خلفيات عودة الجدل حول البرنامج الصاروخي السعودي

طرحت اتفاقية "الدفاع الاستراتيجي المشترك" التي وقّعتها السعودية مع باكستان، احتمالات كبيرة لدخول مساعي الرياض في ما يتعلّق بامتلاك القدرات الصاروخية متوسطة/بعيدة المدى، إلى مستويات جديدة.

  • تحرّكات سعودية صامتة في المجال الباليستي.
    تحرّكات سعودية صامتة في المجال الباليستي.

خلال الأشهر القليلة الماضية، عاد بشكل متكرّر الجدل حول النقطة الحالية التي يتموضع فيها "البرنامج الصاروخي" للمملكة العربية السعودية، أو بالأحرى "القدرات الصاروخية بعيدة المدى" التي تمتلكها المملكة.

الحديث الجديد القديم عن هذا الموضوع، يتجدّد بشكل عامّ بين الفينة والأخرى، على وقع بعض التسريبات الإعلامية بشأن تواصل المملكة مع دول مصنّعة للتقنيات الصاروخية، إما بهدف الحصول على تقنيات التصنيع والتطوير، أو شراء أنواع حديثة من المنظومات الصاروخية النوعية.

لكن طرحت اتفاقية "الدفاع الاستراتيجي المشترك" التي وقّعتها المملكة مع باكستان، في أيلول/سبتمبر الماضي - إلى جانب متغيّرات أخرى كشفتها الصور الجوية واستخبارات المصادر المفتوحة - عن احتمالات كبيرة لدخول المساعي السعودية في ما يتعلّق بامتلاك القدرات الصاروخية متوسطة/بعيدة المدى، إلى مستويات جديدة يتمّ الجمع من خلالها بين الاستحواذ على قدرات ردع صاروخية من دول أخرى، وبين امتلاك قدرات تصنيع وتطوير محلية قد تسمح في المدى المنظور بتطوير برنامج محلي لتصنيع الصواريخ الباليستية. هنا يجدر أولاً شرح خلفيّات ونقطة بداية الطموح السعودي المرتبط بـالتسليح الصاروخي.

تحرّكات سعودية صامتة في المجال الباليستي

كانت العلاقات بين الرياض وبكين - والتي اتسمت دوماً بتطوّرات إيجابية - هي نقطة الأساس في امتلاك المملكة العربية السعودية قدرات صاروخية باليستية، بالنظر إلى حقيقة أساسية ترتبط بأنّ العلاقات الوثيقة بين المملكة وواشنطن، لم تساهم في أيّ مرحلة سابقة في تلبية الطلبات السعودية بشأن الصواريخ الباليستية أو الجوّالة متوسطة وبعيدة المدى، وكان الإحجام الأميركي في هذا الصدد ملحوظاً ومستمراً على مدى العقود الماضية، تحت مظلة حجة أساسية تتعلّق بعدم الرغبة في التسبّب في إطلاق سباق تسلّح باليستي في الشرق الأوسط، وكذا تفادي مخالفة بروتوكول "مراقبة تكنولوجيا الصواريخ" - المعروف اختصاراً باسم (MTCR) - الذي وقّعت عليه واشنطن أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وينصّ على حظر تصدير أيّ تقنيات صاروخية يتجاوز مداها 300 كيلومتر.

الرياض من جانبها وضعت هذه المسألة كنقطة ضعف أساسية في علاقتها مع واشنطن، وفسّرت الموقف الأميركي من الزاوية "الواقعية"، التي ترتبط بالحرص الأميركي التاريخي على ضمان استمرار التفوّق النوعي لـ "إسرائيل"، ومن هذا المنطلق شرعت المملكة - في ظلال الأجواء الدولية التي سادت أواخر ثمانينيات القرن الماضي، في التواصل مع الصين، للحصول على قدرات صاروخية باليستية متوسطة المدى، وبالفعل تلقّت أعداداً غير محدّدة من صاروخ "DF-3A" الباليستي متوسط المدى، العامل بالوقود السائل، والقادر على حمل رؤوس نووية، والذي يبلغ مداه المؤثّر نحو 2650 كيلومتراً. عمليات تسليم دفعات هذا الصاروخ إلى الرياض، تمّت بشكل سري وغير معلن، لدرجة أنّ تأكيد وجود هذا النوع من الصواريخ في الجيش السعودي، تمّ عملياً خلال عرض عسكري أقيم على هامش مناورات "سيف عبد الله" العسكرية في نيسان/أبريل 2014.

بمجرّد الكشف بشكل رسمي عن هذا الصاروخ، بدأت التقديرات الغربية للمستويات التي وصلت إليها القدرات الصاروخية السعودية، في الارتفاع بشكل مطرد، خاصة في ظلّ انتشار تقديرات غير مؤكّدة، تشير إلى استحواذ المملكة على أنواع أخرى من الصواريخ الباليستية الصينية، لاستبدال صواريخ "DF-3A" المتقادمة، منها الصاروخ "DF-21"، العامل بالوقود الصلب، والذي يصل مداه المؤثّر إلى 1700 كيلومتر، والصاروخ "DF-15C"، العامل أيضاً بالوقود الصلب، والبالغ مداه 850 كيلو متراً، ويتخصص في تدمير المنشآت العسكرية عالية التحصين أو الموجودة تحت الأرض، والصاروخ "DF-17" البالغ مداه 2500 كيلومتر، وصواريخ أخرى مثل "DF-31" و"DF-41" بعيدة المدى، وهي جميعها أنواع من الصواريخ لم يتمّ تأكيد وجودها في المملكة بشكل قطعي، وهذا يعزى بشكل أو بآخر إلى النمط الذي اتبعته المملكة فيما يرتبط بقوة الصواريخ الاستراتيجية الخاصة بها.

العلاقات بين الرياض وبكين لم تكن فقط هي محرّك الجدل بشأن القدرات الصاروخية السعودية، فقد دخلت باكستان على خط هذا الملف أواخر تسعينيات القرن الماضي، خاصة بعد الزيارة التي قام بها وزير الدفاع السعودي آنذاك، الأمير خالد بن سلطان، عام 1999، لمختبرات "كاهوتا" للأبحاث في باكستان، التي تعتبر من المرافق الأساسية لإنتاج الصواريخ الباليستية الباكستانية.

انتقال البرنامج الصاروخي السعودي لمرحلة جديدة

أواخر عام 2021، أظهرت صور الأقمار الصناعية، وجود حفر حرق بالقرب من منشأة مرتبطة بالبرنامج الصاروخي السعودي، قرب مدينة الدوادمي غرب الرياض، وهو ما مثّل أوّل دليل نوعي على أنّ هذه المنشأة تعمل في مجال إنتاج الصواريخ الباليستية ومحرّكاتها، نظراً لأنّ "حفر الحرق" هذه، تستخدم في العادة للتخلّص من الوقود الصلب المتبقّي من عمليات إنتاج الصواريخ الباليستية.

في منتصف عام 2022، تحدّثت الصحافة ومراكز الأبحاث الأميركية بشكل مكثّف، عن قرب دخول أنواع جديدة من الصواريخ الباليستية الصينية، في التسليح السعودي، ضمن برنامج تمّت تسميته "التمساح"، يتمّ بموجبه رفع كفاءة نحو سبع قواعد صاروخية سعودية، تتضمّن أغلبها مرافق للتدريب واختبار الصواريخ، ومنشآت قد ترتبط بقاعدة تصنيع أو تجميع محلية للصواريخ الباليستية، أهمها أربع قواعد توجد في مدن الحريق والسليل والوطية ورنية. وقد أشارت صور جوية أخرى أوائل العام الجاري، إلى أنّ السعودية قد قامت بتشييد قاعدة تحت أرضيّة للصواريخ، بالقرب من بلدة النبهانية، إلى جانب أعمال بناء أخرى داخل منشأة تدريب مرتبطة بالبرنامج الصاروخي في وادي الدواسر، الذي يعتبر معقلاً أساسياً لقوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية.

هذا النشاط المتزايد في المرافق المرتبطة بالبرنامج الصاروخي السعودي، ترافق مع توسيع الرياض لهامش تواصلها مع الدول المصنّعة للصواريخ النوعية، وتحديداً كوريا الجنوبية، حيث دخل كلا الجانبين منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، في مباحثات مستمرة، بشأن التعاون العسكري والتسليحي، خاصة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك-يول إلى السعودية. الأنظمة التي تباحث الجانبان حولها، شملت اتجاهات متعدّدة، من بينها أنظمة الدفاع الجوي والأنظمة الصاروخية، وحينها لم تتضح طبيعة الأنظمة التي تمّ الاتفاق حولها.

لكن تمّ الإعلان بشكل مفاجئ أوائل عام 2024، عن حصول المملكة على نوعين أساسيين من الأنظمة التسليحية الكورية الجنوبية؛ الأول هو منظومة الدفاع الجوي متوسطة المدى "M-SAM-II"، والثاني هو نظام المدفعية الصاروخية "K239 Chunmoo"، الذي يتميّز بقدرته على إطلاق مجموعة متنوّعة من الصواريخ، بما في ذلك الصواريخ غير الموجّهة والموجّهة بدقة، من مختلف الأعيرة (130 ملم و227 ملم و239 ملم)، إلى جانب إمكانية إطلاق الصاروخ الباليستي التكتيكي من عيار 600 ملم "CTM-290"، الذي يصل مداه إلى 290 كيلومتراً، وهو ما مثّل إضافة مهمة للتقنيات الصاروخية التي تمتلكها المملكة، ومثّل أيضاً تأكيداً بأنّ العلاقات التسليحية بينها وبين كوريا الجنوبية، قد انتقلت إلى آفاق جديدة.

هذه النتيجة ربما تبرّر الأنباء التي ظهرت خلال الأسابيع الأخيرة، بشأن تعاقد المملكة على شراء الصاروخ الجوّال الكوري الجنوبي "Hyunmoo-3"، الذي يعتبر من الأسلحة الاستراتيجية الكورية الجنوبية، والمعادل الموضوعي للصاروخ الأميركي الجوّال "توماهوك"، الذي لم تتمكّن المملكة السعودية من الحصول عليه من الولايات المتحدة. بدأت كوريا الجنوبية في تطوير هذا الصاروخ خلال تسعينيات القرن الماضي، وأدخلت أول نسخة للخدمة عام 2006، وقد مكّن هذا التطوير كوريا الجنوبية، من توسيع مدى قواتها الصاروخية، نظراً لأنّ برامج الصواريخ الباليستية الكورية الجنوبية، مقيّدة باتفاقيات الحدّ من الأسلحة المبرمة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، والتي تخرج الصواريخ الجوّالة عن نطاقها.

يتوفّر من هذا الصاروخ ثلاث نسخ أساسية، الأولى "A"، التي تطلق من منصات أرضية، ويبلغ مداها 500 كيلومتر، والثانية "B"، وتطلق أيضاً من منصات أرضية، ويصل مداها إلى 1000 كيلومتر، في حين يتمّ اطلاق النسخة "C" من على متن الغوّاصات والقطع البحرية، ويبلغ مداها 1500 كيلومتر. تشترك النسخ الثلاث في رأس حربي تبلغ زنته نصف طن، وتعمل جميعها بالوقود الصلب ومحرّكات نفّاثة توربينية، وتتسم بالدقة الشديدة، بهامش خطأ لا يتجاوز ثلاثة أمتار.

الاستحواذ على هذا النوع من الصواريخ الجوّالة - في حالة تأكيده - سيوفّر للسعودية إضافة نوعية لقدراتها الصاروخية متوسطة المدى، في ظلّ احتمالات كبيرة لأن تشمل صفقة الحصول على هذا النوع من الصواريخ، تعاوناً مشتركاً في مجال التصنيع والتطوير، بما قد يرفع من المدى الأقصى لهذا النوع من الصواريخ، إلى حدود 3000 كيلومتر.

مقاربة مختلفة من الرياض، أم ضغط على واشنطن

تمثّل العلاقات العسكرية بين السعودية من جهة، وكلّ من باكستان وكوريا الجنوبية، مثار اهتمام واشنطن، مثلها في ذلك مثل العلاقات بين الرياض وبكين، ومن أهمّ الأسباب التي تبرّر هذا، حقيقة أنّ أيّ استحواذ لأسلحة صينية جديدة من جانب الرياض، كان دوماً يتمّ في سرية تامّة، ولا تعرف أيّ معلومات علنية حوله إلا بعد عدة سنوات، ومن أحدث الأمثلة على ذلك، منظومة الدفاع الجوي الليزرية "Silent Hunter"، التي اشترتها الرياض من بكين عام 2019، ولم تظهر بشكل علني إلّا بعد ذلك بعامين. بالتالي يمكن القول إنه توجد احتمالات جدّية لظهور أنواع جديدة من الصواريخ الباليستية - الصينية أو الباكستانية أو الكورية الجنوبية - في الترسانة السعودية خلال المدى المنظور.

على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال حقيقة أنّ حالة العلاقات بين الرياض وواشنطن - صعوداً أو هبوطاً - وكذلك العلاقات الوثيقة بين كوريا الجنوبية وباكستان من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، تعتبر جميعها أطراً عامّة تؤطّر أيّ صفقات تسليحية بين المملكة وهذه الأطراف، وإن كانت احتمالات حدوث صفقات "نوعيّة" في ظلّ الفجوات التي تطرأ على العلاقات بين الأطراف جميعها، وانشغال واشنطن في بعض الأحيان باستحقاقات داخلية أو خارجية، يبقى وارداً.

وعلى الرغم من الطموحات السعودية الواضحة في مجال التصنيع العسكري، خاصة المجال الصاروخي، إلّا أنّ افتقار المملكة للقاعدة التكنولوجية والصناعية اللازمة في الوقت الحالي، يعني عملياً أنّ المملكة ستظلّ مستهلكاً للأسلحة في المستقبل المنظور، حتى تتمكّن من امتلاك ما يكفي من خبرات فنية لتكوين ما يمكن وصفه حينها، ببرنامج صاروخي محلي الصنع بالكامل، وهذا ربما يفسّر التواصل بين الرياض وإسلام آباد خلال الفترة الأخيرة، فبالنسبة للرياض، تُلبّي الاتفاقية الأمنية مع إسلام آباد أهدافاً استراتيجية متعدّدة، حيث تتوافق بشكل وثيق مع برنامج التخطيط لرؤية المملكة العربية السعودية 2030، الذي يُعطي الأولوية، من بين أهداف أخرى، للاعتماد على القدرات الذاتية في قطاع الدفاع، من خلال توسيع القدرات العسكرية وتطوير صناعة أسلحة محلية.

كما أنّ المملكة عضو في شراكة ثلاثيّة في مجال الصناعات الدفاعية مع تركيا وباكستان، وهو إطار تعاوني يهدف إلى تجميع الموارد التقنية والمالية والبشرية لتحقيق أهداف دفاعية مشتركة. وتهتم المملكة العربية السعودية، إلى جانب باكستان وتركيا، بالإنتاج المشترك وشراء مقاتلة الجيل الخامس التركية "KAAN"، ما يجعل كلاً من إسلام آباد وأنقرة، محوراً أساسياً لهدف الرياض المتمثّل في توطين أكثر من 50 بالمئة من مشترياتها العسكرية بحلول عام 2030.

الاعتبار الحاسم الثاني للرياض، هو تنويع علاقاتها الدفاعية الدولية، فلا يزال الأمن الخليجي معتمداً في الجانب الأكبر منه، على واشنطن، وهو اعتماد يُقيّد استقلالية دول الخليج الاستراتيجية. وقد أرسل الدعم العسكري الأميركي لـ "إسرائيل" خلال الأشهر الماضية، إشارة واضحة إلى دول الخليج، بما فيها السعودية، مفادها أنّ الاعتماد على القدرات الذاتية في المجال الدفاعي، سيكون أمراً حتمياً خلال المدى المنظور، وأنّ الرهان على الدور الأميركي في هذا الصدد، يبقى محفوفاً بالمخاطر.

وأخيراً، كانت الأوضاع التي شهدها الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة، محفّزاً لدول المنطقة عامّة، ودول الخليج خاصة، للبحث بشكل جدّي في تفعيل منظومات الصواريخ الباليستية والدفاع الصاروخي، مثل قطر، التي عرضت للمرة الأولى أواخر عام 2017، صواريخها الباليستية قصيرة المدى من نوع "SY-400" صينية الصنع، ومن قبلها قامت السعودية بخطوة مماثلة، وهو مؤشّر مهم في حدّ ذاته على مرحلة مقبلة من التسلّح الباليستي في منطقة الخليج.