تراجع الجاهزية… الجيش البريطاني ولحظة الحقيقة في أوكرانيا

كما تسبب اندلاع العمليات العسكرية في أوكرانيا بكشف الخلل البنيوي الذي أصاب جيوشاً أوروبية متعددة، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فإن توقف القتال في الميادين الأوكرانية سيسلط الضوء أكثر على هذا الخلل.

  • هل يمكن أن تشارك لندن في قوات حفظ سلام في أوكرانيا؟
    هل يمكن أن تشارك لندن في قوات حفظ سلام في أوكرانيا؟

مع تعدد الأطروحات التي تتناول مستقبل الموقف الميداني في أوكرانيا في حالة تطبيق وقف إطلاق النار، يبرز الطرح، الذي قدمته باريس ولندن، بشأن امكان وجود قوات "حفظ سلام" غربية في أوكرانيا، للفصل بين القوات المتحاربة، وهو طرح يتضمن بين ثناياه أفكاراً فرعية، بينها تشكيل "قوة جوية غربية" لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار، ونشر قوات على الأرض على طول خطوط المواجهة.

بغضّ النظر عن مدى واقعية هذا الأمر، وارتباطه بعوامل متعددة، على رأسها الموقف الروسي النهائي بشأن مسألة "وقف إطلاق النار"، إلا أن عاملاً مهماُ طرأ نتيجة هذا الطرح، وهو مدى جاهزية الجيشين البريطاني والفرنسي للقيام بهذا الدور، الذي يحمل في طياته احتمالات غير قليلة - في حالة تطبيقه - للدخول في تماس مباشر مع القوات الروسية، في حالة حدوث اختراقات لوقف اطلاق النار، أو حتى "انهياره"، وهذا ربما يكون من الأسباب الرئيسة التي تجعل أصواتاً أوروبية متعددة، لا ترجح تنفيذ هذا الطرح، وتفضّل أن تعمل الجيوش الأوروبية، خلال مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، على تدريب القوات الأوكرانية في غربي أوكرانيا، مع حماية الحدود الغربية لأوكرانيا بأنظمة الدفاع الجوي في بولندا، وهو الطرح الأكثر واقعية بالنظر إلى العوامل السابق ذكرها.

تساؤلات بشأن الجاهزية القتالية للجيش البريطاني

حقيقة الأمر أن العمليات العسكرية في أوكرانيا كان لها تأثير كبير في إظهار نقاط الضعف الأساسية في الجيوش الأوروبية، وخصوصاً الجيوش الفرنسية والألمانية والبريطانية. وفي الحالة البريطانية، كان هذا التأثير واضحاً بشكل أكبر، بحيث لاحظ رئيس الأركان البريطاني السابق، باتريك ساندرز، أهمية توافر القوة العسكرية البشرية المدربة بأعداد كافية، نتيجة لدروس الميدان الأوكراني، والمعضلات التي عانتها كييف خلال عمليات التجنيد وتوفير عناصر المشاة. لذا، كانت لساندرز عدة تصريحات بارزة، معظمها خلال وجوده في منصبه الذي استقال منه في يونيو/حزيران الماضي، تؤطر النقاط الأساسية التي تشوب الجاهزية القتالية للجيش البريطاني.

ودعا ساندرز، أوائل العام الماضي، إلى تدريب "جيش من المواطنين" وتجهيزه، لمواجهة مخاطر النزاعات، مستشهداً، على سبيل المثال، بالإجراءات المتخذة من بعض الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها العسكرية. وفي آب/أغسطس من العام نفسه، حذّر من أن الحرب مع روسيا أمر لا مفر منه، ما لم يقم الجيش البريطاني بإعادة تنمية مخزوناته من الدبابات والذخائر، لتعويض ما تم تقديمه إلى الجيش الأوكراني خلال الأعوام الماضية. اللافت أن تصريح ساندرز هذا جاء عقب تصريحات مماثلة لقائد الجيش البريطاني الحالي، رولاند ووكر، قال خلالها إن الجيش البريطاني يجب أن يكون قادرأً على خوض "حرب كبرى" في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة، لأن روسيا، بحسب تقديراته، ستسعى، بعد وقف القتال في أوكرانيا، للثأر من الدول الأوروبية الأساسية التي ساعدت الجيش الأوكراني.

بالعودة إلى رؤية رئيس الأركان السابق ساندرز، كان من الواضح أنها تحمل في طياتها كثيراً من التشاؤم بشأن مستقبل القوة العسكرية البريطانية، وهذا كان بارزاً خلال خطاب ساندرز، الذي ألقاه يوم تنحيه عن رئاسة الأركان البريطانية العام الماضي، والذي مثل، في حد ذاته، استمراراً للتصريحات "الصريحة" من جانب ساندرز بشأن الجيش البريطاني، منذ بداية توليه منصبه. وكان تقييم ساندرز، خلال كل تصريحاته، بشأن تراجع القدرات العسكرية البريطانية، صريحاً بشكل خاص حيال مجموعة من الملفات المهمة المرتبطة بجاهزية الجيش البريطاني، وخصوصاً ملف إعادة التسليح، ومدى قدرة الوحدات القتالية البريطانية على الانتشار والانفتاح بصورة قتالية في حالات الطوارئ.

ربما تنبع هذه النظرة التشاؤمية بشكل أساسي من تولد قناعة كبيرة لدى المؤسسة العسكرية البريطانية، مفادها أن عمليات التخفيض المستمرة للميزانية الدفاعية البريطانية، خلال العقود الأخيرة، والتي بدأت عملياً منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، أدت إلى إحداث آثار سلبية على قدرة الجيش البريطاني على تحديث معداته، فبلغت نسبة الإنفاق الدفاعي البريطاني من إجمالي الدخل القومي خلال الحرب الباردة، نحو 6 في المئة، في حين لا تتعدى هذه النسبة حالياً 2.3 في المئة، وتعتزم الحكومة البريطانية رفع هذه النسبة لتصبح 2.5 في المئة فقط، بحلول عام 2027، وهو ما لا يتلاءم مع مطالبات الجيش البريطاني، الذي يريد رفع هذه النسبة لتصبح 2.65 في المئة على الأقل، وخصوصاً أن هذه النسبة تتضمن نفقات لا تُعَدّ في حد ذاتها نفقات دفاعية، بحيث بلغت قيمة الميزانية الدفاعية للعام المالي الجاري 56.4 مليار جنيه إسترليني - أي 2.3 في المئة من الناتج القومي البريطاني - بينها 0.65 مليار جنيه إسترليني خاصة بالمعاشات التقاعدية العسكرية، و0.22 مليار جنيه إسترليني، مخصصة لما يسمى "الهيئات المستقلة".

هل يمكن أن تشارك لندن في قوات حفظ سلام في أوكرانيا

المقترحات الحالية بشأن نشر قوات حفظ سلام في أوكرانيا تتضمن إمكان مشاركة الجيش البريطاني بما يتراوح بين 12 و20 ألف جندي، وهذا المقترح نكأ جراحاً متعددة في الداخل البريطاني، ترتبط بجاهزية المعدات العسكرية ومدى توافر الأفراد والمخصصات المالية اللازمة للمشاركة في عملية كبيرة مثل هذه، وهي جميعاً عناصر تأثرت بشكل سلبي بتداعيات الحرب في أوكرانيا، بالقدر نفسه لتأثرها بعمليات تخفيض المخصصات الدفاعية.

على مستوى الدبابات في الجيش البريطاني، تشير التقديرات إلى أن قوة الدبابات القتالية الرئيسة، التي يمتلكها، وصلت إلى أدنى مستوياتها، بحيث يبلغ العدد الحالي للدبابات الرئيسة في الجيش البريطاني من نوع "تشالنجر-2" - والتي تم شراء نحو 400 دبابة منها في تسعينيات القرن الماضي - 213 دبابة فقط، بعد التبرع بـ 14 دبابة لأوكرانيا. جاهزية هذه الدبابات تراجعت بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، نتيجة تخفيض المخصصات المالية اللازمة لعمليات الصيانة الدورية وشراء قطع الغيار، وحالياً لا يزيد عدد الدبابات الصالحة للاستخدام القتالي على 160 دبابة فقط، علماً بأن برنامجاً لتحديث هذه الدبابات إلى المعيار "تشالنجر-3" جارٍ منذ سنوات، لكن يشوب عمليات التحديث بطء شديد.

على مستوى المدفعية، يتركز جوهر القوة المدفعية ذاتية الحركة في الجيش البريطاني، في نحو مئة مدفع من نوع "AS90". وبحلول عام 2020، كان عدد المدافع الصالحة للتشغيل بشكل قتالي هو 24 مدفعاً فقط، في حين لم تتوافر قطع غيار إضافية خاصة على مستوى المحركات، وشاب الذخيرة الخاصة بهذه المدافع نقصٌ كبير. ومع انطلاق العمليات في أوكرانيا، أرسلت بريطانيا 32 مدفعاً من هذا النوع إلى كييف، وهو ما تسبب بنقص حاد في قطع المدفعية ذاتية الحركة في الجيش البريطاني، إلى درجة دفعت لندن إلى شراء 14 مدفعاً ذاتي الحركة من السويد، كحل موقت، إلى حين تسلم الجيش البريطاني المدفعية ذاتية الحركة من نوع "بوكسر"، والتي اتفقت لندن وبرلين، العام الماضي، على تصنيعها بشكل مشترك.

مما سبق يمكن القول إن عنصرين أساسيين من عناصر القوة المدرعة، التي تحتاج إليها أي وحدات لحفظ السلام في ميدان، مثل الميدان الأوكراني، يعانيان معضلات جذرية في الجيش البريطاني، فتحديث "دبابات تشالنجر-3" لن يتم قبل عامين على الأقل، ولم يبدأ تسليم مدافع "بوكسر" حتى الآن، كما أن ناقلات الجند المدرعة في الجيش البريطاني، وجوهرها 767 ناقلة من نوع "واريور" - تعود صناعتها إلى ثمانينيات القرن الماضي – ما زالت عملياً هي ناقلة الجند الأساسية في الجيش البريطاني، على رغم ان استراتيجية "جندي المستقبل"، التي أعلنتها وزارة الدفاع البريطانية عام 2021، تضمنت خطة لإخراج هذه الناقلات من الخدمة، وتسريع استلام 500 عربة مدرعة ألمانية من نوع "بوكسر"، تم التعاقد عليها عام 2019 في مقابل 2.3 مليار جنيه إسترليني، وحتى الآن لم يتم تسليمها بشكل كامل.

القوة البشرية والتكاليف … معضلة بريطانية اساسية

على مدار السنوات الماضية، انخفض عديد القوة العاملة في الجيش البريطاني، من نحو 100 ألف جندي عام 2020، إلى نحو 70 ألف جندي في الوقت الحالي، وهي النتيجة التي وصل إليها الجيش البريطاني، بعد إعلان استراتيجية "جندي المستقبل" عام 2021، والتي وضعت هدفاً أساسياً لتخفيض القوات العاملة إلى أقل من 73 ألف جندي، بحلول عام 2025. وهذا التخفيض ألقى ظلالاً قاتمة على إمكان النقل السريع لوحدات مشاة بريطانية إلى مهمات خارجية، ولعل أبرز مثال على ذلك مناورات حلف الأطلسي الجارية حالياً في رومانيا، تحت اسم "ستيدفاست دارت"، والتي تشارك فيها بريطانيا بنحو 2500 جندي، وهو عدد لا يمثل سوى 10 في المئة فقط من العدد المعقول لجنود المشاة الذين من الممكن أن ينفذوا مهمّات حفظ سلاح في أوكرانيا، والتي قد تتطلب قوة إجمالية تزيد على 100 ألف جندي.

وحتى لو تمكنت لندن من تجميع قوة قوامها 12 ألف جندي لإرسالها إلى أوكرانيا، فسوف تحتاج، بعد ستة أشهر أو ثمانية أشهر من انتشار هذه القوة هناك، إلى إبدالها بـ 12 ألف جندي آخرين، ثم تكرار الأمر نفسه لاحقاً. وفي ظل ترتيبات التمويل الحالية، فإن الجيش البريطاني لا يمتلك الموارد الكافية لتنفيذ ذلك. فيما يتعلق بتكاليف أي عملية لحفظ السلام في أوكرانيا، فإن نشر  12000 إلى 15000 جندي في أوكرانيا، قد يكلف بين 3 و5 مليارات جنيه إسترليني على الأقل، وهو ما يحتاج إلى اعتمادات مالية إضافية خارج الموازنة الدفاعية البريطانية.

خلاصة القول أنه كما تسبب اندلاع العمليات العسكرية في أوكرانيا بكشف الخلل البنيوي الذي أصاب جيوشاً أوروبية متعددة، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فإن توقف القتال في الميادين الأوكرانية سيسلط الضوء أكثر على هذا الخلل، الذي تقدمت بموجبه جيوش دول اوروبية صغيرة قدماً إلى الأمام على مستوى التحديث والتطوير، وتراجعت جيوش أوروبية عريقة في الجانبين التدريبي والتسليحي، وهو ما يطرح تحديات جدية على هذه الدول، وخصوصاً في ظل الموقف الأميركي المستجد حيال الأمن الأوروبي، وجوهره أن واشنطن لا يمكن أن تتحمل العبء، مادياً ولوجستياً، لحمايته بعد الآن.