تعديل موازين القوى… مآلات اشتباكات طرابلس الليبية
المواجهة بين الأطراف الليبية بمنزلة "حرب إلغاء"، لإعادة تشكيل المشهد الأمني في طرابلس، يجرى خلالها إنهاء "حالة" عبد الغني الككلي، الذي كان يمثل رقماً صعباً في المعادلة الميدانية.
-
ماذا يجري في ليبيا؟
تشهد المنطقة الغربية الليبية منذ أيام عدة، حالة متصاعدة من الاستنفار - تتخللها بعض الاشتباكات الميدانية - تجري هذه التفاعلات بين أطراف من المفترض أنهم "في الجانب نفسه"، كأجسام أمنية وعسكرية تنضوي تحت لواء المجلس الرئاسي وحكومة "الوحدة الوطنية" برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
وعلى الرغم من أن هذه الاشتباكات باتت تعتبر من السمات الأساسية للأوضاع في ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، إلا أنها تحمل في الوقت نفسه دلالات مهمة ترتبط بمستقبل الملف الليبي بشكل عام، على المستويين السياسي والميداني.
هذه التفاعلات بدأت شكلياً أواخر الشهر الماضي، بعد رصد تحشيدات عسكرية مختلفة من مدن مصراتة والزنتان والزاوية، في اتجاه العاصمة، كان أكبر تحرك، رتل عسكري ضخم، مساء الثاني عشر من أيار/ مايو الجاري، من مدينة مصراتة نحو العاصمة طرابلس، ضم وحدات مختلفة تتبع للواء 444 قتال - بقيادة رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، محمود حمزة - واللواء 111 - بقيادة وكيل وزارة الداخلية عبد السلام الزوبي، إضافة إلى وحدات من مدينة الزنتان، بهدف إطلاق عملية عسكرية، تحت إشراف عام لوزير الداخلية المكلف في حكومة الدبيبة، عماد الطرابلسي، وقائد جهاز الأمن العام، عبد الله الطرابلسي، ضد المقار العسكرية التابعة لعبد الغني الككلي - الملقب بأغنيوة - في منطقة أبو سليم جنوب العاصمة، والتي تشمل مقار جهاز دعم الاستقرار واللواء 55، بجانب مقار جهاز أمن المرافق والمنشآت الذي يقوده مساعد الككلي أسامة طليش، ومقار جهاز الأمن الداخلي، الذي يقوده حليف الككلي، لطفي الحراري.
عملية خاطفة داخل العاصمة الليبية
بمجرد وصول هذا الرتل إلى طرابلس في وقت متأخر من مساء يوم تحركه نفسه، بدأت فعاليات العملية العسكرية في منطقة أبو سليم، حيث انقسم هذا الرتل إلى قسمين أساسيين، الأول تحرك نحو المحور الشمالي لمنطقة أبو سليم، والمعروف باسم "رابش أبو سليم"، وقاد القوات في هذا المحور اللواء 111، في حين تحرك القسم الثاني باتجاه القسم الجنوبي للمنطقة، وتحديداً منطقة "الهضبة" ومحيط الكلية العسكرية، وتولّى اللواء 444 قيادة القوات في هذا المحور.
دامت الاشتباكات في كلا المحورين لمدة ساعتين فقط، وشملت مناطق جنزور والدريبي وغرغور والسياحية، إلى جانب منطقة الفلاح التي يوجد فيها معسكر رئيسي ومخازن ذخيرة لجهاز دعم الاستقرار.
وقد أسهم مقتل عبد الغني الككلي وعدد من أفراد حراسته، أمام مقر غرفة العمليات في منطقة معسكر التكبالي جنوب شرق منطقة أبو سليم، في منع الوحدات التابعة له من الاستمرار في القتال، وما زال الغموض يشوب ملابسات مقتله، حيث يشير بعض الروايات إلى أنه حضر إلى المعسكر، لمقابلة عدد من القيادات العسكرية التي تتولى هذه العملية، وتحديداً عماد الطرابلسي ومحمود حمزة وعبد الله الطرابلسي، وقيادات أخرى من مصراتة، لكن تلاسناً حدث بين الجانبين، أعقبه إطلاق نار أدى إلى مقتل الككلي وحراسه، وعدد من عناصر الحراسة الأخرى، في حين تشير رواية أخرى إلى أنه - بالنظر إلى طبيعة الإصابات التي لحقت بالككلي، والتي انحصرت في رصاصات مباشرة بالرأس، فإنه يرجّح أن ما حدث كان "عملية اغتيال" جرت خلال عملية تفاوض كانت تجري بين الككلي وقادة الهجوم على مقارّه.
مع انتهاء العملية العسكرية ضد الككلي، تمكنت القوات المشاركة من السيطرة على خمسة معسكرات أساسية في منطقة أبو سليم، بما في ذلك سجن بوسليم وسجن "عبد الحميد المضغوط" التابعة للككلي، إلى جانب المقر الرئيسي للككلي في مشروع الهضبة، ومقر جهاز الدعم والاستقرار في منطقتي نسمة وغوط الشعال، ومعسكر الجهاز في حديقة الحيوان ونطاق مستشفى الخضراء. ومع تأكيد وفاة الككلي، ما زال الغموض يلف مصير ذراعه اليمنى - لطفي الحراري، قائد جهاز الأمن الداخلي، حيث يتوارد بعض الأنباء عن اعتقاله أو هروبه، كذلك الأمر فيما يتعلق بأسامة أطليش قائد جهاز أمن المرافق والمنشآت، الذي تواردت أنباء عن هروبه ووصوله إلى مدينة الزاوية.
وقد أسهم بشكل أساسي في انهيار جبهة "الككلي"، انسحاب القوات التابعة لـ محمد بحرون - الملقب بـ "الفأر" - والتي كانت قد وصلت إلى العاصمة من مدينة الزاوية خلال الفترة الماضية، دعماً للككلي وفصائل طرابلس، بموجب نتائج اجتماع عقدته مؤخراً، قيادات الميليشيات الرئيسية في العاصمة طرابلس، وتحديداً تلك الموجودة في منطقتي سوق الجمعة وتاجوراء، لبحث كيفية التصدي للتحركات المتوقعة من مصراتة باتجاه طرابلس.
تصعيد له أسبابه، وتفاعلات متوقعة
من حيث الشكل، كان من المتوقع اندلاع هذه المواجهة بين الجانبين، في ظل عمليات التحشيد التي جرت باتجاه العاصمة طرابلس خلال الفترة الأخيرة، والتي تكثفت عملياً بعد الزيارة التي قام بها في نيسان/ أبريل الماضي، وفد برئاسة وزير الداخلية المكلف في حكومة الدبيبة، عماد الطرابلسي، ومستشار الدبيبة، إبراهيم الدبيبة، ومسؤولين آخرين. زيارة وفد الطرابلسي لمصراتة، استهدفت في الأساس حشد الدعم ضد قوات "الككلي" التي كانت تحشد وحداتها في العاصمة خلال الفترة الماضية.
على المستوى الاستراتيجي، يمكن النظر إلى هذه المواجهة من عدة زوايا، الأولى ترتبط بأن هذا الاشتباك يعتبر من نتائج الهجوم الذي جرى مؤخراً، على مقر ملتقى المصالحة الوطنية في مدينة الخمس، والذي نفذت "القوة المشتركة مصراتة"، رداً عليه، ما يمكن وصفه بأنه "هجوم استباقي"، على مقر جهاز دعم الاستقرار - الذي يقوده عبد الغني الككلي - داخل مدينة الخمس. يُضاف إلى هذه التداعيات بعض التحركات التي قام بها جهاز دعم الاستقرار داخل العاصمة طرابلس مؤخراً، وآخرها عملية اقتحام مقر الشركة القابضة للاتصالات، واعتقال رئيسها ونائبه لفترة وجيزة.
الزاوية الثانية - والأهم - ترتبط بالعامل الأميركي الضاغط نحو إعادة تشكيل المشهد العسكري في المنطقة الغربية الليبية تحت قيادة واحدة، وتوحيد التشكيلات المسلحة كافة في هذه المنطقة، تحت لواء وزارة الداخلية في حكومة الدبيبة، تمهيداً لخطوة اخرى متوقعة ترتبط بتشكيل قوة موحدة بين شرق ليبيا وغربها.
هذا العامل الضاغط ظهر إلى العلن بشكل واضح، خلال سلسلة التفاعلات التي جرت خلال الشهرين الأخيرين، بين الولايات المتحدة الأميركية، والقادة في شرق وغرب ليبيا، وتُوّجت منتصف الشهر الماضي، عبر زيارة غير مسبوقة، أجرتها سفينة القيادة الأميركية التابعة للأسطول السادس "يو إس ماونت ويتني"، لمدينتي طرابلس وبنغازي، آتية من تونس، وتضمنت هذه الزيارة جولة أجراها وفد أميركي رفيع، مكون من الأدميرال جيه تي أندرسون، قائد الأسطول السادس للبحرية الأميركية، والمبعوث الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، إضافة إلى القائم بالأعمال في السفارة الأميركية بطرابلس، جيريمي برنت.
هنا لا بد من الإشارة إلى الزيارة التي قام بها مؤخراً، وكيل وزارة الدفاع في حكومة الدبيبة، عبد السلام الزوبي، لواشنطن، تلبية لدعوة أميركية، وقد زار الزوبي مقر وزارة الدفاع الأميركية، والتقى بنائب مساعد وزير الدفاع، ومدير شؤون أفريقيا في وزارة الدفاع الأميركية، ومدير أفريقيا في رئاسة الأركان الأميركية، كما التقى الزوبي بشكل منفصل بنائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، جوشوا هاريس.
من الزاوية الميدانية، تبدو هذه المواجهة بمنزلة "حرب إلغاء"، لإعادة تشكيل المشهد الأمني في طرابلس، جرى خلالها إنهاء "حالة" عبد الغني الككلي، الذي كان يمثل رقماً صعباً في المعادلة الميدانية، منذ تعيين المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق السابقة برئاسة فايز السراج له عام 2021، رئيسًا لـ "جهاز دعم الاستقرار"، وهو الجهاز الذي توسعت صلاحياته لتشمل حماية المقارّ الرسمية، وتأمين الشخصيات العامة، والمشاركة في العمليات العسكرية، ومن ثم توسع نفوذه بشكل ملحوظ مع تولّي الحكومة الحالية السلطة في مارس 2021، حيث تعددت نقاط تمركز وانتشار الوحدات العسكرية التابعة له في العاصمة ومحيطها، وارتبط اسمه بالعديد من الاشتباكات المسلحة في الغرب الليبي.
في نهاية الاشتباكات السالف ذكرها، انكفاً عملياً "جهاز دعم الاستقرار" بشكل كامل - رغم تعيين خلف للككلي من جانب عناصر هذا الجهاز - وذلك بالنظر إلى أن الطبيعة العامة للتشكيلات المسلحة في ليبيا، تجعلها مرتبطة دائماً بالقائد الأساسي لها أو بالشخص الذي تولّى تأسيسها، ومن ثم تنكفئ هذه التشكيلات بانتهاء دور القائد المسؤول عنها، وبالتالي يتوقع انهيار "جهاز دعم الاستقرار"، وتلاشي الميليشيات المرتبطة به. وهنا يمكن القول إن التشكيلات المسلحة التي كانت متحالفة مع الككلي، وتحديداً جهاز الشرطة القضائية "بقيادة أسامة نجيم"، وقوة الردع "بقيادة عبد الرؤوف كارة"، وجهاز الأمن الخارجي، ستكون هي التالية في عملية "إعادة تشكيل المشهد الميداني في طرابلس"، وهو ما تأكد بالفعل بعد أن دارات خلال الأيام الأخيرة، اشتباكات بين اللواء 444 وجهاز الردع، جرى إيقافها بشكل مؤقت من جانب المجلس الرئاسي.
في الخلاصة ، يمكن القول إنه سبق أن شهدت العاصمة إعادة تشكيل مماثلة للمشهد العسكري الميداني، أعوام 2015 و2016 و2018 و2022، خلالها انتهت بشكل كامل تشكيلات عسكرية كبرى مثل "كتائب ثوار طرابلس"، وكتائب "النواصي" وغيرها، ويرجّح هنا استكمال التحركات الميدانية ضد مجموعات مسلحة أخرى داخل العاصمة، أهمها قوة الردع وجهاز الشرطة القضائية، وهذا يرجّح استمرار العمليات الميدانية خلال الفترة المقبلة، ولا سيما أن أطرافاً عدة كانت موالية للككلي، على رأسها شقيقه "فتحي"، قد تبادر إلى اتخاذ خطوات انتقامية رداً على مقتله، فضلاً عن أن ميليشيات أخرى داخل العاصمة، مثل "قوة حماية طرابلس" التابعة للمجلس العسكري طرابلس الكبرى، قد أعلنت حالة النفير العام، رداً على تحركات قوات مصراتة، وهو إذا ما وضعناه جنباً إلى جنب مع التظاهرات التي اندلعت داخل العاصمة الليبية، تنديداً بحكومة الدبيبة، ودورها في الأحداث التي شهدتها العاصمة أخيراً، يتضح أن ما هو مقبل في ليبيا لن يكون مشابهاً في أي من تفاصيله، للمشهد السائد منذ سقوط القذافي.