"جولايث - زيلدا ... إجرام إسرائيلي بنكهة نازية
خلال العدوان الإسرائيلي في مرحلة ما بعد عملية "طوفان الأقصى"، اضطرت الوحدات العسكرية الإسرائيلية، إلى الدفع بناقلات "زيلدا"، إلى ميدان القتال، نظراً لمحدودية أعداد ناقلات "نامير" و"أيتان". ماذا يعني ذلك؟
-
"M-113" … مسيرة متواضعة في "الجيش" الإسرائيلي.
لعلّ من الجوانب الميدانية الهامة للغاية، التي ظهرت بشكل أكبر خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ذلك الجانب المتعلق بالاستخدام الإسرائيلي "الهجين" لمزيج يجمع بين الاستعانة بالآليات والتقنيات والتكتيكات العسكرية القديمة، وبين تعديل هذه التقنيات وتحويلها إلى نماذج "متحكم بها عن بعد".
هذا الجانب شهد تطبيقات عدة، من أهمها إعادة استخدام ناقلات الجند المدرعة "M-113" أميركية الصنع -والتي خرجت تدريجياً من الخدمة في "الجيش" الإسرائيلي -وهو ما تم في البداية، لسدّ بعض الفجوات التي ظهرت في تسليح وحدات المشاة الميكانيكية خلال الهجوم على قطاع غزة، لكنه تحوّل بشكل شبه كامل لاستخدام هذه المدرعات - بعد أن يتم تكديس تشكيلة من الذخائر والألغام والمواد المتفجرة داخلها - لتصبح بمنزلة لغم متحرك، يتم من خلاله تدمير المناطق السكنية.
"M-113" … مسيرة متواضعة في "الجيش" الإسرائيلي
يعد "الجيش" الإسرائيلي حالياً، ثاني أكبر مشغل لهذا النوع من ناقلات الجند المدرعة، بعد الولايات المتحدة الأميركية، بإجمالي يبلغ 6000 ناقلة عاملة أو موجودة في التخزين الاحتياطي.
بداية مسيرة هذه الناقلة -التي يطلق عليها محلياً "زيلدا" - في صفوف "الجيش" الإسرائيلي، كانت في الخامس من حزيران/يونيو 1967، حين استولت القوات الإسرائيلية بعد دخولها الضفة الغربية، على عشرات الناقلات من هذا النوع، التابعة للجيش الأردني، ومن ثم بادر مباشرة بدمج هذه الناقلات ضمن تشكيلات المشاة الميكانيكية، أسوة بمعظم الأسلحة الثقيلة التي استولى عليها خلال حرب الأيام الستة.
مطلع سبعينيات القرن الماضي، تلقى "الجيش" الإسرائيلي أول الدفعات الجديدة من هذه الناقلة، بعد أن قام بتقييم أدائها الميداني، مقارنة بأداء العربات نصف المجنزرة، التي كانت تشكل عماد تشكيلات المشاة الميكانيكية في وحداته المدرعة في ذلك التوقيت، وبدا من هذا التقييم، أن ناقلات "M-113" تتفوّق على العربات نصف المجنزرة، في القتال الصحراوي وفي ما يرتبط بالتسليح والمناورة.
لكن جاءت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، لتوجه ضربة قاصمة لهذه التقييمات، إذ شاركت في هذه الحرب نحو 500 ناقلة "M-113"، وثبت من الوقائع الميدانية، عدم كفاءة هذا النوع من الناقلات في المواجهات الالتحامية المباشرة مع وحدات المشاة المصرية والسورية، نظراً لضعف تدريعها أمام الأجيال الحديثة من الصواريخ السوفياتية المضادة للدروع، مثل الصواريخ الموجهة بالسلك "مالوتيكا"، التي كانت تخترق التدريع الجانبي لهذه الناقلات، وتسفر عن إصابات مباشرة في عناصر المشاة المنقولين داخلها.
هذه التجربة دفعت "تل أبيب" إلى الاستمرار في استخدام العربات نصف المجنزرة، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، جنباً إلى جنب مع ناقلات "M-113"، خاصة خلال الاجتياح الأول لجنوب لبنان عام 1978. كما شهد هذا النوع من الناقلات، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، تجربة صعبة أخرى، بعد أن ساهم ضعف تدريعها، وطبيعة بدنها المصنوع من سبائك الألومنيوم، في إعطابها بشكل فوري في حالة تعرضها لأي نوع من القذائف المضادة للدروع، بما في ذلك القذائف السوفياتية ذات الرأس المتفجر المحدود "أر بي جي".
تجربة هذا النوع من الناقلات، دفعت القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى إدخال تعديلات جذرية على تكتيكات استخدامها، بحيث تستخدم حصراً في مهمات نقل الجنود إلى المواقع القريبة من خطوط التماس "APC"، ولا يتم التعامل معها على أنها عربة قتال مدرعة تستطيع نقل الجنود "IFV"، وهذا ظهر بشكل جلي خلال عملية حصار بيروت.
المقاومة الفلسطينية ونجاحات بارزة ضد "زيلدا"
للطبيعة الميدانية داخل المدن الفلسطينية، استخدم "الجيش" الإسرائيلي ناقلات "زيلدا"، خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، وكانت تجربة هذا النوع من الناقلات خلال تلك المواجهات مماثلة لتجربتيها السابقتين في جنوب لبنان وسيناء، ففي الانتفاضة الثانية، تعرضت ناقلتان من هذا النوع - في مناسبتين منفصلتين - للتدمير بشكل كامل في قطاع غزة، بعد إصابتهما بعبوات ناسفة زرعت في طريقهما، ما أسفر في كلتا المناسبتين عن مقتل كامل عناصر المشاة الموجودين داخل الناقلتين، بواقع 11 عنصراً لكل ناقلة.
فداحة الخسائر التي طالت عناصر المشاة في هاتين الحادثتين، وكذا التجربة السابقة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، دفعت "إسرائيل" إلى البدء عملياً في بحث تطوير ناقلات جند مدرعة محلية الصنع، تتسم بتسليح وتدريع متفوق، وهي عملية لم تبدأ بشكل مباشر عقب الانتفاضة الثانية، حيث دخل "الجيش" الإسرائيلي في مواجهة كبيرة مع حزب الله في جنوب لبنان عام 2006.
خلال التدخل البري الإسرائيلي في قطاع غزة عام 2014، كان لحي الشجاعية في مدينة غزة، بصمة مهمة في ما يتعلق بهذا النوع من الناقلات، بعد أن تدمرت بالكامل ناقلة من هذا النوع، تابعة للواء "غولاني"، بعد أن تلقت ضربة مباشرة بصاروخ محمول على الكتف مضاد للدروع، من نوع "أر بي جي-29"، ما أسفر عن مقتل سبعة جنود من هذا اللواء، وهي حادثة كان لها أثر عميق سواء في أوساط الوحدات المقاتلة داخل قطاع غزة - التي رفضت استمرار الاعتماد على هذا النوع من الناقلات خفيفة التدريع - أو في الأوساط العسكرية الإسرائيلية العليا، التي وجدت أن الحاجة باتت ملحّة للبدء في إخراج هذا النوع من الناقلات من الخدمة.
هنا، تجدر الإشارة إلى أن "الجيش" الإسرائيلي لديه بالفعل برنامج نشط لإنتاج نوعين من أنواع ناقلات الجند المدرعة، لاستبدال ناقلات "زيلدا"، الأول هو المركبة القتالية المدرعة "إيتان"، والثاني ناقلات الجند المدرعة "نامير"، ومع ذلك، لم يتمكن "جيش" الدفاع الإسرائيلي بشكل فوري، من استبدال هذه الناقلات في العمليات القتالية، بسبب قيود الميزانية في تجهيز أفواج المشاة الميكانيكية، وبالتالي استمر استخدام ناقلات "زيلدا" بشكل عام داخل "الجيش" الإسرائيلي، بإعداد تبلغ نحو 500 ناقلة، في حين تم خلال السنوات الأخيرة - على دفعات - تخزين ما مجموعه خمسة آلاف ناقلة أخرى من النوع نفسه.
ناقلات "زيلدا" في ميزان المواجهة العسكرية الأخيرة في غزة وجنوب لبنان
خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وجنوب لبنان في مرحلة ما بعد عملية "طوفان الأقصى"، اضطرت الوحدات العسكرية الإسرائيلية، إلى الدفع بناقلات "زيلدا"، إلى ميدان القتال، نظراً لمحدودية أعداد ناقلات "نامير" و"أيتان" الموجودة في الخدمة حالياً، وهو ما أدى إلى حدوث خسائر جسيمة في بعض وحدات المشاة الميكانيكية، مثل ما حدث في حزيران/يونيو 2024، حيث انفجرت ناقلة من هذا النوع، بعد انفجار منظومة فتح الثغرات في حقول الألغام "كاربت"، التي كانت الناقلة تجرها خلفها، بعد أن أصيبت بصاروخ مضاد للدروع.
لكن طرأ تطور مهم على أسلوب استخدام هذا النوع من الناقلات - خاصة القسم المخزن منها - وهذا التطور يرتبط بجانب أساسي من جوانب الأهداف العملياتية الإسرائيلية في قطاع غزة وجنوب لبنان، ألا وهو إلحاق أكبر تدمير ممكن بالمناطق السكنية. في المرحلة الأولى من العدوان الإسرائيلي، كان اعتماد الوحدات الهندسية الإسرائيلية في تحقيق هذا الهدف، منصباً على استخدام منظومات "كاربت" -المخصصة في الأصل لفتح ثغرات أرضية في حقول الألغام - بجانب استخدام الجرافات "D-9"، سواء النسخ المأهولة منها، أو النسخ غير المأهولة، التي تم تطويرها عام 2018، تحت اسم "باندا".
محدودية أعداد هذه الجرافات، وكذا الخشية من استنزاف الشحنات المتفجرة الخاصة بمنظومات "كاربت"، دفعت "الجيش" الإسرائيلي إلى البدء في استخدام قسم من الأعداد المخزنة من ناقلات "زيلدا"، بأشكال عدة تخدم هدف تدمير المناطق السكنية بشكل كامل، وأهدافاً أخرى. هذا المسار تضمن مراحل عملياتية عدة. في المرحلة الأولى، تمت إعادة استخدام تكتيك سبق تنفيذه على نطاق ضيق للغاية في قطاع غزة عام 2014، وبموجبه كانت الوحدات الهندسية الإسرائيلية، تملأ القسم الخاص بنقل الجنود في هذه الناقلة، بما تتراوح زنته بين 3 و7 طن من نترات الأمونيوم - وهي مادة شديدة الانفجار - ومن ثم يتم نقل هذه الناقلة عبر سحبها بواسطة دبابة أو جرافة، إلى الموقع المراد تفجيره، ومن ثم يتم تفجير الشحنة المتفجرة بالضرب المباشر على الناقلة بواسطة الدبابات.
هذا الأسلوب - الذي تم استخدامه بشكل موسع أواخر العام الماضي - تضمن تعقيدات عملياتية كبيرة، إذ فشلت عمليات تفجير العبوة الناسفة الموجودة داخل الناقلة في مناسبات عدة، كما أن عملية تفجير هذه العبوة تحتاج استخدام قدرات قتالية إضافية، مثل الدبابات أو قذائف المدفعية أو الطائرات المسيرة. لهذا، قامت شعبة التكنولوجيا الأرضية في "الجيش" الإسرائيلي، بتطوير النماذج اللاحقة من عمليات استخدام هذه الناقلات كمدرعات انتحارية، بحيث تتضمن آلية تفجير لاسلكية، أو ترتبط بآلية تفجير تصادمية.
في مرحلة تالية، تم وضع أشكال أخرى لاستخدام هذه الناقلات ميدانياً من جانب "الجيش" الإسرائيلي، إذ تم تعديل بعضها – لا سيما تلك التي تمتلك محركات قابلة للتشغيل - بحيث يتم التحكم بها عن بعد من دون الحاجة إلى وجود طاقم بشري على متنها، ومن ثم يتم استخدامها كـ "ناقلة" للعبوات الناسفة، بحيث تقوم بنقل العبوة الناسفة إلى الموضع المراد تفجيره، وإسقاطها فيه، ومن ثم تغادر المنطقة قبل تفجير العبوة، وبهذه الطريقة، تُجنّب ناقلات الجنود المدرعة نفسها التدمير، ويمكن استخدامها مرارًا وتكرارًا.
تحويل هذه الناقلات إلى نماذج متحكم بها عن بعد، تضمن أيضاً تجارب ميدانية في قطاع غزة، لنقل الذخائر ومواد الإعاشة إلى القوات المتقدمة، وكذا عمليات نقل الجرحى، بجانب تنفيذ المهمات القتالية، مثل عمليات الاستطلاع القتالي، والاشتباك المباشر، عبر تسليح بعض المدرعات برشاشات أوتوماتيكية، وهو الأمر الذي تمت تجربته بشكل فعلي في مدينة رفح.
في الخلاصة، يمكن القول إنه يمكن - من حيث الشكل والوظيفة - تشبيه تعديل "الجيش" الإسرائيلي لأسلوب استخدام ناقلات "زيلدا" بأحد الابتكارات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وهو اللغم المتحرك "جولايث" - (Goliath Sd.kfz 302). هذا الجانب الإجرامي يجعل التطابق بين تكتيكات الجماعات الإرهابية - مثل "داعش"- وبين ما يفترض أنه "جيش نظامي"، أكبر مما يمكن تجاهله أو تبريره من البعض. يضاف إلى ذلك، حقيقة أن عملية استخدام مثل هذه المدرعات المتفجرة عالية التأثير، لا تؤطره أي مبادئ أو إجراءات خاصة، في ظل عدم اعتراف "الجيش" الإسرائيلي بشكل رسمي باستخدامه هذه المدرعات كآليات متفجرة.
على الجانب العملياتي، يعدّ تعديل تكتيكات استخدام هذا النوع من الناقلات، دليلاً آخر على التوجه واسع النطاق لـ"الجيش" الإسرائيلي، نحو مزيد من الاعتماد على الأنظمة ذاتية التشغيل، والمركبات المسيرة بمختلف أنواعها، سواء لأداء المهمات اللوجستية أو المهمات القتالية، كجزء من استراتيجية أوسع لتقليل الفجوات الناتجة عن محدودية القوة البشرية المتوفرة.
في جانب آخر، توجد احتمالية معقولة لأن تكون تجربة تعديل ناقلات "زيلدا"، هي مرحلة وسيطة لتطوير جذري مدرعات ذاتية التحكم - لا يعتمد بالضرورة على هذه الناقلات القديمة - التي أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية في حزيران/يونيو الماضي، عن مناقصة دولية لبيع مخزونها من هذه الناقلات.
على مستوى القانون الدولي، يمكن القول إن استخدام مثل هذه المدرعات الانتحارية، محظور بموجب القانون الدولي الإنساني، لأنها أسلحة غير مميزة بطبيعتها، وتأثيرها الانفجاري واسع النطاق يؤثر بشكل مباشر وغير مميز على المدنيين والأهداف المدنية، وبالتالي توجد احتمالية كبيرة لتسبب استخدام مثل هذه الوسائط، في عواقب وخيمة على البيئة المحيطة، وخسائر مادية وبشرية جسيمة في صفوف المدنيين، بالنظر إلى استخدام هذه المدرعات في مناطق سكنية هي الأكبر في قطاع غزة، مثل رفح والشجاعية وجباليا وتل الهوا، ناهيك بأن بعض هذه المدرعات يظل في حالة فشل عملية تفجيره، يشكل قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، وبالتالي تتحوّل إلى عائق أمام عمليات إعادة الإعمار وعودة السكان.