الصراع بين المجمع الصناعي العسكري والمجمع الصناعي التقني في الولايات المتحدة
المجمع الصناعي العسكري، يمارس الضغوط للحفاظ على البرامج العسكرية الكبرى ويحاول كبح التحول السريع تجاه التكنولوجيا الرقمية، ما يقلّل من أهمية المعدات العسكرية التي تنتجها شركات هذا المجمع.
-
واشنطن تقوم كدولة على مؤسسات متنافسة ومترابطة في آن واحد.
منذ نشأة الولايات المتحدة الأميركية في القرن الثامن عشر وهي تقوم كدولة على مؤسسات متنافسة ومترابطة في آن واحد، معتبرة أن هذا التنافس والترابط يمثلان جوهر نظامها السياسي. حيث تبرز المنافسة بوضوح بين السلطات: التشريعية (الكونغرس)، التنفيذية (الرئاسة) والقضائية (المحكمة العليا والمحاكم الفيدرالية). ولكل منها أدوات للضغط والرقابة على السلطتين المنافستين.
لكن، وعقب التطور الرأسمالي في الولايات المتحدة وضمان حق المواطنين في تقديم العرائض والضغط على الحكومة (بموجب التعديل الأول للدستور) نشأت جماعات المصالح وازداد نفوذها لتتحول إلى لوبيات (جماعات الضغط) متصارعة على النفوذ في الدولة الأميركية، ليكون هناك تنافس مضاف بين اللوبيات والتي سعت لاستغلال التنافس بين السلطات الأميركية لخدمة مصالحها.
لقد نشأت في الولايات المتحدة لوبيات قائمة على الانتماءات الطائفية والوطنية أو العرقية، مثل اللوبي اليهودي، واللوبي البريطاني، واللوبي الكوبي واللوبي الأيرلندي. لكن، أدت التطورات الاقتصادية اللاحقة لنشأة لوبيات قائمة على أساس مصالح الشركات المرتبطة بإحدى الصناعات، وبالرغم من أن هذه النشأة كانت مبكرة للغاية في تاريخ الولايات المتحدة فإنها لم تتبلور إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحول الولايات المتحدة بالفعل إلى قوة عظمى، في الوقت الذي تراجعت فيه مكانة كل من بريطانيا وفرنسا، لتتحولا إلى قوى كبرى تحمل ذكريات القوى العظمى.
لقد نشأ خلال هذه الفترة، نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، لوبي المجمع الصناعي العسكري (MIC) الذي يتكون من شركات الصناعات العسكرية التقليدية (لوكهيد مارتن ونورثروب غرومان)، كنتيجة لضرورات التعاون بين المؤسسة العسكرية والشركات الصناعية الخاصة (مقاولات الدفاع)، نظراً لاحتياج الولايات المتحدة لجيش دائم كبير ومستويات عالية من الإنفاق الدفاعي للحفاظ على التفوق التكنولوجي في مواجهة الكتلة الاشتراكية. وتمكن هذا المجمع من تحقيق نفوذ ضخم على السياسات الأميركية، إلى درجة قيام الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي للأمة الأميركية في الـ 17 من كانون الثاني/يناير 1961 بالتحذير من التأثير غير المبرر الذي قد تكتسبه هذه العلاقة.
في المقابل، نشأ كذلك في فترة الحرب الباردة المجمع الصناعي التقني (TIC)، والتي شهدت قيام الحكومة الأميركية بضخ استثمارات ضخمة في الأبحاث العلمية والتكنولوجية، والذي أدى بدوره إلى إيجاد علاقة قوية بين الأوساط الأكاديمية والقطاع الحكومي والشركات الخاصة، ولاحقاً اعتمد المجمع الصناعي التقني على شركات التكنولوجيا العملاقة (Google، Apple، SpaceX، Palantir، Meta) والشركات الناشئة في وادي السيلكون، والتي تتخصص في اقتصاد البيانات والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات السحابية والأمن السيبراني والطائرات المسيرة .
وعلى الرغم من أن كلا المجمعين يتعاونان بشكل فعلي، حيث تحصل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) على تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات من شركات التكنولوجيا، بينما تحصل شركات التكنولوجيا الكبرى على عقود حكومية بمليارات الدولارات، مثل عقود الحوسبة السحابية والاستخبارات، الأمر الذي يوفر لها حصانة سياسية ويضع إنفاقها تحت عباءة الأمن القومي الأميركي. لكن في الواقع، مع زيادة إنفاق البنتاغون للحصول على التكنولوجيا المتقدمة، بدأت المنافسة تنشأ بين المجمعين.
فالمجمع الصناعي العسكري، يمارس الضغوط للحفاظ على البرامج العسكرية الكبرى (مثل إنتاج الطائرات والسفن) ويحاول كبح التحول السريع تجاه التكنولوجيا الرقمية، ما يقلّل من أهمية المعدات العسكرية التي تنتجها شركات هذا المجمع. وفي المقابل، يسعى المجمع الصناعي التقني لتوجيه الإنفاق نحو الابتكار والتكنولوجيا المزدوجة الاستخدام (مدنية وعسكرية)، مستغلاً المنافسة الصينية والسعي الأميركي للتفوق الجيوسياسي على الصين لتمرير هذا الخطاب.
إذاً، جوهر المنافسة أن كلاً من المجمعين يسعى إلى أن يكون هو المحور المركزي للقوة الأميركية في القرن الـ21، لكن مظاهر المنافسة وما أنتجته من توجهات مختلفة بين المجمعين جعلت مصالح كل مجمع يتجه إلى مسار مختلف عن الآخر، ويتصاعد هذا الخلاف تدريجياً. وإذا استعرضنا هذه المظاهر، فإن المنافسة على التمويل الفيدرالي هي أولها، فالمجمع الصناعي العسكري يرى أن كل دولار ينفق على الذكاء الاصطناعي والبنى الرقمية وعلم البيانات هو في الواقع دولار لا يذهب إلى إنتاج الصواريخ والطائرات.
وقد أدى هذا التفكير إلى خلافات في التوجهات السياسية، فالمجمع الصناعي العسكري يرى أن الصين تمثل تهديداً عسكرياً تقليدياً، يستلزم ضرورة الاستزادة فيإانتاج حاملات الطائرات والصواريخ، بينما المجمع الصناعي التقني يرى أن التهديد الصيني يتمثل في الذكاء الاصطناعي والهيمنة التكنولوجية والتحكم في سلاسل الإمداد الرقمية، وبالتالي فالحرب أو المواجهة مع الصين يجب أن تكون اقتصادية، سيبرانية وخوارزمية، وهذا الخلاف أدى إلى تباين في وجهات النظر حول كيفية مواجهة الصين وطبيعة العقوبات الموجهة لها، وبينما يريد البنتاغون والمجمع الصناعي العسكري شن حرب ردع عسكرية، يشعر المجمع الصناعي التقني بالقلق من فقدان السوق الصينية.
وقد أظهر هذا التباين في الموقف من الصين، أنه بالرغم من أن المجمع الصناعي العسكري يمتلك لوبياً قوياً جداً منذ الحرب العالمية الثانية، وكان هو الطرف الأقوى حتى سنة 2015، حيث عززت الحروب في أفغانستان والعراق من نفوذه، فمن الواضح أن لوبي المجمع الصناعي التقني يبدأ بالتقدم بسرعة في هذه المنافسة منذ العام 2016، خاصة بعد بروز شركات مثل: OpenAI، Palantir وSpaceX والتي أصبحت تمثل مراكز قوى جديدة لا يمكن تجاهلها، وبعدما بدأ البنتاغون يعتمد على شركتي Google وMicrosoft في الذكاء الاصطناعي، وأسهمت الحرب الروسية الأوكرانية في إبراز دور وادي السيلكون كلاعب أساسي في الأمن القومي، خاصة عقب ظهور الدور الكبير الذي لعبته شركة starlinks في الحرب الأوكرانية والذي تفوق على دور الناتو في بعض الأحيان، وهي شركة تابعة لـ SpaceX .
من أهم عناصر القوة لدى المجمع الصناعي التقني، أن الذكاء الاصطناعي في الغالب يُدار من قبل شركات خاصة وليس الحكومة، وهو ما أبرز مشكلة جديدة حول قضايا السيطرة على البيانات، فشركات التكنولوجيا تريد حرية جمع البيانات، بينما الأجهزة الأمنية تريد التحكم في البيانات، ما خلق صراعات داخلية حول قضايا كالتشفير وقوانين الخصوصية والسيطرة على الحوسبة السحابية الحكومية، وهي قضايا تشير إلى أن الصراع أصبح حول من يملك دماغ أميركا، فالبيانات الحكومية وحتى بيانات البنتاغون موجودة على هذه السحابات التجارية.
وبالتالي أصبحت هذه الشركات التي تتعامل مع الحكومة الأميركية والبنتاغون كزبون جزءاً من الأمن القومي، لكن من دون الخضوع للحكومة الأميركية، وفي بعض الأحيان تتمرد عليها، كما تمردت شركة Google عندما انسحبت من مشروع Maven الذي استهدف استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل صور الطائرات المسيرة، تحت ضغط موظفيها، وعندما اتهمها البنتاغون بأنها تهدد الأمن القومي الأميركي وتمنح الصين أفضلية تكنولوجية، ردت الشركة بأنها ليست أداة عسكرية.
وهذه الحادثة لم تكن الوحيدة في تمردات هذه الشركات، ففي الحرب الأوكرانية قامت شركة SpaceX المملوكة لإيلون ماسك بمنح Starlink لأوكرانيا، وفي المقابل منعت استخدامها في أي هجوم في العمق الروسي إلا بعد موافقتها، الأمر الذي أثار غضب البنتاغون، وانتهى الموقف بعقد اتفاق خاص مع إيلون ماسك، لكن القضية كشفت أن شركات التكنولوجيا أصبحت تتحكم جزئياً في قرارات الحرب والسلم. والواقع الظاهر حالياً أنه في الوقت الذي يمتلك فيه البنتاغون جسد الأمن القومي، فإن هذه الشركات الخارجة عن السيطرة أصبحت تمتلك عقله.
لكن، ما هو دور المجمع المالي في وول ستريت، والذي تتداخل فيه المصالح بين البنوك الاستثمارية والتجارية العملاقة؟
يُعدّ المجمع المالي الأكثر قِدماً في نشأته، والتي بدأت منذ تسعينيات القرن الـ 18 مروراً بالقرن الـ،19 حيث تأسست البورصة في نيويورك وبرزت البنوك الأولى: JP Morgan، Rockefeller، Citibank ليتطور الأمر في 1913 بتأسيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وهو البنك المركزي للولايات المتحدة، كرد فعل على الأزمات الاقتصادية التي شهدتها أميركا، خاصة أزمة 1907 وبهدف ضمان الاستقرار المالي والنقدي.
في الفترة من 2010 وحتى الآن تحول المجمع المالي إلى الممول الأول للتكنولوجيا، واستثمرت الصناديق المالية مليارات الدولارات في شركات مثل Google وMeta وTesla، وبالرغم من أن وول ستريت لا يبدو منحازاً لأي طرف، إلا أن مصالحه تقترب تدريجياً من المجمع الصناعي التقني، والذي يعتقد أنه سيكون القوة المهيمنة في المستقبل، وخاصة أن أرباح الشركات التقنية أعلى ونموها أكثر سرعة، كما أن سيطرتها على البيانات تمثل الكثير من الأهمية، كما أن هناك تناقضاً ينشأ دائماً بين المجمعين العسكري والمالي نتيجة سعي الأول إلى عسكرة القضايا التي تواجه الولايات المتحدة والتحريض على الحلول العسكرية وزيادة التوتر، ما يضر بمصالح المجمع المالي. وبالتالي فقد ضخ أكبر مستثمري وول ستريت مئات المليارات في شركات التكنولوجيا مثل: Microsoft، Nvidia، Amazon، Google، Tesla/SpaceX.
لكن في المقابل فإن المجمع المالي مازال بحاجة حتى الآن لدعم المجمع الصناعي العسكري، لحماية مصالحه المالية في العالم والتصدي للصعود الصيني وإيجاد حروب باردة تحرك الصناعة والسوق. أي أن وول ستريت يدعم مشروعات كلا المجمعين الصناعيين ودمج مصالحهما، لكن تحت قيادة شركات التكنولوجيا، وكلاهما يجب أن يظل تحت إشراف الدولة الأميركية، لأن خروج شركات التكنولوجيا عن السيطرة وتحولها إلى إمبراطورية موازية يهددان النظام المالي التقليدي.
إذاً، هناك تباعد تدريجي في المصالح بين المجمعين الصناعي والتقني، وهناك اقتراب في المصالح بين المجمع التقني والمالي، وهذا التباعد قد يصل إلى حد الصدام، وهو لن يكون عسكرياً بكل تأكيد، وسيقتصر على الأساليب التقليدية (قانونية وتشريعية، اقتصادية وسياسية) وفي أسوأ الأحوال قد يصل الأمر إلى قيام الدولة بنوع من التأميم الجزئي لبعض قدرات المجمع التقني، أو حظر بعض الشركات من العقود الأمنية وفرض قيود منظمة على أسهمها.
لكن المشكلة الحقيقية أن هذه الصدامات ربما تؤدي إلى إضعاف الموقف الأميركي في مواجهة التحديات الجديدة، وعلى رأسها الصعود الصيني والروسي، وتجبر صانع القرار الأميركي على اتخاذ مواقف متراجعة تحت ضغط المصالح المتبادلة بين المجمع التقني مثلاً وهذه الدول، مثل حرص المجمع التقني على إبقاء العلاقات مع الصين وعدم تقييد الهجرة، والذي تجسد في الخلاف بين إيلون ماسك والرئيس الأميركي ترامب رغم الدعم الذي تلقّاه ترامب من ماسك أثناء الانتخابات، وهو ما أجبر الرئيس الأميركي على تخفيف لهجته والتراجع عن إجراءاته تجاه الصين.
من النواحي العرقية، يمكننا طرح ملاحظة مهمة في هذا الإطار كأحد الأسباب التي قد تؤدي للصدام، فالمجمع الصناعي العسكري ما زال يخضع بشكل كامل لنفوذ النخب الأنجلوساكسونية البروتستانتية التقليدية، كما أن الطبقة السياسية الداعمة للعسكرة هي ريفية أنجلوساكسونية بيضاء.
وفي المقابل، فإن المجمع المالي يتكون من خليط متعدد، لكن يحظى اليهود في هذا الخليط بمواقع قيادية ومؤسسية، بينما يفتقد المجمع التقني لهوية عرقية محددة رغم نشأته الأنجلوساكسونية، لكنه تحول الآن إلى نفوذ هوياتي متعدد (هندي وآسيوي، يهودي وأنجلوساكسوني بروتستانتي) وهو ما يدفع اليمين الأميركي والنخب الأنجلوساكسونية التقليدية إلى النظر إليه بنوع من الشك.
يبقى التساؤل: ما هو موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحركة MAGA من المجمعات الثلاثة؟ وهل سيؤدي صعود اليمين الشعبوي إلى إضعاف المجامع الثلاث؟
لا يمكن الحديث عن عداء كامل بين الرئيس دونالد ترامب وبين هذه المجمعات الثلاثة، لكن هناك عداء بشكل عام تجاه الدولة الأميركية العميقة التي تتشكل من مصالح هذه المجمعات. وكنوع من التفصيل، فإن ترامب وحركة MAGA ينظران إلى المجمع الصناعي التقني والبنتاغون بعداء، باعتبار أن القيادة العليا في الجيش والاستخبارات متحالفة مع النخب الليبرالية والديموقراطيين، بل إن ترامب وجّه اتهاماً صريحاً لقيادات الجيش الأميركي بأنهم لا يريدون إنهاء الحروب خضوعاً لمصالح الشركات" جنرالاتنا لا يريدون إنهاء الحروب لأن شركات السلاح تريد استمرارها".
وفي المقابل فإن ترامب ومؤيديه أعلنوا رفضهم للتدخلات الخارجية وحروب التغيير الديمقراطي والتمويل اللانهائي لأوكرانيا والوجود العسكري المكلف عالمياً، وهو ما يجعل كلاً من ترامب ومؤيديه خصوماً سياسيين للبنتاغون والمجمع الصناعي العسكري. لكن المشكلة الحقيقية أن ترامب يحظى بتأييد كبير من قبل الرتب المتوسطة والصغيرة في الجيش الأميركي، كما يحظى بدعم في القوات البرية وجزء من قوات مشاة البحرية الأميركية، في مقابل ضعف التأييد له بين القوات البحرية والجوية. أي أن قطاعاً مهماً من المجمع الصناعي العسكري والبنتاغون مؤيد لترامب ومن بين جماهيره.
لكن على مستوى التطبيق العملي، فإن فترة رئاسة ترامب شهدت زيادة الإنفاق العسكري لمستويات قياسية بلغت 700 مليار دولار، كما اعتبر ترامب أن بيع المعدات العسكرية الأميركية في الخارج أولوية كبرى، حيث أعلن موافقته على صفقات أسلحة ضخمة خاصة مع حلفاء أميركا في الشرق العربي، وشهدت فترة ترامب كذلك تعيين عدد من مسؤولي الشركات المطّلعين على صناعة الدفاع في مناصب عليا بوزارة الدفاع. وهي إجراءات صبّت في مصلحة المجمع الصناعي العسكري والبنتاغون.
بالنسبة إلى العلاقة مع المجمع الصناعي التقني، فإن ترامب وحركة MAGA ينظرون إليه بعداء أكبر، وهناك اتهامات لشركات هذا المجمع وموظفيها بدعمهم المطلق للديمقراطيين، وبلغت الاتهامات حد اتهام شركات التكنولوجيا الفائقة بالتجسس على الشعب الأميركي لمصلحة الديمقراطيين، وخاصة أن 90% من موظفي هذه الشركات يؤيدون الحزب الديموقراطي، ولا سيما بعد قيام هذه الشركات بإغلاق حسابات ترامب. وتتلخص الاتهامات اليمينية لهذه الشركات بأنها تستغل سيطرتها على البيانات وأنظمة المعلومات للتأثير على الخطاب العام والانتخابات عبر الخوارزميات، وتسعى لتحويل المسارات الاقتصادية باتجاه مصالح نخبة تقنية وضد مصالح الأميركيين. وعلى الجانب الآخر، فإن ترامب يحظى بدعم شركات مؤثرة في المجمع التقني، حيث تتحالف حركة MAGA مع إيلون ماسك الذي يمتلك شركتي تسلا وسبيس إكس، كما تمتلك علاقات قوية مع بيتر ثيل الذي يمتلك شركة بالانتير، إضافة إلى بعض الشركات الأمنية التقنية التي تميل لليمين.
أما المجمع المالي، فإن عداء ترامب وحركة MAGA له يرتبط بالأيدولوجية والسياسات، فوول ستريت يخضع لسيطرة الديمقراطيين واللوبيات اليهودية والنيوليبرالية العالمية المستفيدة من العولمة، والتي يرى ترامب وأنصاره أنها أضرت بالطبقة الوسطى، كما يدعم هذا المجمع التجارة مع الصين ويقوم بتمويل الهجرة والبرامج الاجتماعية التي ترفضها حركة MAGA. ومع ذلك فإن المجمع المالي في وول ستريت ليس على قلب رجل واحد، فالمستثمرون الصناعيون تضرروا كثيراً من العولمة والمنافسة مع الصين، وباتت مطالبهم أكثر يمينية، وهم من المؤيدين بدرجة كبيرة لترامب، إضافة إلى شركات الاستثمار في الطاقة والنفط، والذين تضرروا من الانتقادات البيئية الموجهة لهم، وهنا من الضروري الوضع في الاعتبار أن دونالد ترامب ذاته ينتمي إلى هذا الوسط.
وبالتالي فمن الناحية الواقعية قدّم ترامب خدمات كبيرة لهذا المجمع، وإن كانت تصب في خدمة الاتجاه اليميني فيه، فإن جزءاً كبيراً من أموال حملته الانتخابية جاء من مليارديرات القطاع المالي، وبالتالي فقد اهتم ترامب بنمو سوق الأسهم كدليل على نجاح سياساته، وقام بتعيين عدد من الشخصيات المرتبطة بوول ستريت في مناصب كبرى بإدارته مثل وزير الخزانة ستيفن مونتشين، والذي كان يعمل سابقاً كتنفيذي سابق في غولدمان ساكس. لكن من أهم الخدمات التي قدمها ترامب للمجمع المالي في وول ستريت هي تخفيف القيود والتنظيمات المالية، وخاصة التي فُرضت عقب الأزمة الاقتصادية المالية في 2008، وكان هذا الإجراء من أهم مطالب وول ستريت لزيادة أرباحه.
إذاً، فصعود ترامب إلى السلطة بشكل عملي لم يكن في مواجهة هذه المجمعات ولوبياتها، بقدر ما هو في مواجهة شرائح داخلها عبر استقطاب شرائح أخرى. أي أن ترامب يسعى لإعادة هندسة هذه المجمعات وتشكيل توجه متكامل من الشرائح اليمينية بهذه المجمعات واللوبيات التابعة لها تحت قيادته، وتكوين جبهة يمينية موازية للدولة العميقة التقليدية المرتبطة تقليدياً بالمنافسة بين المجمعات الثلاثة، واستبدالها بدولة عميقة يمينية.
في إطار هذا الصراع الذي يقوده ترامب، من الضروري الانتباه إلى أنه (أي الصراع) يحمل أبعاداً عرقية برزت بوضوح خلال تعاملات ترامب مع الاعتداءات الصهيونية على غزة. فمنذ البداية نشأ تحالف مصالح بين الجناح المالي اليهودي في وول ستريت وشبكات رأس المال العابرة للحدود، والممثل في المصارف الكبرى، وصناديق الاستثمار، والشركات التقنية التي يملكها يهود مؤثرون ومؤسسات ليبرالية عالمية وشبكات إعلامية وثقافية، مع الجناح الأنجلوسكسوني الليبرالي، والممثل في الخارجية الأميركية والبنتاغون، وشركات التكنولوجيا الكبرى، والنخب الجامعية ومراكز التفكير.
كان هذا التحالف الخاضع للقيادة الأنجلوسكسونية، يسعى لقيام نظام عالمي ليبرالي يدعم التجارة الحرة كواقع، مستخدِماً مظهراً أيدلوجياً دعائياً (الديمقراطية، وحقوق الإنسان والهجرة المفتوحة) وبدعوى تحقيق هذه الدعائيات تم فرض قيادة أميركا للعالم عبر قوة التدخلات الخارجية تحت مظلة حلف الناتو عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى تمكن من إسقاط العدو الأيديولوجي المتمثل في الكتلة الاشتراكية. لكن وخلال هذه الفترة ومع التطور الرأسمالي إلى العولمة، التي تعتمد بالأساس على اقتصاد الخدمات مع استقطاب العمال الأجانب (الأفل أجراً)، أو ترحيل الصناعات إلى دول العالم الثالث كالهند والصين، بدأت قيادة هذا التحالف تميل تدريجياً إلى الجناح اليهودي (ذي الطبيعة المالية) أو على الأقل صار كلا المتحالفين متعادلين في التأثير، وكنتيجة لهذه التحولات التي أدت إلى أضرار اقتصادية على الطبقة الوسطى الأميركية، برز توجه أنجلوسكسوني يميني شعبوي معادٍ للعولمة، يسعى لإعادة ميزان هذا التحالف للقيادة الأنجلوسكسونية، وهو ما يمكن تسميته مشروع القومية الأنجلوساكسونية الجديدة.
إن مشكلة هذا التيار مع العولمة النيوليبرالية والهجرة لا تقتصر فقط على مخاطرها على الطبقة الوسطى البيضاء، وإنما على القلق من إزاحة طبقة WASP الحاكمة عن صدارة المشهد في الولايات المتحدة، وهو ما أشار إليه الكاتب الفرنسي ميشيل كروزييه في كتابه " الداء الأميركي " وأعلنه ترامب بوضوح عندما قال " المهاجرون يسمّمون دماء بلادنا " ومثل هذا التصريح يشير إلى الطبيعة العرقية الصريحة لهذا التوجه.
هذا التوجه اليميني الشعبوي تمكن من إيصال ترامب إلى سدة الرئاسة مرتين، ويبدو في المرة الأخيرة أن ترامب قد قرر أن يقوم ببعض الضربات الفعلية للدولة العميقة رغم بعض التنازلات التي قدمها، وبرزت هذه الضربات في موقفه من الصدام الذي وقع بين الكيان الصهيوني وإيران، حيث رفض التدخل الفعلي في الحرب، كما منح تركيا المجال للعمل في سوريا رغم الرغبة الصهيونية في إبعاد الأتراك وتأسيس كيان كردي في الشمال الشرقي، وانتهى الأمر بإجبار رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو على إيقاف الحرب على غزة والسماح للمقاومة بالظهور العلني وقتل العملاء المتعاملين مع العدو الصهيوني، ثم تهميش الكيان الصهيوني من مسارات الممر الهندي – الأوروبي (طريق التوابل الجديد) وإعادة الاعتبار إلى الدور المصري وقناة السويس.
إن العلاقة بين ممارسات ترامب في الشرق العربي وبين صدامه مع الدولة العميقة في أميركا، يعود إلى تطور طموحات المشروع الصهيوني على مدى الثلاثين عاماً الأخيرة، حيث سعى القادة الصهاينة إلى أن يتحول كيانهم إلى مركز استقطاب رأسمالي في المنطقة بدعم من رأس المال اليهودي، وتحقيق هذا الهدف كان يحتاج إلى قدر من التوسع على الأرض وإلى تفكيك الجيوش العربية التي يمكن أن تهدد مشروعه، وكان ترك إدارة بايدن المجال للكيان الصهيوني لممارسة وحشيته على غزة إيذاناً بهيمنة الجناح المالي اليهودي على القرار الأنجلوسكسوني، الأمر الذي دفع ترامب إلى محاولة إعادة الموازين مرة أخرى، عبر استغلال فشل نتنياهو في القضاء على سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن، لإعادة الكيان الصهيوني إلى دوره الطبيعي كمعسكر متقدم للمصالح الغربية والأميركية خصوصاً.
هنا، من الضروري الإشارة إلى أن دونالد ترامب ومعسكره اليميني الشعبوي لن يتخلى عن دعم الكيان الصهيوني بكل تأكيد، ولن يميل في يوم من الأيام إلى المقاومة العربية، لكنه يريد إعادة الهيمنة الأميركية الأنجلوسكسونية على الجناح اليهودي والكيان الصهيوني مرة أخرى، ووضع دورهما في الموضع الأول لهذا التحالف في المصالح، عبر القضاء على فكرة العولمة والعودة مرة أخرى إلى التصنيع الداخلي والدولة الحمائية. ولم تكن الضربة التي وجهها لنتنياهو سوى جزء من محاولة تحقيق هذا الهدف.
إن المشروع الذي يتبنّاه ترامب (مشروع القومية الأنجلوسكسونية الجديدة في مواجهة مشروع العولمة الليبرالية) سوف يؤثر بطريقة ما على قواعد المنافسة والصراع بين هذه المجمعات الثلاثة، والتي ترسخت بمرور الزمن في الولايات المتحدة، وبالرغم من أن هذا الصراع قد يقتصر في بدايته على الوسائل السلمية التقليدية، إلا أن محاولة تفكيك هذه المجمعات، ربما تؤثر سلباً في قدرة الدولة على ضبط الأوضاع، كما ستؤثر كذلك على فاعلية القرار الأميركي في التعامل مع الخارج، وخاصة مع التباعد المتصاعد في المصالح بين هذه المجمعات، لكن الأسوأ هو أن ينجح ترامب في تشكيل دولة عميقة موازية في الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي قد يحول الصراع من الأساليب السلمية إلى ما هو أسوأ بين دولتين عميقتين.