معادلة الردع الفنزويلية: كيف تواجه كاراكاس العسكرة الأميركية للبحر الكاريبي؟

الولايات المتحدة تريد كاريبي مطيعاً، وممرات طاقة مؤمّنة لصالح شركاتها، أما فنزويلا فإنّها تراهن على مزيج من الردع العسكري الصلب، والمناعة الاجتماعية المتولّدة من التجربة، والدعم السياسي المتنامي من حلفائها.

  • معادلة الردع الفنزويلية: كيف تواجه كاراكاس العسكرة الأميركية للبحر الكاريبي؟
    معادلة الردع الفنزويلية: كيف تواجه كاراكاس العسكرة الأميركية للبحر الكاريبي؟

تتحرّك الولايات المتحدة في البحر الكاريبي اليوم كما لو أنّها تعود إلى زمن الأساطيل العقابية أو ما يعرف باسم "دبلوماسية البوارج": أكثر من 15 ألف عسكري ضمن أسطول ضخم، ومعهم حاملة طائرات عملاقة، وغواصة نووية، وعشرات المقاتلات الجوية في قواعد معاد تأهيلها في بورتوريكو وجزر أخرى، تحت لافتة برّاقة عنوانها "مكافحة المخدرات" في إطار عملية تُسمى "رمح الجنوب". لكنّ جوهر المشهد هو أننا أمام محاولة لتثبيت وصاية أميركية على ممرّات الطاقة والموارد في الإقليم، واختبار مباشر لمدى استعداد فنزويلا للقبول بحدود مرسومة من الخارج. ولا تبدو فنزويلا، في مثل هذا المشهد، مجرّد بلد مهدَّد، وإنما ساحة مواجهة تتقاطع فيها رهانات واشنطن مع إصرار فنزويلي على بناء معادلة ردع تجعل كلفة المغامرة أعلى بكثير من أي مكاسب محتملة، وتحوّل البحر الكاريبي من فضاء مفتوح للأساطيل إلى فضاء تتقاطع فيه إرادات شعوب كاملة.

المدخل الأميركي إلى هذه المواجهة اختار القاموس نفسه الذي استُخدم في العراق وأفغانستان: "حروب نظيفة" ضد شبكات مخدرات عابرة للحدود، و"ضربات دقيقة" لقوارب مشبوهة، وتفويض سري لوكالة الاستخبارات لتنفيذ عمليات "استباقية". بيد أن الأرقام تكشف أكذوبة الغطاء الأخلاقي؛ فالقوارب التي جرى استهدافها حوَّلَت البحر المفتوح إلى ساحة إعدامات خارج أي مسار قضائي (سواء داخل الولايات المتحدة أو على صعيد دولي)، وعدد القتلى المدنيين (تخطى 80) يتزايد بينما تعجز واشنطن عن تقديم دليل واحد مقنع على صلات تلك القوارب الصغيرة بتجارة الكوكايين أو شبكات التمويل الإجرامي. إن ما يتأسس هنا ليس نظاماً إقليمياً أكثر أماناً تدافع عنه واشنطن، وإنما سابقة خطيرة تسمح باستخدام القوة المميتة بعيداً من أي رقابة قانونية أو سياسية، وتُعيد تعريف "الحرب على المخدرات" كترخيص مفتوح للعنف الإمبريالي.

وفي مواجهة هذا التصعيد، اختارت فنزويلا ألا تُحشر في زاوية رد الفعل الغريزي، وإنما أن تبني، بهدوء نسبي وإصرار، هندسة ردع جديدة عنوانها "الدفاع الشامل عن الوطن". قانون "القيادة الدفاعية" الذي أُقِرّ مؤخراً ليس مجرّد نص تنظيمي؛ إنّه آلية لدمج القوات المسلحة النظامية والأجهزة الأمنية والوزارات والبلديات والكوميونات والميليشيا الوطنية في شبكة واحدة، تتوزع على أقاليم ومناطق دفاع متكاملة من الساحل حتى أعالي الأنديز. الفكرة بسيطة وعميقة في آن واحد: إذا تحوّل المجتمع نفسه إلى بنية دفاعية واعية، فإن أي عدوان خارجي لن يواجه جيشاً فحسب، بل نسيجاً اجتماعياً مدرّباً يعرف تضاريس أرضه وسواحل بلاده أكثر بكثير من أي قوة غازية أو مغامر يبحث عن نصرٍ سريع.

وتكمّل الميليشيا الوطنية البوليفارية هذا التصوّر، بوصفها الجسر بين الجيش والمجتمع. أكثر من ثمانية ملايين متطوّع، من العمّال والفلاحين وموظفي الدولة وسكّان الأحياء والجامعات، يدخلون تدريجياً في برامج تدريب على الرماية وحرب المدن والإسناد اللوجستي والدفاع المدني والاتصالات الميدانية. وهذه ليست "قوة رمزية" كما تحبّ الدعاية الغربية أن تصفها، وإنما خزان بشري هائل يغيّر معنى الحسابات العسكرية التقليدية؛ تخيّل أن هناك ملايين من الناس حصلوا على تدريب عسكري مشابه بعض الشيء (وأبسط قليلاً ربما) لما يحصل عليه المنضمّون حديثاً إلى المقاومة الفلسطينية أو حزب الله على سبيل المثال؛ يا له من مشهد يستحق التأمل! أما بالنسبة إلى مخطّطي الحرب في واشنطن، فلم تعد المسألة مجرّد موازنة بين عدد الصواريخ ونقاط الاستهداف؛ وإنما بات عليهم التفكير في معنى التوغّل في بلد يمتلك قاعدة شعبية مسلحة قادرة على تحويل أيّ هجوم خاطف إلى حرب استنزاف طويلة وحصارٍ مكلف لقوات الاحتلال المفترضة.

وعلى المستوى التقني البحت، لا يمكن الاستخفاف بما راكمته فنزويلا من قدرات ردع صلبة خلال عقدين من الشراكة العسكرية مع روسيا وشركاء آخرين. أسطول مقاتلات "سوخوي سو-30" المزوَّدة بصواريخ مضادة للسفن، ومنظومات الدفاع الجوي بعيدة ومتوسطة المدى مثل "إس-300" و"بوك"، وشبكات الرادار المنتشرة على طول الساحل، تجعل من فكرة التفوّق الجوي الأميركي أمراً أقل بداهة مما تصوره بيانات "البنتاغون". وصحيح أنّ كفّة التكنولوجيا تميل لمصلحة واشنطن، لكنّ وجود هذه المنظومات، مع قدرة متنامية على صيانتها وتشغيلها محلياً، يعني أن أي ضربة واسعة قد تكلف خسائر سياسية وعسكرية يعجز البيت الأبيض عن تسويقها في الداخل الأميركي، خصوصاً بعد الحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان.

وإلى جانب الردع العسكري الكلاسيكي، تراهن كراكاس على عنصر آخر يقلّل المخططون الأميركيون من أهميته عادةً: صمود المجتمع تحت الحصار. فسنوات العقوبات الخانقة أجبرت فنزويلا على إعادة هيكلة اقتصادها باتجاه قدر أعلى من الاكتفاء الغذائي والدوائي، وتعزيز شبكات التوزيع الشعبي، وتشجيع الكوميونات المنتِجة في الريف والمدينة. ولم تلغِ هذه التحولات الأزمات أو التفاوتات، لكنها حوّلت كثيراً من الأحياء والقرى إلى وحدات إنتاج وتوزيع متشابكة مع الدولة والجيش استطاعت تجاوز معظم المشكلات السابقة وقادرة على تحمّل اضطرابات جديدة. وهنا، يتجاوز الردع معناه العسكري الضيق، ليصبح سؤالاً عن قدرة الإمبراطورية على تركيع مجتمع تعلّم قطاع كبير منه أن يعيش بأقل الواردات وبقدر أكبر من التنظيم الذاتي والاعتماد على العمل التعاوني. وهذا المستوى من المناعة المجتمعية يجعل الرهان على "تجويع الشعب" أقل واقعية وأكثر كلفة.

وفي الإقليم الأوسع، تكتسب استعدادات فنزويلا بعداً إضافياً من خلال كسر عزلتها السياسية. بيانات البرازيل وكولومبيا والمكسيك، ومعها أصوات من الكاريبي، لا تكتفي بانتقاد الضربات الأميركية، وإنما تعيد التذكير بإعلان القارة "منطقة سلام" وبمعاهدة "تلاتيلولكو" التي تحظر إدخال السلاح النووي إلى أميركا اللاتينية؛ أصبح جلياً في الإقليم أنه حين تُبحر غواصة نووية أميركية قرب السواحل الفنزويلية، فإن ذلك لا يعني أن واشنطن تمارس شرطة بحرية ما، وإنما هي تختبر حدود التماسك الإقليمي والنظامين القانوني والدولي وتتجاهل التزاماتها القديمة. وهذا الوعي الإقليمي المتزايد، وإن ظلّ في إطار الضغط السياسي والدبلوماسي، يضيف طبقة من الحماية المعنوية لحالة الردع الفنزويلية، ويصعّب تحويل المغامرة إلى "توافق دولي" أو إلى تدخل يُسوَّق على أنه جزء من شرعية جماعية. ويكفي أن تشعر عواصم الجوار بأن نار الحرب ستحرق اقتصاداتها حتى تتردد في منح الغطاء المطلوب للمغامرة.

المفارقة أن واشنطن، وهي تحشد في الكاريبي بذريعة المخدرات، تتجاهل جذور الأزمة في مجتمعها هي: نظام صحي فاشل، وشركات دواء روّجت للإدمان، وبنوك كبرى غسلت لعقود أموال تجارة السموم، وحدود مفتوحة أمام سلاحٍ يغذي العنف. وفي المقابل، تُصوَّر فنزويلا على أنها "دولة مخدّرات" رغم أن تقارير الأمم المتحدة والوكالات الأميركية نفسها تضعها في هامش خرائط التهريب العالمية ولا تصنّفها بلداً منتجاً للكوكايين. وهذه الازدواجية ليست سوء فهم، وإنما خيار سياسي واعٍ: إدارة أزمة تنقل المشكلة من حقلها الاجتماعي داخل الولايات المتحدة إلى مسرح عسكري خارجها وتحوّل ضحايا الإدمان إلى ذريعة لفرض وصاية بحرية وجوية على بلد يصرّ على الاحتفاظ بسيادته على أرضه ونفطه وقراره السياسي. وهكذا يُستبدل واجب مواجهة الفساد والجشع الداخلي باستعراض قوة على شواطئ الآخرين.

بيد أن الجديد في المشهد الحالي هو معادلة الردع الفنزويلية التي لم تعد قائمة على منطق "الصمود السلبي" في وجه العقوبات والتهديدات، وإنما انتقلت إلى صيغة أكثر حيوية: تحويل كل تحرّك أميركي إلى فرصة لإعادة تنظيم الداخل وتعميق التحالفات الخارجية. فكل ضربة على قارب مدني تدفع مزيداً من الشباب إلى صفوف الميليشيا، وكل تصريح متغطرس يصدر من واشنطن يسرّع تقارب فنزويلا مع شركائها في الجنوب العالمي ومع قوى كبرى كروسيا والصين وإيران. بهذا المعنى، تسعى كاراكاس إلى قلب وظيفة التصعيد: من محاولة إنهاك الدولة إلى محفّز إضافي لبناء قدرات دفاعية ومؤسسات أكثر تجذّراً في المجتمع، في ما يشبه عملية "تطعيم" قاسية لكنها تعزّز المناعة على المدى البعيد، وتعيد تعريف الحرب كمساحة لتعميق الوعي وليس لكسر الإرادة.

ومع ذلك، لا يمكن التقليل من حجم الخطر؛ فالتفوق العسكري الأميركي حقيقي، والخطأ أو "الحادث المصطنع" في مياه الكاريبي قد يفتح الباب أمام موجة ضربات "جراحية" تستهدف البنية التحتية للطاقة والاتصالات والمرافئ. هنا يُختبر جوهر استراتيجية الردع الفنزويلية: قدرة الدولة والمجتمع على امتصاص الضربة الأولى من دون انهيار، ثم الانتقال السريع إلى حالة دفاع نشطة تُفشل الرهان على الصدمة وتكسر صورتها النفسية. إن ما تُراكمه فنزويلا اليوم من خبرة في المناورات المشتركة، ومن تداخل بين وحدات الجيش والكوميونات والميليشيا، يهدف إلى ضمان ألّا تُترجم أي ضربة إلى إسقاط للنظام أو تفكك قواعده، وإنما إلى لحظة تعبئة مضاعفة تُظهر حدود القوة الأميركية حين تُواجه بإرادةٍ جماعية منظَّمة. وعندها، تتحوّل "العملية السريعة" إلى بداية استنزاف طويل لن يكون من السهل التحكّم بمساره.

إن الاعتداءات الأميركية في البحر الكاريبي لا تدور حول قوارب صغيرة أو خرائط تهريب مبهمة، وإنما حول تعريف معنى السيادة في زمن إمبراطورية مأزومة تبحث عن استعراض قوة جديد لترميم صورتها. الولايات المتحدة تريد كاريبي مطيعاً، وممرات طاقة مؤمّنة لصالح شركاتها، ودرساً يُلقَّن لكل دولة تفكّر في انتهاج طريق مستقل أو الانحياز لمعسكر الجنوب العالمي. أما فنزويلا، فإنّها تراهن على مزيج من الردع العسكري الصلب، والمناعة الاجتماعية المتولّدة من التجربة، والدعم السياسي المتنامي من حلفائها، لتقول إن زمن الانقلابات السريعة والغزوات الخاطفة قد ولّى. وبين هذين الخيارين لا يتحدد مستقبل فنزويلا وحدها، ولا حتى القارة اللاتينية وحدها، وإنما شكل الحضور الأميركي في منطقتنا نحن أيضاً لعقود قادمة، وفي أوكرانيا وفي تايوان. ومن هنا، فإنّ معركة الكاريبي ليست هامشاً بعيداً، وإنما إشارة مبكرة إلى الحدود الجديدة الممكنة لمقاومة الهيمنة في القرن الحادي والعشرين.

اقرأ أيضاً: محور المقاومة في مواجهة ترامب: تهديد النظام الفنزويلي وتداعياته

اخترنا لك