مآلات التصعيد الأميركي الأخير ضد فنزويلا

التحركات العسكرية الأميركية في منطقة الكاريبي ونطاق دول أميركا الوسطى، تشير بشكل واضح إلى محاولة أميركية لتدارك المحاولات الصينية والروسية والكورية الشمالية، لإيجاد موطئ قدم دائم في هذا النطاق.

  • أهداف الحشد العسكري الأميركي في محيط فنزويلا.
    أهداف الحشد العسكري الأميركي في محيط فنزويلا.

دخلت العلاقات الأميركية - الفنزويلية منذ الشهر الماضي، دائرة خطيرة من التصعيد والتلويح باستخدام القوة، استناداً إلى عدة خلفيات تشكل في مجملها، استمراراً لحالة "التربص" التي تنظر من خلالها واشنطن لكاراكاس، خاصة فيما يرتبط بتطور العلاقات بين تلك الأخيرة وبين عواصم كبرى مثل بكين وموسكو، وطهران.

الاتجاهان الأساسيان لتزايد حدة التصعيد بين كلا البلدين، يرتبط أحدهما بحجة أميركية - تكررت خلال العقود الماضية - بشأن المستويات المرتفعة لعمليات تهريب المخدرات الآتية من أميركا الوسطى والجنوبية نحو أميركا الشمالية، مروراً بقناة بنما وأجزاء من الساحل الكولومبي والفنزويلي، والساحل الجنوبي لبورتوريكو وهايتي وكوبا، واتخاذ واشنطن هذا الأمر، ذريعة لإرسال وسائط بحرية وجوية نوعية في اتجاه الساحل الفنزويلي وأراضي بورتوريكو. أما الاتجاه الثاني، فيرتبط بتجدد النزاع التاريخي بين فنزويلا وغيانا، وهو نزاع جوهره الخلاف حول تبعية إقليم "إيسيكويبو" الغني بالنفط والموارد المعدنية.

حجة تهريب المخدرات… مجدداً

من حيث المبدأ، ليست هذه المرة الأولى، التي تطلق فيها الولايات المتحدة الأميركية، عمليات عسكرية ضد عصابات تهريب المخدرات من أميركا الوسطى والجنوبية، فتاريخياً سبق أن أطلقت واشنطن عمليات جوية وبحرية ضد تهريب المخدرات في هذا النطاق، أهمها عملية "كيندل ليبرتي" عام 1983، التي تمركزت بموجبها مقاتلات أميركية في قاعدة "هاوارد" الجوية في بنما، لاعتراض الطائرات الخفيفة التي تنقل المخدرات من أماكن تصنيعها إلى أميركا الشمالية، وهي الطريقة التي كانت تتبعها عصابات تجارة المخدرات خلال فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

أطلقت واشنطن عملية جوية مماثلة أوائل تسعينيات القرن الماضي، تحت اسم "كورونيت نايت هوك"، وخلالها كانت القوات الجوية الأميركية، تستخدم مقاتلاتها لمراقبة أجواء أميركا الوسطى ومنطقة الكاريبي، لاكتشاف طائرات تهريب المخدرات، وقد كانت قاعدة "هاوارد" الجوية في بنما، هي أيضاً القاعدة الرئيسية لهذه العملية، التي كانت في الأصل تابعة لقيادة العمليات الجوية في سلاح الجو الأميركي، ثم انتقلت في مراحلها الأخيرة لتتم تحت مسؤولية الحرس الوطني الجوي.

خلال سنوات تفعيل هذه المهمة، كانت مقاتلات "إف-15" و"إف-16"، تعمل على رصد الطائرات المشتبه فيها، ومن  ثم اعتراضها وإسقاطها في حالة تم تأكيد ضلوعها في تهريب المخدرات، وكان هذا الأسلوب فعالاً إلى حد كبير، حيث انخفضت بحلول عام 2001 - وهو العام الذي انتهت فيه هذه المهمة، مع بدء سريان معاهدة قناة بنما، التي أنهت الوجود العسكري الأميركي في بنما، وأعادت السيطرة على قناة بنما والقواعد العسكرية القريبة منها، إلى الحكومة البنمية - عمليات تهريب المخدرات جواً، من نسبة 75 في المئة من إجمالي المخدرات التي تصل إلى أميركا الشمالية، إلى أقل من 25 في المئة.

الملاحظ أن نطاق عمل المقاتلات الأميركية في العمليتين، كان يشمل بشكل رئيسي الساحل الفنزويلي والكولومبي، بل إن الجيش الأميركي في مرحلة ما قبل إغلاق قواعده في بنما، قد أرسل عام 2000، قوات جوية إلى إقليم "كوراساو" التابع لهولندا، والذي لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن فنزويلا، لتنفيذ عمليات لمكافحة تهريب المخدرات، وهو ما يعني في المجمل، أنه لا يمكن تجاهل العامل المرتبط بمكافحة تهريب المخدرات في هذا النطاق، خاصة أن أسلوب التهريب بات يعتمد بشكل أكبر على أنماط مستحدثة من وسائط النقل، وتحديداً الزوارق الغاطسة جزئياً، وكذلك الغواصات بدائية الصنع.

لكن رغم هذا الواقع الذي يبرر - من حيث المبدأ - تفعيل القدرات العسكرية الأميركية في النطاق الفنزويلي، إلا أن القدرات البحرية والجوية التي جرى إرسالها إلى بورتوريكو، لا تتناسب في حجمها وتأثيرها وتسليحها، مع المهام المنطقية التي من الممكن أن يجري تنفيذها ضد عمليات التهريب، والتي لا تحتاج عملياً سوى لبضع طائرات من دون طيار، تمتلك قدرات كهروبصرية وإلكترونية جيدة للرصد النهاري والليلي، وتتسلح بذخائر قادرة على استهداف السفن الصغيرة والمتوسطة، وهي جميعها مواصفات تنطبق على الطائرات المسيرة مثل "MQ-9 REAPER"، علماً ان واشنطن قد أرسلت بالفعل طائرتين من هذا النوع إلى بورتوريكو.

لكن واقع الحال يشير إلى أن واشنطن قد حشدت قوة بحرية وجوية معتبرة في محيط فنزويلا خلال الأيام الماضية، حيث يمكن تقسيم هذه القوة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، القسم الأول هو قوة بحرية ضاربة مكونة من أربع مدمرات صواريخ موجهة، بواقع مدمرة واحدة من الفئة "تيكوندريروجا"، وثلاث من الفئة "آرلي بيرك"، بجانب غواصة من الفئة "لوس أنجلس". وسائط هذا القسم تنتشر في محيط ساحل هايتي وبورتوريكو، وأهم ما يميزها أنها تمتلك ما مجموعه 140 صاروخاً جوالاً من نوع "توماهوك".

القسم الثاني هو قوة بحرية برمائية تتألف من ست قطع بحرية، تتصدرها سفينة الإنزال البرمائي الهجومية "أيوجيما"، وسفينتا النقل البرمائي "سان أنطونيو" و"فورت لويندرديل"، بجانب ثلاث سفن دعم وكسح ألغام ونقل، واللافت في هذه القوة، أنها تتضمن قوة من مشاة البحرية الأميركية، يراوح تعدادها بين 2500 و4000 جندي، علماً أن هذا القسم يتجه إلى بورتوريكو، تحت ستار تنفيذ عمليات تدريبية. القسم الثالث هو قسم جوي، قوامه الأساسي عشر مقاتلات من نوع "إف-35 بي"، تتم حالياً عمليات نقلها إلى بورتوريكو، يضاف إليها وسائط موجودة بالفعل هناك، من بينها 13 مروحية قتالية، و6 مقاتلات إقلاع عمودي من نوع "هارير"، و12 طائرة نقل، وطائرتا تزويد بالوقود، وطائرتا دورية بحرية من نوع "بي-8 أيه".

تجدد التوتر بين فنزويلا وغيانا

في ظلال التوترات السابقة، تظهر البصمات الأميركية في جانب آخر من جوانب التوتر في محيط فنزويلا، ألا وهو النزاع التاريخي حول تبعية إقليم "إيسيكويبو".

ورغم أن واشنطن لم تتدخل في هذا الملف بشكل مباشر، إلا أنها لوحت بوجودها فيه أواخر عام 2023، بعد أن أصدرت قيادة العمليات الخاصة الجنوبية الأميركية (SOCSOUTH)، مقطع فيديو لعمليات تدريب تمت قبالة ساحل غيانا أواخر العام الماضي، ظهرت فيه طائرة نقل معدلة للهجوم الأرضي، من نوع "AC-130J"، أثناء إطلاقها قذائف من عيار 30 ملم خلال تدريب بالذخيرة الحية، وهو ما تسبب في موجة من التساؤلات حول توقيت نشر هذا التسجيل حينها، في ظل تصاعد حاد في النزاع الحدودي القديم بين غيانا وفنزويلا.

التصرفات الأميركية المماثلة تكررت لاحقاً - في محاولة على ما يبدو لتأكيد العلاقات القوية بين الولايات المتحدة وغيانا - ففي أيار/مايو 2024، نفذت مقاتلتان من نوع "إف-18" تابعتان للبحرية الأميركية - انطلقتا من حاملة الطائرات "يو إس إس جورج واشنطن" - تحليقًا مُنسقًا فوق مدينة جورج تاون، عاصمة غيانا، والمناطق المحيطة بها، وقد فُسر هذا التحليق حينها على نطاق واسع، بأنه إظهار للقوة موجّه إلى فنزويلا المجاورة.

بشكل عام، يعود تاريخ النزاع بين الجانبين على إقليم "إيسيكيبو"، وهو منطقة غنية بالموارد الطبيعية تشكل ثلثي مساحة غيانا تقريباً، إلى القرن التاسع عشر، لكنه اشتعل مجدداً بعد تهديد مسؤولين في فنزويلا، بضم الإقليم، ما استتبع حشداً عسكرياً فنزويلياً على الحدود، وحشداً مقابلاً من جانب غيانا، كما نقلت البرازيل بعض قواتها إلى شرق البلاد، على الحدود مع غيانا، لمحاولة مواكبة أي تطورات مماثلة، وهو ما أدى في المجمل إلى تصاعد التوتر لعدة أشهر أواخر عام 2023 ومطلع العام الماضي.

ورغم الجهود الإقليمية التي تحاول منع هذا الملف من الانفجار، إلا أنه بات ملحوظاً التصاعد المستمر في حدة هذا الخلاف خلال السنوات الأخيرة، خاصة منذ بدء الاكتشافات النفطية في نطاق إقليم "إيسيكيبو" عام 2015، وكانت أحدث فصول هذا التصاعد، ما حدث في آذار/مارس الماضي، حين دخلت زوارق تابعة لحرس السواحل الفنزويلي، إلى المياه الاقتصادية لغيانا، وتحديداً منطقة "ستابروك" الغنية بالنفط.

في الوقت الحالي تتهم فنزويلا غيانا بالسعي لمواجهة عسكرية فاصلة حول هذا الإقليم، وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن كلا البلدين بات في طور تعزيز قدراته اللوجستية والعسكرية استعداداً لهذا الأمر، ففنزويلا من جانبها، تعمل منذ فترة على توسيع القاعدة العسكرية في جزيرة "أناكوكو"، وقاعدة حرس السواحل في "غويرا". كما تستثمر غيانا حاليًا في تحديث أسطولها البحري، حيث وقعت العام الماضي، مذكرة تفاهم مع شركة "OCEA" الفرنسية، لشراء سفينة دورية ساحلية، لتنضم إلى سفينة أخرى اشترتها غيانا من شركة "Metal Shark" الأميركية عام 2021.

أهداف الحشد العسكري الأميركي في محيط فنزويلا

رغم وجاهة المبررات الخاصة بنشر هذه القوة العسكرية الأميركية الكبيرة في النطاق الفنزويلي - وهي مبررات تراوح بين مواجهة عمليات تهريب المخدرات، ودعم الدول الحليفة - إلا أن طبيعة التسليح المصاحب لهذه القوة، لا تتناسب مع هذه الأهداف بأي شكل من الأشكال، خاصة ما يرتبط بالمدمرات والغواصة، ومقاتلات "أف-35"، علماً أن عملية استهداف قارب لنقل المخدرات، قالت واشنطن إنه تابع لعصابة "ترين دي أراغوا"، منذ عدة أيام - وهي أول عملية تتم ضد سفن التهريب منذ إعلان واشنطن بدء عملياتها في منطقة بحر الكاريبي - قد تمت بواسطة طائرة من دون طيار، أي أن الدفع بمقاتلات الجيل الخامس إلى بورتوريكو، لا يوجد ما يبرره سواء كان عملياتياً أم حتى من حيث تكاليف التشغيل.

حقيقة الأمر أن عملية استهداف هذا الزورق، تم ربطها بالرؤية الأميركية الحالية لنظام الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، فواشنطن من جانبها لم تخفِ يوماً -وبشكل أكبر خلال المدى المنظور - مناهضتها لهذا النظام، كما أن الرئيس الأميركي الحالي، قد ربط بشكل مباشر بين مادورو وعصابة "ترين دي أراغوا"، التي أصدر ترامب في آذار/مارس الماضي، مرسوماً بتصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية.

هذا الربط يعني - عملياً - أنه يمكن اعتبار عملية النشر المكثفة للقدرات العسكرية الأميركية، رسالة حادة من واشنطن للنظام في فنزويلا، وهذا ربما ما قرأته كراكاس بوضوح، لذا كانت مبادرتها بعد يوم واحد من عملية استهداف الزورق سالف الذكر، بإرسال مقاتلتين من نوع "إف-16"، للتحليق قرب المدمرة الأميركية "جيسون دونام"، بعد عبورها مضيق بنما، في طريقها إلى بورتوريكو.

موقع الحشد العسكري الأميركي، يرتبط بشكل أساسي ببورتوريكو، التي تقع على بعد نحو 500 ميل شمال فنزويلا، ويشير بعض التحليلات إلى أنه لا يجب بالضرورة أن يكون مرتبطاً بعملية "قريبة" لإسقاط النظام في فنزويلا، بل تذهب هذه التحليلات إلى اعتبار أن قدرات الرصد المتفوقة الخاصة بمقاتلات "إف-35"، قد تستخدم من أجل جمع معلومات استخبارية آنية وحديثة من الأراضي الفنزويلية، تمهيداً لإمكانية توجيه "ضربة جوية محدودة"، ضد قدرات عسكرية فنزويلية معينة، في محاولة لكبح جماح التوجهات الوطنية الفنزويلية المعادية للسياسة الأميركية في هذا النطاق الجغرافي.

ومع أن طبيعة التحركات العسكرية الأميركية لا تزال غير واضحة - في ظل عدم صدور تهديدات واضحة من إدارة ترامب باستخدام القوة ضد فنزويلا - الا أن كراكاس باتت في طور الاستعداد لاحتمالية تعرضها لهجمات محدودة أو نوعية، ففي نهاية الشهر الماضي، أعلنت عن نشر أكثر من 4.5 ملايين عنصر من القوات شبه العسكرية في جميع أنحاء البلاد، وهم متطوعون مخصصون لدعم الجيش الفنزويلي في حالات الطوارئ، كما أعلنت عن نشر 15 ألف جندي على الحدود مع كولومبيا، للمشاركة في عمليات مكافحة المخدرات.

خلاصة القول، إن التحركات العسكرية الأميركية في منطقة الكاريبي ونطاق دول أميركا الوسطى، تشير بشكل واضح إلى محاولة أميركية لتدارك المحاولات الصينية والروسية والكورية الشمالية، لإيجاد موطئ قدم دائم في هذا النطاق، وهو أمر ربما يفسر مبادرات أميركية عسكرية أخرى، مثل مبادرة "القبة الذهبية"، الخاصة بتنظيم شبكة دفاع جوي متكاملة لحماية الولايات المتحدة من مخاطر الصواريخ البالستية، حيث طرحت واشنطن عدة مرات وجود احتمالات كبيرة لتكرار أزمة "الصواريخ الكوبية"، في نطاقات أخرى قريبة نظرياً من الأراضي الأميركية.

واقع الحال يشير إلى أن عمليات تهريب المخدرات تشكل بالقطع مبرراً وجيهاً لتنفيذ عمليات عسكرية بحرية وجوية، لكن يبقى السؤال حول مدى تأثير هذه العمليات بشكل عام على تهريب المخدرات في منطقة الكاريبي، وإذا ما كانت هذه العمليات ستتوسع لاحقاً لتشمل أهدافاً أخرى، سواء كانت تلك الأهداف دفاعية واستخبارية، أم أهدافاً هجومية.