خلفيات ومآلات سعي أنقرة لرفع مستوى قوتها البحرية
التمركزات العسكرية التركية في الخارج، تتضمن نقاطاً بحرية أساسية تستغلها البحرية التركية. ففي ألبانيا، يتمركز في قاعدة "باشا ليمان" البحرية، مفرزة مكوّنة من 24 جندياً، وتمتلك تركيا تسهيلات أكبر لاستخدام هذه القاعدة المطلة على البحر المتوسط.
في ظل مشهد إقليمي مضطرب، أعلنت قيادة البحرية التركية مطلع الشهر الجاري، انطلاق عمليات ثلاثة مشاريع بحرية رئيسية، تعدّ الأهم في تاريخ الصناعات العسكرية التركية، إذ بدأت بذلك عمليات قطع الفولاذ الخاص ببدن كل من، أول حاملة طائرات تركية محلية الصنع من الفئة "Mugem"، أول غواصة محلية الصنع من الفئة "Milden"، وأول مدمرة محلية الصنع من الفئة "TF-2000" متخصصة في عمليات الدفاع الجوي.
رغم أهمية هذه الخطوة بالنسبة إلى القوة العسكرية التركية، فإنه يجب عدم النظر إليها فقط من منظور ارتباطها بالتطورات التي طرأت على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، بل يجب النظر إليها أيضاً في سياق متصل بالمسار الذي اتخذته الصناعات العسكرية التركية منذ سنوات، والذي استهدف تحجيم نقاط الضعف التي تعاني منها البحرية التركية، بهدف تحويل القوة البحرية التركية إلى أسطول "مياه زرقاء"، يمتلك القدرة على تنفيذ عمليات قتالية ودفاعية مختلفة في المياه الدولية، بعيداً من القواعد الأساسية للبحرية التركية.
القوة البحرية التركية في الميزان
تصنف القوة البحرية التركية حسب موقع "GLOBAL FIRE POWER"، في المرتبة العشرين عالمياً، وتنتشر البحرية التركية في 8 قواعد بحرية رئيسية، وتتكوّن من 4 قيادات أساسية، هي قيادة الأسطول، قيادة منطقة البحر الشمالي، قيادة منطقة البحر الجنوبي، وقيادة التدريب والتعليم البحري، ويعمل في هذه القواعد نحو 50,000 فرد، وتتبعها قوة من مشاة البحرية وحرس السواحل، ونحو 145 قطعة بحرية رئيسية، بجانب 50 طائرة متنوّعة.
على المستوى القتالي، تمتلك القوة البحرية التركية سبع عشرة فرقاطة، منها ثماني فرقاطات من الفئة "جابيا"، بجانب أربع فرقاطات من الفئة "بارباروس"، وأربع فرقاطات من الفئة "يافوز"، وفرقاطة واحدة من الفئة "إسطنبول"، تعدّ الأحدث في الترسانة التركية، إذ دخلت الخدمة منتصف عام 2023، كأول فرقاطة محلية الصنع في البحرية التركية.
فرقاطات الفئة "جابيا" تعدّ الأثقل في ترسانة البحرية التركية، كون إزاحتها الكلية تبلغ نحو أربعة آلاف طن، وهي فئة من الفرقاطات المتخصصة في مهمات الدفاع الجوي، نتجت من تحديث مكثف لفرقاطات أميركية الصنع من الفئة "أوليفر هازارد بيري"، التي تسلمتها البحرية التركية في الفترة ما بين عامي 1997 و2002، بعد أن كانت تخدم سابقاً في البحرية الأميركية.
هذا النوع من الفرقاطات خضع لتحديثات شاملة خلال السنوات الأخيرة، تضمنت تزويدها ببرنامج تركي رقمي حديث لإدارة النيران من تطوير شركة "هافيلسان" التركية، وكذا منظومة سونار جديدة، ورادار بحث جوي جديد، وترقية نظام التحكم في الحرائق، وتعديل منصة هبوط المروحيات، لتسمح بهبوط المروحيات البحرية الكبيرة، وترقية التسليح المضاد للطائرات على متنها، عبر تزويدها بخلايا إطلاق عمودية. وتداركاً لضرورة خروج بعض هذه الفرقاطات من الخدمة خلال المدى المنظور، بجانب فرقاطات الفئة "يافوز"، التي دخلت الخدمة أواخر ثمانينات القرن الماضي، أطلقت تركيا برنامج "MILGEM" للتصنيع المحلي لسلسلة من الفرقاطات والكورفيتات والمدمرات.
يتضمن هذا البرنامج على مستوى الفرقاطات، تصنيع ثماني فرقاطات للدفاع الجوي من الفئة "إسطنبول"، تم إدخال إحداها إلى الخدمة فعلياً كما سبق ذكره. يضاف إلى فرقاطات الفئة "إسطنبول"، إطلاق البحرية التركية عمليات تصنيع ثماني مدمرات من الفئة "TF-2000"، بهدف إدخالها إلى الخدمة بداية عام 2027.
تم تصميم هذه الفئة من المدمرات لتصبح متعددة المهمات، بحيث تستطيع تنفيذ مهمات القيادة والسيطرة، والاتصالات والاستطلاع، والعمليات الهجومية السطحية والمضادة للغواصات، ومهمات الحرب الإلكترونية، لكن يركز تسليحها بشكل كبير على مهمات الدفاع الجوي، وتبلغ الإزاحة الكلية لمدمرات هذه الفئة نحو8300 طن، ويتوقع أن يتم تجهيزها بتسليح ثقيل مضاد للطائرات، يتكوّن من 96 خلية إطلاق عمودي، قادرة على إطلاق مجموعة متنوّعة من الصواريخ المضادة للطائرات، بجانب تسليح إضافي مضاد للسفن، يتألف من صواريخ بحرية محلية الصنع من نوع "أطمجة"، وصواريخ جوالة من نوع "جزجن"، وطوربيدات.
قسم مهم من أقسام التسليح البحري التركي، يتمثل في "الكورفيتات"، إذ تمتلك أنقرة ما مجموعه عشرة كورفيتات، من بينها ستة كورفيتات من الفئة "بوراك"، كانت تخدم سابقاً في البحرية الفرنسية، ودخلت الخدمة في البحرية التركية أواخر تسعينيات القرن الماضي، بجانب أربعة كورفيتات محلية الصنع من الفئة "ADA"، وهي من أهم منتجات مشروع "MILGEM"، وأدخلت إلى الخدمة في الفترة ما بين عامي 2011 و2019. تبلغ إزاحة كورفيتات هذه الفئة 2400 طن، وهي مخصصة لمهمات الدفاع الجوي، وعمليات مكافحة الغواصات.
من الخصائص المهمة لهذه الفئة، امتلاكها قدرات أكبر على تشغيل المروحيات البحرية، فبالإضافة إلى وجود منصة خلفية لهبوط المروحيات والطائرات المسيرة، تمتلك هذه الكورفيتات القدرة على تخزين ما يصل إلى 20 طناً من وقود المروحيات، مع إمكانية تزويد المروحيات بالوقود أثناء الإبحار، وكذا إمكانية تنفيذ عمليات صيانة ميدانية في الحالات الطارئة. تجدر الإشارة إلى أن تركيا نجحت في تسويق هذا النوع من الكورفيتات خارجياً، حيث قامت في تموز/يوليو 2018، بتوقيع عقد لتوريد أربعة كورفيتات من هذه الفئة إلى باكستان، كما قامت ببناء كورفيتين اثنين من الفئة نفسها، لصالح البحرية الأوكرانية.
أما على مستوى الغواصات، فتمتلك البحرية التركية ما مجموعه ثلاث عشرة غواصة، القسم الأكبر منها ألماني المنشأ. بدء تكوين هذا الأسطول من أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حيث تم توقيع الصفقة الأولى بين الجانبين لتوريد أربع غواصات من الفئة "تايب-290/1200" أواخر عام 1974، تسلمتها تركيا خلال ثمانينيات القرن الماضي بعد تجميعها على أراضيها تحت اسم "أتيلاي"، تبعتها صفقة أخرى لشراء غواصتين من الفئة "تايب-209/1400" عام 1987 بقيمة تصل إلى 420 مليون دولار، وقد دخلتا الخدمة في سلاح البحرية التركية خلال عامي 1994 و1995 بعد تجميعهما محلياً تحت الاسم "بريفيز"، وانضمت إليهما غواصتان من النوع نفسه عامي 1998 و1999. آخر صفقة في هذه السلسلة تم توقيعها عام 1998 بقيمة 556 مليون دولار، لشراء أربع غواصات من الفئة الأحدث "تايب-209/1400 تي" تم تجميعها محلياً تحت الاسم "جور"، وتسلمتها البحرية التركية خلال الفترة ما بين عامي 2005 و2007.
يضاف إلى هذه الغواصات، أحدث غواصة دخلت إلى الخدمة في البحرية التركية العام الماضي، وهي أول غواصة من الفئة "Reis"، من أصل خمس غواصات محلية الصنع من هذه الفئة، يتم بناؤها حالياً في الترسانات البحرية التركية، بترخيص من ألمانيا. تتسلح غواصات هذه الفئة التي تبلغ إزاحتها الكلية 1850 طناً، بنحو 14 طوربيداً مضاداً للسفن، وصواريخ "هاربون" الجوالة. هذا الأسطول من الغواصات، سيشهد في المدى المنظور نقلة نوعية، بعد بدء عمليات بناء أول غواصة محلية الصنع من الفئة "Milden" مطلع الشهر الجاري.
لا تتوفر معلومات كافية حول مواصفات هذه الفئة الجديدة من الغواصات، لكن يتوقع أن تعمل بالديزل والكهرباء، بإزاحة كلية تبلغ 2700 طن، وستكون مزوّدة بتقنية "الدفع الهوائي المستقل"، التي تمكّن الغواصة من البقاء تحت الماء لمدة أطول مقارنة بالفئات الحالية من الغواصات الحديثة. من المتوقع أن تتسلح هذه الفئة من الغواصات، بتسليح مصنع بالكامل محلياً، بما في ذلك طوربيدات "أكيا" الثقيلة، وصواريخ "أطمجة" المضادة للسفن، وصواريخ "جزجن" الجوالة.
على مستوى السفن المساندة، تمتلك البحرية التركية حالياً 19 زورقاً هجومياً سريعاً، موزّعة على أربع فئات رئيسية، بالإضافة إلى ستة عشر زورقاً للدورية، جميعها من الفئة "توزلا"، وتبلغ إزاحتها الكلية 400 طن، ودخلت جميعها إلى الخدمة في الفترة ما بين عامي 2011 و2015، بعد أن تم تصنيعها محلياً، بنسبة 67 في المئة، وتعدّ المشروع الأول للتصنيع المحلي في البحرية التركية.
كذلك يضم الأسطول التركي 33 سفينة إنزال برمائي، وإحدى عشرة كاسحة ألغام، وأربع سفن للتزود بالوقود، اثنتان منها محليتا الصنع.
دخول البحرية التركية عصر "حاملات الطائرات"
خلال المرحلة الماضية، كانت البحرية التركية تفتقر إلى عنصرين أساسيين من عناصر التحوّل إلى "بحرية المياه الزرقاء"، الأول هو حاملات الطائرات، والثاني هو سفن الهجوم البرمائي الحاملة للطائرات. بالنسبة إلى هذه الفئة الأخيرة، بدأت أنقرة في نيسان/أبريل 2016، في بناء أول سفينة للهجوم البرمائي من الفئة "الأناضول"، وذلك في ترسانة شركة "سيداف" التركية، وقد دخلت هذه السفينة إلى الخدمة في سلاح البحرية التركية عام 2023، وتعتزم البحرية التركية البدء في بناء سفينة أخرى من الفئة نفسها خلال المدى المنظور.
تكمن أهمية هذه الفئة من السفن، أنها وفّرت للبحرية التركية القدرة على تنفيذ عمليات برمائية بعيدة المدى، نظراً إلى تمتعها بست نقاط لهبوط المروحيات، وإمكانية نقلها إلى ما يتراوح بين 19 و30 مروحية، بجانب طاقم وقوات يتألف تعدادهم الإجمالي من 1223 فرداً، بجانب قدرتها على حمل ما يصل إلى 94 آلية مدرعة، وتزودها بأربع سفن إنزال صغيرة، قادرة على الانطلاق من داخل السفينة الأم نحو الشاطئ المستهدف.
جدير بالذكر هنا، أنه تمت أواخر العام الماضي، تجربة هامة لإقلاع وهبوط طائرة هجومية مسيرة من نوع "بيرقدار"، من على متن هذه السفينة، وهو ما تم اعتباره بمنزلة خطوة تاريخية تدشن تشغيل هذه الفئة من الطائرات المسيرة من على متن سفن الهجوم البرمائي، علماً أن النسخة التي تم اختبارها "بيرقدار تي بي3"، تم تصميمها خصيصاً للعمل من على متن حاملات الطائرات، وأظهرت خلال هذا الاختبار، قدرتها على الإقلاع بحمولة كاملة، والهبوط بشكل مستقل، من دون الحاجة إلى تجهيزات فنية إضافية كتلك التي تكون مزوّدة بها حاملات الطائرات.
تدشين سفينة الهجوم البرمائي التركية الأولى، جعل البحرية التركية عملياً لا تفتقر سوى إلى حاملة طائرات متكاملة، وهو ما تم التنويه به عملياً على لسان الرئيس التركي، في تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين أعلن عن وجود خطة لبناء حاملة طائرات محلية الصنع، بالتعاون مع إسبانيا، وهو ما تم تفعيله مطلع الشهر الجاري، عبر بدء عمليات البناء الرسمية لحاملة الطائرات الأولى من الفئة "Mugem"، بهدف إدخالها إلى الخدمة الفعلية بحلول عام 2032. تبلغ الإزاحة الكلية المتوقعة لهذه الفئة من الحاملات، نحو 60 ألف طن، وسيتم تشغيلها بأربعة محركات توربينية، توفر لها مدى أقصى يبلغ 19 ألف كيلو متر، ويتوقع أن تتسلح بـ 32 خلية إطلاق عمودي للصواريخ الجوالة وصواريخ الدفاع الجوي، وأربع منصات للدفاع ضد الصواريخ المقتربة.
كما يتوقع أيضاً أن تستطيع هذه الفئة من الحاملات المزودة بثلاثة مدرجات للإقلاع والهبوط، استيعاب ما يصل إلى 50 مقاتلة وطائرة، بما في ذلك مقاتلات الجيل الخامس محلية الصنع "قآن"، والطائرات الهجومية المسيرة "بيرقدار" و"قزل ألما" و"أنكا-3"، بالإضافة إلى طائرات التدريب المتقدم محلية الصنع "حرجيت"، علماً أن نظام الإقلاع والهبوط الذي ستتزوّد به هذه الفئة من الحاملات في البداية، هو نظام الإطلاق البخاري التزلجي "STOBAR"، على أن تتم لاحقاً ترقية هذا النظام محلياً إلى نظام المنجنيق الكهرومغناطيسي المتقدم "CATOBAR"، الذي يوفر لحاملات الطائرات، القدرة على إطلاق مجموعة واسعة من أنواع الطائرات المأهولة والمسيّرة، بما في ذلك طائرات الإنذار المبكر.
بدخول المشاريع البحرية الثلاثة سالفة الذكر - "Mugem" و"Milden" و"TF-2000" - إلى مرحلة عمليات التصنيع الفعلي، تكون البحرية التركية عملياً قد دخلت إلى مرحلة جديدة كلياً على مستوى التسليح البحري، انتقلت بموجبها من التركيز على امتلاك قدرات الدفاع الساحلي، إلى الاقتراب الشديد - بجهود تصنيع محلية بشكل شبه كامل - من امتلاك القدرات البحرية المطلوبة كافة، لتنفيذ عمليات هجومية في أعالي البحار والمياه العميقة، وبالاقتران مع برامج التحديث الأخرى، فإن هذه المشاريع الثلاثة الجديدة، سوف تمنح البحرية التركية القدرة على تشكيل "مجموعات هجومية لحاملات الطائرات"، مشابهة للمجموعات الهجومية التي ترافق حاملات الطائرات الأميركية، وهو ما ينقل الانخراط البحري التركي الخارجي إلى مستويات أكبر، في ظل طموح أنقرة على المستوى الإقليمي، سواء ما يرتبط بالنفوذ الجيوسياسي، أو ملف الطاقة في شرق المتوسط.
ما سبق يضاف إلى حقيقة أن التمركزات العسكرية التركية في الخارج، تتضمن نقاطاً بحرية أساسية تستغلها البحرية التركية. ففي ألبانيا، يتمركز في قاعدة "باشا ليمان" البحرية، مفرزة مكوّنة من 24 جندياً، وفرقاطتين من البحرية التركية، وتمتلك تركيا تسهيلات أكبر لاستخدام هذه القاعدة المطلة على البحر المتوسط، تسمح لها باستخدامها في عمليات التموين والإعاشة للقطع البحرية التابعة لها.
كما أن البحرية التركية تمتلك تسهيلات مماثلة في قبرص، عبر تمركز قيادة لحرس السواحل التركي في قاعدة بحرية قرب ميناء "بوجاز" تضم 36 زورق دورية، وكذا امتلاك البحرية التركية تسهيلات في ميناء باكو البحري في أذربيجان، وحقيقة أن أنقرة باتت لها قاعدة بحرية دائمة في ميناء "الخمس" غربي العاصمة الليبية طرابلس.