشر، تشير التقارير الأولية إلى وضع شديد الخطورة منذ أن أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مقر الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني".

وحذر من تصاعد خطر وقوع مزيد من الانتهاكات والفظائع واسعة النطاق ذات الدوافع القبلية في الفاشر يوماً بعد يوم. وشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة وملموسة لضمان حماية المدنيين في الفاشر وتأمين ممر آمن لمن يحاولون الوصول إلى أماكن آمنة نسبياً.

كما طالب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي جيم ريش بتسمية قوات الدعم السريع منظمة إرهابية على خلفية جرائمها وفظائعها في دارفور وآخرها في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور.

وقال في تغريدة على منصة (اكس) "لم تكن الفظائع في الفاشر بدارفور صدفة، بل كانت خطة قوات الدعم السريع منذ البداية". مضيفاً "شنّت قوات الدعم السريع أعمال إرهاب وارتكبت فظائع شنيعة، من بينها إبادة جماعية، ضد الشعب السوداني".

وأضاف "يجب أن تُسمّى قوات الدعم السريع بما هي عليه: منظمة إرهابية أجنبية، وأن تُصنّف رسمياً على هذا النحو".

اقرأ أيضاً: "نتائج المباحثات الأميركية السودانية في سويسرا.. ولماذا طلبت واشنطن اللقاء بالبرهان الآن؟"

وأدانت وزارة الخارجية التركية "بشدة الظلم المرتكب ضد المدنيين في مدينة الفاشر التي باتت تحت سيطرة قوات الدعم السريع".

وشددت الخارجية التركية على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في الفاشر وما حولها ووقف الهجمات على المدنيين الأبرياء وتوفير المرور الآمن وتسليم المساعدات الإنسانية من دون عوائق. مؤكدة دعمها لوحدة السودان وسلامة أراضيه وسيادته.

من جهة أخرى أكد تقرير صادر عن مختبر الأبحاث الإنسانية التابع لكلية ييل للصحة العامة، بجامعة ييل الأميركية أن شواهد مادية ونتائج بحث استقصائي أكدت ثبوت أدلة تُشير إلى ارتكاب قوات الدعم السريع عمليات قتل جماعي بعد سيطرتها على الفاشر، وذلك وفقاً لتحليل صور الأقمار الاصطناعية التي جُمعت يوم 27 أكتوبر 2025.

وأشار تقرير مختبر البحوث إلى أن "عمليات التطهير تجري من منزل إلى منزل".

وفي ذات السياق عبرت المتحدثة باسم الخارجية الألمانية، أنيكا كلاسن إدريس، عن الشعور بصدمة من التقارير الواردة من مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، نتيجة توغل مقاتلي مليشيا الدعم السريع المتمردة بعمق داخل المدينة. وقالت في تغريدة على منصة إكس، "يقتلون المدنيين بشكل عشوائي". وقالت "يجب أن يتوقف هذا فوراً".

من جانبه أدان رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي محمد على يوسف الفظائع والانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان والقانون الدولي التي ارتكبها الدعم السريع ضد المدنيين في الفاشر. وعبّر يوسف في بيان عن عمق أسفه للعنف الذي حدث في الفاشر، مؤكداً إدانة المفوضية بقوة لكل الاختراقات التي حدثت للقوانين الإنسانية والقانون الدولي المتعلقة بقتل المدنيين.

ونددت جامعة الدول العربية بالجرائم الوحشية ضد المدنيين في الفاشر وأبدت قلقها حيال تدهور الأوضاع الإنسانية إثر التصعيد العسكري وورود تقارير إعلامية وحقوقية حول ارتكاب جرائم مروعة ضد المدنيين هناك. وأشارت الأمانة العامة للجامعة العربية في بيان إلى أن الاعتداءات التي طالت النساء والأطفال تشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني ولقرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار 2736 (2024) الذي طالب برفع الحصار عن المدينة وضمان حماية المدنيين.

أما الدول العربية وعلى رأسها قطر والسعودية والكويت فقد سارعت إلى إصدار بيانات لإدانة ما حصل في الفاشر. وعبرت وزارة الخارجية القطرية في بيان، عن قلق دولة قطر العميق من الأوضاع المأساوية في مدينة الفاشر، مشددة على ضرورة حماية المدنيين، وضمان تأمين وصول المساعدات الإنسانية، والالتزام بالقانون الإنساني الدولي وفق ما ورد في إعلان جدة.

اقرأ أيضاً: "الفاشر تحت المجهر: أدلة أممية واستقصائية جديدة تكشف القتل الجماعي وأدواته"

كما أعربت وزارة الخارجية السعودية عن بالغ قلق المملكة العربية السعودية واستنكارها للانتهاكات الإنسانية الجسيمة التي جرت خلال الهجمات الأخيرة لقوات الدعم السريع على مدينة الفاشر. وأكدت المملكة العربية السعودية أهمية وحدة السودان وأمنه واستقراره.

من جانبها جدد بيان لوزارة الخارجية الكويتية تأكيد دولة الكويت "أهمية توفير الحماية للمدنيين في جمهورية السودان الشقيق، وضمان وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها من دون عوائق".

بدوره وصف رئيس مجلس الكنائس السوداني، عز الدين الطيب، ما حدث في مدينة الفاشر بالأمر المؤلم والمحزن لكل ضمير إنساني محب للسلام.

وطالب عز الدين في تصريح صحافي بوقف فوري للانتهاكات وإيصال المساعدات الإنسانية. وقال إنهم يتابعون الأحداث بقلق بالغ وإن المجلس يسعى بالتعاون مع شركائه المحليين والإقليميين والدوليين للمساهمة في الجهود الإنسانية وتقديم الدعم الشامل للمتضررين.

اقرأ أيضاً: "الجيش السوداني نحو دارفور.. هجوم بري لوقف المسيّرات"

منتصف نيسان/أبريل 2023 تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.

اخترنا لك