البحرية الأميركية ومرحلة جديدة من "تكثيف وتركيز" التسليح

البنتاعون بات يرى أن مستقبل القوة البحرية، لن يتحقق فقط من خلال القطع البحرية الأكبر حجماً، ولكن أيضاً من خلال أسراب من الأنظمة الذكية غير المأهولة، سواء كانت غاطسة أم سطحية أم حتى جوية.

  • خطة قياسية طموحة لتحديث البحرية الأميركية.
    خطة قياسية طموحة لتحديث البحرية الأميركية.

أظهرت التطورات التي شهدها مسرح العمليات في الشرق الأوسط منذ بدء فعاليات عملية "طوفان الأقصى" وحتى الآن، مدى أهمية السلاح البحري - بالنسبة للقوى الدولية الكبرى - كأداة أساسية لتحقيق معادلة ذات حدين، يرتبط الحد الأول بامتلاك قدرة "الردع القريب" ضد أي تهديدات طارئة لمصالح هذه الدول في المنطقة، في حين يرتبط الحد الثاني بإدامة القدرة على تنفيذ عمليات عسكرية "خاطفة"، سواء كانت تلك العمليات برمائية أم بحرية أم حتى جوية - عبر حاملات الطائرات - وهو ما ظهر بشكل أو بآخر طيلة الفترة الماضية، من خلال الدور المحوري لحاملات الطائرات الأميركية، التي جرى الدفع في بعض الأحيان بثلاث منها في وقت واحد إلى منطقة الشرق الأوسط، بجانب التمركز "شبه الدائم" لحاملة واحدة على الأقل ومجموعتها الضاربة، في نطاق الخليج العربي.

في هذا الإطار، يمكن أن نضع البند الخاص بالقوة البحرية، في مسودة ميزانية الدفاع الوطني الأميركية، التي تم نشرها أواخر حزيران/يونيو الماضي، والتي تضمنت خطة هي "الأكبر من نوعها" منذ نهاية الحرب الباردة، لتحديث الأسطول البحري الأميركي، بقيمة تبلغ 47.3 تريليون دولار. الإطار العام لهذه الخطة، يركز على تخصيص هذا المبلغ، لبناء وشراء 19 قطعة بحرية جديدة، وهو ما يعتبر زيادة قياسية في حجم المشتريات، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن ميزانية الدفاع الوطني الأميركية السابقة، تضمنت بناء وشراء خمس قطع بحرية فقط، وبالتالي يمكن اعتبار هذا التوجه، إعلاناً أميركياً واضحاً عن توجه استراتيجي نحو تطوير قوة بحرية أكثر كفاءة وقوة.

خطة قياسية طموحة لتحديث البحرية الأميركية

عند التدقيق في تفاصيل هذه الخطة، نجد أنها تتضمن عملية "توسيع" واضحة، لإمكانيات الردع في ما وراء البحار، حيث تتضمن بناء ثلاث غواصات للصواريخ البالستية، واحدة من الفئة "كولومبيا" واثنتان من الفئة "فرجينيا"، إضافة إلى مدمرتين للصواريخ الموجهة من الفئة "آرلي بيرك"، وسفينة إنزال برمائي من الفئة "سان أنطونيو"، وسفينة هجوم برمائي من الفئة "أميركا"، وتسعة زوارق إنزال برمائي متوسطة، وسفينة استخبارات إلكترونية من الفئة "تي-أجوس"، وسفينتَي تزود بالوقود من الفئة "جون لويس".

يُضاف إلى ما سبق، تضمين هذه الخطة بنوداً أخرى، يبدو من ملامحها أنها رد على المقاربة البحرية الحالية للجيش الصيني، حيث تهدف الخطة الجديدة إلى التركيز على الاستقرار القتالي ومنح القطع البحرية الأميركية قدرات متعددة المهام، مع إعطاء أولوية لتطوير التقنيات المضادة للغواصات، وقدرات العمليات البرمائية، والتكتيكات الخاصة بالعمليات اللوجستية والاستطلاعية. في الوقت الحالي، تدير البحرية الأميركية قوة قتالية قوامها 296 سفينة، بما في ذلك 11 حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية، و14 غواصة صواريخ بالستية، و74 مدمرة للصواريخ الموجهة، وقد تضمنت الخطة الأميركية الجديدة للتحديث البحري، تخفيض هذا الرقم إلى إجمالي 287 قطعة بحرية، مع رفع كفاءة وقدرات هذه القطع، بشكل يوفر هامشاً من الجاهزية والقدرة القتالية والنارية، تسمح بتحقيق هامش من "التكافؤ"، يكافئ التفوق العددي الذي تتسم به البحرية الصينية، وهنا يمكن القول إن الاستراتيجية الأساسية للتحديث البحري الأميركي، ترتكز على استبدال السفن القديمة، بمنصات متطورة أكثر ملاءمة لسيناريوهات الصراعات المعقدة، ولا سيما في مسرح عمليات المحيط الهادئ.

من المنظور العام، لا تقتصر أهمية ميزانية الدفاع الوطني الأميركية الجديدة - البالغة نحو 1.01 بليون دولار - على قيمتها المادية، بل تمتد أيضًا إلى توجهها الاستراتيجي، فمن ناحية، تمثل هذه الميزانية زيادة بنسبة 13.4 في المئة عن قيمة الموازنة الدفاعية الأميركية الحالية، ومن ناحية أخرى، يمكن القول إن هذه الميزانية الجديدة، قد جرى تصميمها لدعم أربعة أهداف رئيسية، هي تعزيز منظومة الدفاع الوطني الأميركية، وتوفير ردع مناسب للتحركات الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإنعاش القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، وضمان التدفقات المالية اللازمة.

على المستوى الاستراتيجي، يبدو من ملامح هذه الخطة الجديدة، أن القوة البحرية لا تزال تمثل ركناً أساسياً في الاستراتيجية العسكرية الأميركية، وربما أصبح لها زخم أكبر في هذا الإطار، بالنظر إلى التوجهات الأميركية الحالية لزيادة انخراطها المباشر في حماية المنافذ البحرية، مثل مضيق هرمز ومضيق باب المندب، ويُعدّ إدراج المنصات البرمائية واللوجستية في خطة المشتريات لعام 2026 استجابةً مباشرة لهذه المتطلبات التشغيلية، ما يضمن قدرة البحرية الأميركية على زيادة مستوى استجابتها للأزمات الإقليمية.

يُضاف إلى ما سبق، ظهور مؤشرات عدة، على وجود توجهات أميركية رئيسية لاحتواء تنامي الإمكانيات البحرية للجيش الصيني، من زاويتين أساسيتين، الأولى هي الحفاظ على الاستقرار في المناطق البحرية الرئيسية، في مواجهة المنافسة المتزايدة مع القوى البحرية المماثلة، وعلى رأسها الصين، خاصة في نطاق بحر الصين الجنوبي والمواقع المحيطة به، أما الزاوية الثانية، فهي موازنة التطور الكمي الذي شهدته القوة البحرية الصينية خلال السنوات الأخيرة، حيث تشير أحدث التقديرات إلى أن البحرية الصينية باتت تمتلك نحو 730 سفينة قتالية متنوعة، وهو ما يوفر لبكين مرونة عالية في التحرك والتمركز الدائم بعدة مناطق بحرية استراتيجية حول العالم.

قطع استراتيجية تنضم قريباً إلى البحرية الأميركية 

بالتزامن مع إعلان هذه الخطة الجديدة، أدخلت البحرية الأميركية عدة قطع نوعية جديدة إلى الخدمة، خاصة فيما يتعلق بسلاح الغواصات، الذي من الواضح أنه بات يحظى بأهمية متزايدة في المنظومة الدفاعية الأميركية. فقد دخلت في نيسان/أبريل الماضي، غواصة الهجوم السريع العاملة بالطاقة النووية من الفئة "فرجينيا"، "يو إس إس آيوا"، إلى الخدمة بشكل رسمي، بعد عمليات بناء وتشييد بدأت منتصف عام 2019، كما أطلقت البحرية الأميركية الشهر الجاري، عمليات بناء غواصة أخرى من الفئة نفسها، وهي "يو إس إس أركنساس"، والتي تعتبر الغواصة السابعة والعشرين من هذه الفئة، ومن المقرر أن تدخل الخدمة في عام 2026.

هذه التطورات، مضافاً إليها إبرام عقد في أيار/مايو الماضي، بقيمة 987 مليون دولار، لبناء غواصتين من الفئة نفسها سالفة الذكر - لكن تنتميان إلى الجيل الأحدث منها "بلوك-5" - وهو جيل يمتلك القدرة على حمل ما يصل إلى 65 صاروخاً جوالاً من نوع "توماهوك"، بزيادة قدرها 76 في المئة تقريبًا عن قدرة الأجيال السابقة من هذه الفئة، تؤكد جميعها أن واشنطن تعمل بشكل حثيث على تفادي اتساع الفجوة التشغيلية في أسطول غواصاتها الهجومية، في ظل قرب إحالة عدد من غواصات الفئة "لوس أنجلس" إلى التقاعد، وكذلك نشوء معوقات تتعلق بتباطؤ عمليات تدشين وتصنيع القطع البحرية الجديدة، دفعت إلى إبرام هذا العقد المنفصل، الذي تعتبر الحاجة لإبرامه في حد ذاتها، دليلاً على وجود نقاط ضعف كامنة في قطاع بناء السفن الأميركي، بما في ذلك العدد المحدود من العمالة الماهرة، ونقص الموردين، وعدم مواكبة البنية التحتية للمتطلبات الاستراتيجية.

من القطع البحرية المهمة التي دخلت إلى الخدمة في البحرية الأميركية مؤخراً، والتي تضمنت الخطة الأميركية الجديدة بناء المزيد منها، مدمرة الصواريخ الموجهة "يو إس إس جيريمياه دينتون"، من الفئة "أرلي بيرك"، التي دخلت الخدمة بشكل رسمي أواخر الشهر الماضي، وتتميز بامتلاكها راداراً قتالياً متقدماً من نوع "AN/SPY-6"، ومنظومة "أيجيس-10" القتالية، وهي المدمرة السادسة والثلاثين من هذه الفئة، التي يجري تسليمها أو ما زالت قيد الإنشاء. كذلك دخلت مؤخراً إلى الخدمة، سفينة النقل السريع الاستكشافية "بوينت لوما" من الفئة "سبيرهيد"، وهي ثانية سفن النقل السريع الاستكشافي التي يجري بناؤها من هذه الفئة، وهي فئة من السفن عالية السرعة ذات الغاطس الضحل، تم تصميمها لدعم عمليات النقل السريع داخل مسارح العمليات، عبر بدن مزود بحجرات تخزين كبيرة، وقدرة على دعم العمليات الجوية، وآليات متقدمة للتحميل والتفريغ، ما يُمكّنها من الانتشار بسرعة في الموانئ والسواحل ذات البنية التحتية المحدودة. وعلى الرغم من تصنيف هذه الفئة من القطع البحرية، تحت بند "الدعم المساعد"، إلا انها تتسم أيضاً بالقدرة على أداء مهام الانتشار والاستطلاع، بحيث تكون بمنزلة منصات لوجستية متقدمة، ولا سيما أنها تحمل على متنها إمكانيات يمكن تحويرها لتشمل الجوانب الطبية الميدانية.

ولعل من الجوانب الأكثر أهمية في التوجهات البحرية الحالية للجيش الأميركي، الإعلان أواخر الشهر الماضي - ضمن مسودة الموازنة الدفاعية للعام المالي المقبل - عن تخصيص موازنة قدرها 5.3 مليارات دولار، لإنتاج وتطوير الأنظمة البحرية المسيرة، من إجمالي 13.4 مليار دولار جرى تخصيصها للأنظمة المسيرة ذاتية التحكم وذاتية التشغيل، وهو ما يمثل إشارة واضحة إلى تحول مهم في أولويات الدفاع الأميركية، تُعزّز من خلاله الاستثمارات في الأنظمة المسيرة بشكل عام، وبشكل خاص الأنظمة البحرية، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن المخصصات السابقة للأنظمة البحرية المسيرة، لم تتجاوز 2.2 مليار دولار، وبالتالي المخصصات الجديدة تعتبر زيادة كبيرة في مجال دعم الأنظمة البحرية غير المأهولة، بدءًا من شراء ثلاث طائرات من دون طيار من نوع "MQ-25"، للتزود بالوقود من على متن حاملات الطائرات، وصولًا إلى مشاريع جديدة في مجال السفن السطحية المسيرة متوسطة الحجم.

اللافت في هذا الإطار، أن البحرية الأميركية تعمل منذ عدة سنوات، على إدخال جانب مهم من جوانب المهام البحرية، ضمن إطار عمل أنظمتها البحرية المسيرة، ألا وهو جانب "النقل والتموين"، ففي عام 2022، اختبرت البحرية الأميركية سفينة "سي سبيكتر" المسيرة، كجزء من برنامج السفن ذاتية القيادة منخفضة الارتفاع، والتي أثبتت التجارب أنها قادرة على نقل ما يصل إلى خمسة أطنان من الحمولات العسكرية، لمسافة 2300 ميل بحري، ما يُتيح تحميلها بالذخيرة أو الطعام أو الوقود أو الماء أو أي حمولات أخرى. 

وفي تفاصيل المخصصات المالية الأميركية المقترحة في هذا الصدد، جرى تخصيص 1.7 مليار دولار للسفن السطحية المسيرة، و734 مليون دولار للمركبات البحرية المسيرة الغاطسة، إلى جانب تخصيص 1.2 مليار دولار لبرامج استقلالية مشتركة لربط جميع أنواع الوسائط البحرية المسيرة، في منظومة قيادة وسيطرة موحدة متعددة المهام، علماً أن هذا الجانب يُضاف إلى تخصيص مبلغ 3.1 مليارات دولار، لمصلحة تطوير أنظمة مكافحة الطائرات من دون طيار على متن القطع البحرية المختلفة.

في الخلاصة، يمكن القول إن التغيير الجذري في شكل الاستثمار البحري الأميركي على المستوى العسكري، لا يعتبر فقط تعديلاً في الميزانية أو الأولويات المالية، بل يمكن اعتباره أيضاً إشارة إلى أن البنتاعون بات يرى أن مستقبل القوة البحرية، لن يتحقق فقط من خلال القطع البحرية الأكبر حجماً، ولكن أيضاً من خلال أسراب من الأنظمة الذكية غير المأهولة، سواء كانت غاطسة أم سطحية أم حتى جوية.