الرسوم الجمركية في عهد ترامب: هل تُفكِّك العقد الاجتماعي الأميركي؟

تُستخدم الرسوم الجمركية كأداة لإعادة تشكيل مفهوم الانتماء الوطني، إذ يُطلب من المواطن أن يتحمّل تبعات اقتصادية شخصية، مثل ارتفاع الأسعار، تقلّص فرص العمل، أو حتى الركود.. في مقابل شعور رمزي بالقوة واستعادة الهيبة القومية.

0:00
  • الرسوم الجمركية في عهد ترامب: هل تُفكّك العقد الاجتماعي الأميركي؟
    الرسوم الجمركية في عهد ترامب: هل تُفكّك العقد الاجتماعي الأميركي؟

تُعدّ سياسة الرسوم الجمركية التي يعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ عودته إلى البيت الأبيض، أكثر من مجرد إجراء اقتصادي؛ إنها تعبير عن تحوّل بنيوي في علاقة الدولة الأميركية بالأسواق والمجتمع، وعن مشروع "أيديولوجي" يعيد رسم معالم "القومية الاقتصادية" بوصفها بديلاً من العولمة، حتى لو كان الثمن هو معاناة المواطن الأميركي نفسه. فما الذي يخفيه هذا التوجّه من حيث آثاره الاجتماعية والسياسية؟ وما هي التداعيات العميقة لهذا النهج المتقلب على الداخل الأميركي؟

إعادة تعريف الوطنية الاقتصادية 

منذ الأيام الأولى لولايته، سعى ترامب إلى تأطير السياسة الجمركية ضمن خطاب سيادي عالي النبرة: "أميركا أولاً"، شعار تحوّل إلى مظلة تبريرية لكل إجراء يُتخذ بحق الشركاء التجاريين، من كندا والمكسيك، إلى الصين وأوروبا. لكنه خطاب يستبطن طابعاً آخر يقول منتقدوه إنه الطابع الحقيقي لهذه السياسات: فرض كلفة مباشرة على المستهلك الأميركي باسم حماية الاقتصاد المحلي.

في هذا السياق، تُستخدم الرسوم الجمركية كأداة لإعادة تشكيل مفهوم الانتماء الوطني، إذ يُطلب من المواطن أن يتحمّل تبعات اقتصادية شخصية، مثل ارتفاع الأسعار، تقلّص فرص العمل، أو حتى الركود.. في مقابل شعور رمزي بالقوة واستعادة الهيبة القومية. هكذا، يتحوّل "الألم" إلى طقس عبور نحو عظمة مطلوبة، في عملية تستند إلى تأطير شعبوي للهويّة الاقتصادية. 

ويتسم هذا النهج الجمركي بقدر كبير من التقلّب والارتجال: فرض رسوم جمركية ثم تعليقها، التهديد بعقوبات جديدة ثم فتح باب التفاوض، وتصعيدات مفاجئة بدون تنسيق مؤسسي (بموازاة اختيارات مثيرة للجدل لمواقع إدارية حساسة مختلفة تماماً عن التقليد السياسي الأميركي). هذا التذبذب في القرارات يعكس غياب منظومة استراتيجية واضحة، ويُدخل الأسواق في حالة من اللايقين الهيكلي، وهي بيئة تُعتبر عدوًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي والاستثمار.

فالسياسات الاقتصادية، لكي تكون ذات أثر مستدام، يجب أن تقوم على الاستقرار والاتساق، لا على الإيقاع الشعبوي للمزايدات السياسية. وكما تحذّر الخبيرة الألمانية لاورا فون دانييلز، فإن السوق الأميركية نفسها باتت تعاني من تآكل الثقة، ليس فقط بين المستثمرين، بل أيضاً داخل البنية المؤسسية التي كانت تُمثّل صمّام أمان في وجه نزعات التسرّع والتسييس.

ماذا عن المواطن الأميركي؟

من زاوية علم الاجتماع السياسي، يمكن قراءة نتائج الرسوم الجمركية على مستويات متعددة. أولها تلك المتعلقة بمعيشة المواطن العادي، الذي يواجه تزايدًا في أسعار السلع الأساسية وتقلّبًا في الأسواق، في حين تتأثر القطاعات الإنتاجية الحساسة، مثل صناعة السيارات والتكنولوجيا، بارتفاع تكاليف الإنتاج وتقلّص الهوامش الربحية.

يجد المواطن الأميركي نفسه ممزقًا بين الولاء الخطابي لرئيس يتحدّث باسمه، وبين واقع معيشي يومي يزداد فيه العبء الاقتصادي، وتتراجع فيه فرص الحراك الاجتماعي. هكذا، يُستثمر الشعور الوطني لتبرير الخسارة، ويتم تحويل المعاناة إلى فعل تضحية ضروري، بل بطولي، من أجل "إعادة أميركا إلى عظمتها". لكن إلى متى يمكن للمواطن أن يقبل هذا التناقض بين الوعود والمخرجات؟

وليس من المبالغة القول إن الحرب التجارية التي يقودها ترامب تندرج ضمن مشروع أكبر يعيد تعريف موقع الولايات المتحدة في العالم، لا كمُحرّك للنظام الليبرالي الدولي، بل كدولة تنكفئ نحو الداخل وتتعامل مع الخارج من منطق التهديد والتبادل القسري لا التعاون، وهو ما يمكن وصفه بالعدوانية الاقتصادية والسياسية تجاه الخصوم والشركاء، وربما بمستوى أعلى من القسوة تجاه الحلفاء، وهو ما يعزز الجدل ويثير الشكوك حول وجود رؤية حقيقية لهذا النهج.

هذا التوجّه أسهم في تآكل الصورة التقليدية لواشنطن كحليف موثوق به، وفتح المجال أمام شركاء تاريخيين -كأوروبا وكندا- لإعادة النظر في علاقاتهم الاقتصادية والأمنية بالولايات المتحدة. وفي هذا المناخ، يتحوّل الدولار من ملاذ آمن إلى عملة مشكوك في استقرارها، وتبدأ سندات الدين الأميركية بفقدان بريقها، مقابل صعود تدريجي لليورو واليوان كبدائل استراتيجية.

التضخم الرمزي وتآكل الطبقة الوسطى

يعاني الاقتصاد الأميركي اليوم من ظاهرة مقلقة: تضخم الأسعار من دون نموٍ موازٍ في الإنتاج أو في مداخيل الأفراد، أي ما يُعرف بالركود التضخمي. وهو سيناريو مرهق اجتماعيًا، يضرب مباشرة الطبقة الوسطى التي لطالما مثّلت العمود الفقري للتماسك الاجتماعي والديمقراطي في الولايات المتحدة. 

وفي ظل هذا الواقع، تتحوّل السياسات الجمركية من أدوات تصحيح إلى أدوات تفكيك: تفكيك الثقة في السياسات العامة، وتقويض الأمن الاجتماعي، وخلق مزيد من الانقسام الطبقي والمناطقي. فلا عجب إذًا أن تكون الولايات التي شهدت أقسى تداعيات الرسوم، هي ذاتها التي تعاني من تراجع في مستويات الثقة السياسية والانتماء المدني.

وينبغي فهم سياسة ترامب الجمركية ضمن سياق أيديولوجي أوسع، يُعلي من شأن الاقتصاد الوطني بمعزل عن التشابكات العالمية، ويستبدل التعاون بالخصومة، والاندماج بالتفكك. إنها رؤية تعكس تحوّلًا عميقًا في الفلسفة السياسية الأميركية، من الانفتاح إلى الانغلاق، ومن الريادة إلى الانكماش الدفاعي.

لكن هذا الحصار الذاتي لا يخلق نمطًا اقتصاديًا مستقلًا، بل يُنتج تبعية معكوسة: فكلما ازدادت العزلة، ازدادت الحاجة إلى أدوات قمعية -من رسوم وعقوبات- لحماية الاقتصاد، وحتى أدوات عنف في الداخل (وربما في الخارج) لضمان الاستقرار السياسي أو الحصول على قدرٍ مقبولٍ منه للتمكن من الاستمرار بهذه السياسة، وذلك في غياب قدرة حقيقية على التجديد الذاتي. وهنا تظهر المفارقة القاتلة: الدولة التي تسعى للسيادة الاقتصادية الكاملة، تجد نفسها مضطرة للجوء إلى إجراءات طارئة باستمرار، لأنها فقدت القدرة على إقناع شركائها ومواطنيها بالثقة أو التعاون.

وهكذا، يبدو أن الرسوم الجمركية، في منطق ترامب، ليست مجرد وسيلة اقتصادية بل مشروع سلطوي يعيد تشكيل العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. لكن هذا العقد، بدلاً من أن يقوم على توزيع المنفعة، يُبنى على وعدٍٍ غامض بتضحيات مؤقتة مقابل مجد مستقبلي. وإذا كانت هذه التضحيات تُدفع من جيوب الفئات الأكثر هشاشة، فإن المشروع بأكمله يصبح قابلًا للانفجار من الداخل.

كما تُظهر التجربة الجارية أن سياسة "الألم المستحق" التي يتبناها ترامب تخلق عالماً متوترًا، مهددًا، وغير مستقر، لا فقط في الأسواق، بل في النفوس. وكذلك تخلق أميركا أكثر توتراً من داخلها. وهي في العمق تعبير عن أزمة عميقة في الرؤية السياسية الأميركية، وعن تحول الرئيس الأميركي إلى صاحب مشروع اجتماعي مقلق، يقوم على الانقسام بدلاً من التوحيد، وعلى التضحية بدل الرفاه، وعلى الشعبوية بدل العدالة. 

اخترنا لك