الأزمة الليبية في ظلال إحاطة "تيتيه" وتوترات شرق المتوسط
في ضوء المشهد السياسي المتأزم، استمرت حالة الاستنفار "المكتومة" داخل العاصمة طرابلس، حيث ما زالت عمليات الاستعداد والتحشيد المستترة في التفاعل.
-
استمرار حالة الاستنفار داخل العاصمة الليبية.
تراوح الأزمة الليبية منذ عدة سنوات مكانها، في ظلّ استمرار حالة الازدواجية السياسية والعسكرية في ليبيا، وهي حالة يتمّ تكريسها من عدة أطراف، عند كلّ استحقاق يتمّ الوصول إليه بهدف إيجاد حلول جذرية لمعضلات هذا الملف، سواء كانت محاولات الحلّ مقبلة من اتجاه البعثة الأممية، أو من خلال مبادرات محلية أو إقليمية.
وقد عبّرت المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيتيه، خلال أحاطتها الدورية أمام مجلس الأمن الدولي، في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، عن هذه الحالة، حين أعلنت عزم البعثة الأممية تقديم خارطة طريق جديدة محدّدة زمنياً لإجراء الانتخابات الليبية، استناداً إلى المشاورات التي أجرتها البعثة خلال الفترة الماضية في مختلف أنحاء البلاد، في ظلّ وجود حاجة إلى الاتفاق على محطات واضحة مع جدول زمني محدّد لإجراء انتخابات، من شأنها أن تشكّل الأساس لأن يكون لدى الحكومة المقبلة تفويض واضح، ينبع من الشعب الليبي ويشمل جميع أجزاء البلاد والقبائل والمكوّنات الثقافية.
كان لافتاً في هذه الإحاطة، تنويه تيتيه إلى ضرورة وجود دعم من مجلس الأمن الدولي، بما في ذلك استعداده لاتخاذ تدابير ضدّ أولئك الذين يعرقلون العملية السياسية أو يحرّضون بشكل فاعل على العنف، خاصة في طرابلس، هذا إلى جانب أمور لافتة أخرى، من بينها تناول تعامل القوات الأمنية في طرابلس مع المتظاهرين خلال الأسابيع الأخيرة، حيث وصفته المبعوثة الأممية بـ "التعامل المهني"، إلى جانب أعرابها عن القلق من الميزانية التي ناقشها مجلس النواب الليبي مؤخراً، لإعادة الإعمار، حيث اعتبرت أنّ مناقشة مجلس النواب لميزانية ثلاث سنوات بقيمة 69 مليار دينار ليبي، لصندوق التنمية والإعمار، ستكون مثيرة للقلق حال الموافقة عليها.
جدل داخلي حول إحاطة المبعوثة الأممية
أثارت هذه الإحاطة موجة كبيرة من الجدل وردود الفعل وسط الأطراف الليبيين، حيث اقتحم متظاهرون يطالبون بإسقاط حكومة "الوحدة الوطنية" بقيادة عبد الحميد الدبيبة، بوابة مقرّ البعثة الأممية في طرابلس، للمطالبة بالاستماع إلى مطالبهم بتشكيل حكومة جديدة موحّدة وإجراء الانتخابات. كما اعتبر بعض الأطراف الليبيين، ما ورد في إحاطة المبعوثة الأممية، تدخّلاً مباشراً في الشأن السيادي الداخلي، ومحاولة لتعطيل مسار الحلّ السياسي والانحياز لطرف بعينه، وفي مقدّمة هذه الأطراف، الحكومة المكلّفة من مجلس النواب الليبي، برئاسة أسامة حماد، التي أصدرت بياناً رسمياً، اعتبرت فيه أنّ المبعوثة الأممية مارست "سياسات عبثية وغير مسؤولة"، واتهمتها بتجاهل الانتهاكات التي شهدتها طرابلس.
هذا الموقف واكبه موقف مماثل من مجلس النواب، حيث وجّه النائب الثاني لرئيس المجلس، مصباح دومة، انتقادات لاذعة للمبعوثة الأممية، واتهمها بمحاولة "إيقاف قطار التنمية" الذي انطلق في شرق البلاد وجنوبها، معتبراً أنّ المبعوثة لم تأتِ بجديد سوى زيادة تعقيد المشهد، ووصف خارطة الطريق المقترحة من جانب البعثة، بأنها نتاج آراء لجنة استشارية غامضة لم تُعرَف معايير تشكيلها، في تجاهل صريح لما ورد في نصوص الاتفاق السياسي الليبي، الذي رأى فيه دومة مرتكزاً شرعياً كان يجب أن يكون منطلقاً لأيّ مقترح أممي.
بشكل عامّ، تعكس إحاطة المبعوثة الأممية، بشأن قرب تقديم خارطة طريق سياسية، تحوّلاً نسبياً في منهج البعثة التي وُجّهت إليها سابقاً انتقادات بفقدان الفاعلية وانحيازها لبعض الأطراف، إلّا أنّ تعهّدها بتقديم خارطة طريق تعكس الإرادة الشعبية، يعيد طرح الأسئلة حول مدى واقعية التوافق بين الأطراف الليبيين المنقسمين، ولا سيما في ظلّ استمرار الانقسام السياسي والمؤسسي.
ملامح خارطة الطريق المزمع تقديمها والمبنية على توصيات اللجنة الاستشارية، تتوافق مع رؤية مجلس النواب، الذي يؤكّد ضرورة إنهاء الانقسام الحكومي وتشكيل حكومة موحّدة جديدة تشرف على إجراء الانتخابات. أما حكومة الدبيبة، فهي تروّج لرؤية مغايرة، ترفض استبعادها من العملية الانتخابية، وتؤكد أنها مستعدة لتنظيم الانتخابات حال توفّر قاعدة دستورية وقانونية، لكنها تعتبر أنّ أيّ حلول تتجاوزها تمثّل خرقاً لمبدأ الشرعية، ومن هنا يحاول الدبيبة تقديم نفسه كفاعل سياسي أساسي.
لكن على الجانب الآخر، تبدو دعوة البعثة لإجراء انتخابات فورية، متجاهلة بشكل كامل لحالة الانقسام المؤسسي والجغرافي والسياسي القائم حالياً بين طرابلس وبنغازي، وبالتالي قد تمثّل المطالبة بعقد انتخابات، بلا قاعدة دستورية موحّدة ولا اتفاق حول السلطة التنفيذية، نوعاً من أنواع الضغط السياسي على الأطراف الليبيين، أكثر منه محاولة جادّة للتوجّه نحو الانتخابات، وهذا ربما ما يفسّر ردود الفعل الغاضبة من جانب حكومة شرق ليبيا، خاصة في ظل ما يبدو أنه انحياز من جانب البعثة نحو حكومة الدبيبة، وتشير التقديرات الحالية، إلى أنّ أخطر ما يواجه عمل البعثة الأممية حالياً، هو فقدانها لثقة قطاعات واسعة من الليبيين، في ظلّ إدارتها الطويلة للعملية السياسية من دون نتائج ملموسة، وغياب أيّ خارطة طريق قابلة للتطبيق تنهي الفترات الانتقالية الممتدة.
استمرار حالة الاستنفار داخل العاصمة الليبية
في ضوء المشهد السياسي المتأزم، استمرت حالة الاستنفار "المكتومة" داخل العاصمة طرابلس، حيث ما زالت عمليات الاستعداد والتحشيد المستترة في التفاعل، رغم إعلان مديرية أمن طرابلس، انطلاق الخطة الأمنية المشتركة، تحت إشرافها وبمشاركة مختلف الجهات الأمنية والعسكرية ذات العلاقة، تنفيذاً لقرار رئيس المجلس الرئاسي بشأن تشكيل لجنة مشتركة للترتيبات الأمنية والعسكرية في العاصمة.
هذا الإعلان تزامن مع إصدار كلّ من المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، قرارات جديدة ترتبط بإعادة تشكيل المشهد الأمني في العاصمة طرابلس، حيث اتخذ المجلس الرئاسي قراراً بتعيين رئيس جديد لجهاز "دعم الاستقرار" ــــــ الذي كان يتولّى قيادته عبد الغني الككلي، قبل مقتله خلال اشتباكات طرابلس في أيار/مايو الماضي، ووقع الاختيار على حسن أبو زريبة، الذي كان يتولّى رئاسة الجهاز بالإنابة منذ مقتل الككلي. القرار الثاني أصدرته حكومة الوحدة الوطنية، وقضى بإعفاء صبري هدية، من مهامه كرئيس لجهاز الشرطة القضائية، وجاء في نصّ القرار أمر بتكليف علي الشتيوي، الذي يشغل موقع وكيل وزارة العدل في حكومة الدبيبة، بمهام رئيس جهاز الشرطة القضائية، بالإضافة إلى مهام منصبه الحالي.
رغم هذه الإجراءات التي تستهدف ضبط الأوضاع على الأرض في العاصمة، إلّا أنّ الوضع الأمني داخل طرابلس يبقى قريباً من الاشتعال في أيّ لحظة، في ظلّ تزايد احتمالات تنفيذ القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، هجوماً على "قوة الردع" التي تسيطر على قاعدة "معيتيقة" الجوية، خاصة في ظلّ رفض هذه القوة الترتيبات الجديدة التي قامت بها الحكومة، بشأن جهاز الشرطة القضائية، وكذلك نشوء حالة توتر بين الرئيس الجديد لجهاز دعم الاستقرار ـــــ المعيّن من جانب المجلس الرئاسي ـــــ مع هذه الحكومة، بشأن الانتشار في كامل المقارّ السابقة للجهاز في العاصمة، وهي جميعها مؤشّرات على هشاشة التوازنات العسكرية القائمة حالياً في العاصمة طرابلس، وقابليّتها للانهيار.
من ناحية أخرى، تتقاطع القرارات الأمنية لكلّ من المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة، مع المشهد الأمني العامّ في طرابلس، والذي ينذر بقرب تجدّد مواجهة جديدة بين حكومة الدبيبة وقوة الردع. المؤشّر الأكبر على قرب هذا التصعيد، تشكيل حكومة الدبيبة غرفة عمليات عسكرية، في منطقة "الجنات" بمدينة مصراتة، داخل مقرّ سابق لإحدى الكتائب. من المنظور نفسه يمكن النظر إلى قرار المجلس الرئاسي، بتسمية حسن بوزريبة، قائداً لجهاز دعم الاستقرار، حيث يعتبر هذا القرار بمثابة إجهاض لقرار حكومة الدبيبة بحلّ هذا الجهاز، ويفهم من هذا التوجّه، رغبة المجلس الرئاسي في احتواء عناصر هذا الجهاز، الذي ما زال متماسكاً كقوة عسكرية، وتفادي انضمام عناصره إلى قوة الردع في حالة حدوث أيّ اشتباك، وهو ما ينسجم مع رغبة المجلس الرئاسي في تأكيد وجوده في المعادلة الحالية في طرابلس، والتي من خلالها أعلن مؤخّراً تشكيل قوة مشتركة تحت اسم "قوة الإسناد" لتأمين طرابلس.
ملف شرق المتوسط يعود إلى الواجهة الليبية
بشكل مفاجئ، تسارع التوتر بشكل كبير مرة أخرى بشأن ملف الصراع على التنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط، على محورين أساسيين، يرتبط كلاهما ـــــ للمفارقة ـــــ مع التفاعلات الداخلية في ليبيا، المحور الأول يرتبط بأحد أهمّ نتائج التقارب الذي تمّ مؤخّراً بين أنقرة والمكوّنات السياسية والعسكرية في شرق ليبيا، ألا وهو بدء مجلس النواب الليبي، مناقشة اتفاقية ترسيم الصلاحيات البحرية، التي تمّ توقيعها أواخر عام 2019، بين حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة فائز السراج وتركيا، وهي اتفاقية كانت إلى وقت قريب، مثار رفض كامل من جانب مكوّنات الشرق الليبي، خاصة في ظلّ توقيعها بذروة المواجهة والتنافر بين هذه المكوّنات وتركيا.
هذا التطوّر الهامّ، يتوازى مع محور ثانٍ يتعلّق بإعلان اليونان ــــــ كردّ فعل على الاحتمالية الكبيرة لإقرار هذه الاتفاقية من جانب البرلمان الليبي ـــــ فتح دعوة دولية لتقديم العطاءات، بهدف منح تصاريح استكشاف واستغلال الهيدروكربونات في مناطق بحرية جنوبي جزيرة كريت، تقع اثنتان منها على الأقل، ضمن مناطق بحرية متنازع عليها مع الدولة الليبية، وهو ما أثار ردود فعل ليبية غاضبة، وهي ردود فعل كانت للمرة الأولى متطابقة بين مكوّنات شرق وغرب ليبيا، التي رفضت بشكل قاطع التوجّهات اليونانية التي تتجاهل بحسب رأيها، حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لليبيا.
لم يقتصر ردّ الفعل الليبي على التصريحات، بل أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط، عن اتفاقها مع شركة النفط التركية، على إجراء دراسات جيولوجية وجيوفيزيائية في أربع مناطق بحرية ليبية، ويتضمّن هذا الاتفاق التزاماً بمسح زلزالي ثنائي الأبعاد لمسافة 10,000 كيلومتر في المناطق الأربع، بما في ذلك المنطقة "4"، جنوب جزيرة كريت، والتي وإن كانت لا تبدو أنها متداخلة مع المناطق اليونانية، إلّا أنّ الخريطة التي نشرتها المؤسسة الوطنية للنفط، تعتمد على المناطق البحرية التي تمّ ترسيمها طبقاً لاتفاقية الترسيم الحدودية بين تركيا وليبيا لعام 2019، والتي تتداخل بشكل واضح مع الحدود البحرية اليونانية في مناطق جنوب جزيرة كريت.
جاء الردّ اليوناني على هذه الخطوة، عبر إعلان اليونان نشر ثلاث سفن حربية في شرق البحر المتوسط، في منطقة تقع بين السواحل الليبية والتركية، وذلك في خطوة قالت إنها تهدف إلى الحدّ من تدفّق المهاجرين غير الشرعيّين القادمين من ليبيا، وترافق ذلك مع تحرّكات سياسية على الصعيد الأوروبي، إذ تطرّق البيان الختامي لقمّة الاتحاد الأوروبي المنعقدة في بروكسل الشهر الماضي، إلى مذكّرة التفاهم الموقّعة بين تركيا وليبيا بشأن المناطق البحرية عام 2019، ووصف البيان المذكّرة بأنها "تنتهك الحقوق السيادية لدول ثالثة"، مؤكداً أنها لا تتماشى مع القانون الدولي للبحار، ولا يمكن أن تترتّب عليها أيّ آثار قانونية للدول غير الموقّعة عليها، وهو ما حفّز أنقرة على إصدار بيان حادّ يفيد بأنّ مذكّرة التفاهم بشأن ترسيم حدود مناطق الاختصاص البحري في البحر الأبيض المتوسط بين تركيا وليبيا، هي اتفاقية متوافقة تماماً مع القانون الدولي.
في الخلاصة، يمكن القول إنّ اجتماع برلين الأخير، يستهدف تقديم الدعم لمسار اللجنة الاستشارية ولجهود البعثة الأممية، الذي يتبع نهجاً يركّز على تشكيل حكومة جديدة موحّدة، وشكّل خطوة إيجابية من حيث التوافق بين الحاضرين على مخرجات اللجنة الاستشارية، لكن من التحدّيات الأساسية في هذه المرحلة، والتي تشوب النهج الحالي للبعثة الأممية، تجاهلها مسار توحيد الحكومة الذي بدأه منذ فترة المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، وكذا تركيزها على الشقّ السياسي، من دون معالجة الملف الأمني، وهو ما سيُعطّل أيّ تقدّم حقيقي في العملية السياسية، حيث تجاهلت البعثة الوضع الأمني القائم حالياً في طرابلس.
قد يحدث اختراق مهم في أسلوب عمل البعثة الأممية، في حالة إعادة طرح "لجنة الستين" السابقة، كإطار جامع يمثّل الطيف الليبي بشكل متوازن، يتولّى إعادة النظر في القواعد الدستورية والتحضير للانتخابات، وهو ما يمكن أن يشكّل قاعدة لتلاقي مجلس النواب والأعلى للدولة مع البعثة الأممية، بشأن توحيد الحكومة.
بشكل عامّ يتسق هذا الأسلوب، مع نهج جديد تتبنّاه البعثة الأممية، قائم على تمكين لجنة استشارية محلية من رسم الملامح العامّة للحلّ، بدلاً من فرض خارطة طريق أممية كما جرت العادة، وهو ما يفسّر، جزئياً، الإحجام عن فرض قرارات قوية قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد أو التشكيك في حيادية الوساطة الدولية، وهو ما يمكن ملاحظته أيضاً من خلال اختيار الأطراف الدوليين الذين حضروا في مؤتمر برلين الأخير، التذكير بـ "المساءلة والمحاسبة" للأطراف الليبيين المعرقلين للحلّ، في سياق تحذيري، بدلاً من الخوض في تفاصيل الإجراءات التنفيذية.
وهذا ما يعكس تراجعاً في الحزم مقارنة بفترات سابقة كانت فيها الأمم المتحدة أكثر وضوحاً في تحديد خريطة الطريق، وهو أمر يمكن أن تكون له تبعات غير محمودة، في ظلّ تزايد احتمالات لجوء حكومة الوحدة الوطنية، لتنفيذ عملية شاملة داخل العاصمة، من أجل فرض كامل هيمنتها على الأجسام المسلحة الرئيسية داخلها، ومن ثم إعادة تعويم نفسها كطرف سياسي فعلي، في ظلّ التوجّهات الإقليمية والدولية الحالية، الدافعة نحو تشكيل حكومة جديدة.