المستوطنون أمام صدمة تهشيم "التفوّق": لسنا شعب الله المختار!
كشفت الحرب تصدع في الوعي الجمعي الإسرائيلي، حيث تحوّل من التصفيق للعنف ضد الآخرين إلى الخوف منه عند انتقال المعركة إلى عمقه. ويبرز التناقض الأخلاقي لديه التي تبرّر عنفها وترفض مقاومة الآخر، بينما ينهار وهم "المركز المحصن" تحت وقع الضربات.
-
قوات الإنقاذ الإسرائيلية في موقع سقوط صاروخ باليستي أطلق من إيران وتسبب في أضرار في تل أبيب، 16 يونيو/حزيران 2025.
فجأة، استيقظت الأخلاق من سُباتها في الوعي الجمعي الإسرائيلي؛ إذ بدأ الجمهور يتساءل عن معنى الإنسانية والضمير، وعن أخلاقية استهداف المنازل، وعن الرعب كأثرٍ لاإنساني، وعن قصف المشافي والبيوت وإصابة المدنيين، عن الزجاج الذي يتساقط فوق مهد طفلٍ لم يكن موجودًا فيه، لأنه كان محميًا مع أهله في ملجئ، أما على امتداد 622 يومًا من الحرب والقصف، فلم تكن الأخلاق مدرجةً على قوائم تفكير المجتمع الإسرائيلي، ولم يكن تجريف البنى المجتمعية في غزة ولبنان واستهداف المرافق المدنية في كليهما واليمن شاغلًا لفكره.
هذا التناقض العميق في البنية النفسية والسياسية للمجتمع الإسرائيلي عكس منظومة استعمارية ترى نفسها فوق المساءلة، فالمجتمع الذي يصفّق لغارات تمحو أحياء كاملة في غزة، هو الذي يرتعب من قذيفة تسقط على أسدود أو حيفا، وهو مجتمعٌ يُربي أبناءه على أن "الغاية تبرر الوسيلة" حين يتعلق الأمر بـ"أمن إسرائيل"، لكنه يجرّم مقاومة الآخرين، ويطالب بقمعها، وتجريدها من شرعيتها الإنسانية والأخلاقية.
التحول من زاوية التصفيق للعنف إلى تجريمه في المجتمع الإسرائيلي، مردّه الأساسي غطرسة عمياء وجدت قوتها في ضرب الشعوب الأخرى والاستقواء عليها، فاصطدمت بنتائج أعمالها، صواريخ ومسيّرات تسقط على قلب "تل أبيب"، تُحوّل ليلها نهارًا، وتعيد بوتقة المجتمع على وقع حربٍ انتقلت من الأطراف إلى العمق، وأسقطت معها فكرة المركز المحصّن، الذي يلجأ له سُكان الشمال والجنوب، وتُهدد المنظومة السياسية الإسرائيلية أعداءها إن اقتربوا منه.
من الالتفاف نحو العنف إلى الفزع منه
بُعيد ساعات من العدوان الإسرائيلي على إيران، تناقلت وسائل الإعلام، ومنها وكالة رويترز تقارير تُشير إلى تأييد 83% من المجتمع الإسرائيلي للضربة التي أودت بمدنيين وأطفال نيامٍ في أسرهم، ترافق ذلك مع وحدة سياسية والتفافٍ حول نتنياهو -المطلوب تحت بند الإبادة الجماعية في غزة- عبّر عنها ليبرمان بالقول: "الأمن الوطني يتجاوز الانقسامات الحزبية".
في السيكولوجيا الاجتماعية يُعبر هذا الالتفاف عن "عقيدة حماية تبادلية"، أو "ذهنية أمنية مجتمعية"، يصبح كل مواطنٍ وفقًا لها جُنديًا بشكلٍ تلقائي، ويغدو كل حي خطًا أماميًا محتملًا في جبهة مقبلة، كما تسود قيمة العسكر والجيش والمخابرات باعتبارها جهات اعتبارية فوق النقد والمحاسبة أو التشكيك.
غير أن هذا الإجماع القومي المؤدلج حول الأمن سرعان ما بدأ يتصدع مع أول ضربة طالت العمق الإسرائيلي، إذ طفت على السطح مشاعر قلقٍ جماعي، عبّرت عنها تصريحات لرؤساء البلديات والمناطق المدمرة، شبّهت الدمار الذي طال مدنهم بما أحدثه الجيش الإسرائيلي في غزة، بل ذهب بعض المجندين إلى القول إن الدمار الذي خلفوه في جباليا، لاحقهم في أحيائهم.
مستوى الرعب المجتمعي لم يكن محصورًا بالتوجّس والقلق وتآكل الحس النقدي الجماعي، بل اتسع ليشمل دعوات دولية للحماية، من بينها خطاب سائد يحث الرئيس الأميركي دونالد ترامب ويدفعه إلى تصدّر المعركة، ويلعب على وتر نرجسيته ورغبته في الظهور للاحتماء به، وهو ما يمكن تفسيره بإدراك الفرد الإسرائيلي أنّ أمنه مرتبط بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وأنّ بطش جيشه يظل قاصرًا على تحقيق استقراره ما لم يُدعم بإسنادٍ عسكري ولوجستي وسياسي دائم.
اللافت هُنا، أن "المجتمع الديمقراطي الحُر المنفتح"، اضطُر لتشريع "اجتماعي وسياسي" لآلية التعتيم الإعلامي والسياسي على الخسائر والأضرار والآثار النفسية، يُبرر ذلك بتقليل الانكشاف على الكيان، لكنه في الوقت نفسه منسجم مع بناء "وهم النصر المطلق" الذي يُبدع الإعلام الإسرائيلي في خلقه، بالتوازي مع إقصاء الجمهور عن حجم الضرر المتحصل، والذي قد يستجلب ضغطًا تتوقف الخطط العسكرية تحت وطأته.
آلية التعتيم التي بدت إجماعًا مجتمعيًا، ارتبطت بتحوّل شعبي متزايد منذ السابع من أكتوبر، بلغ أوجه عشية الرد الإيراني، والذي يدعم ويعزز القمع الداخلي، فيقف في وجه من يُطالب بإنهاء الحرب، ويوسع الشرخ الداخلي مع العرب الفلسطينيين، الذين عبروا عن رفضهم للعدوان، وعن احتفائهم بالرد الإيراني، ما أدى إلى توترات مجتمعية واتّهام بعض العرب بـالخيانة أو اللاوطنية، ترافق ذلك مع حملات إعلامية وسياسية وحزبية استهدفت الوجود العربي، وغياب البنى التحتية للملاجئ فيه، وابتهجت بسقوط قتلى من بينهم نتيجة منظومة الاعتراض الإسرائيلية التي اتخذت المناطق العربية ميادين لها، ما تسبب في سقوط معظم الشظايا والصواريخ الاعتراضية فوق رؤوس العرب في تلك المناطق.
استعلاء أخلاقي فوق جثة الآخر
هُنا، تعود من جديد "بُنية الإنكار الأخلاقي" في الوعي الجمعي الإسرائيلي، والتي أُسست على مبدأ أخلاقية الكيان مهما فعل، طالما أنه معبر عن الناجين من الهولوكوست، وفق هذه البُنية يُبرر عنف المجتمع الإسرائيلي ضد الآخر، أما العُنف الذي يُمارس ضده -حتى كرد فعل- فهو جريمة ضد الإنسانية، يجب محاسبة فاعليها بالمزيد من العنف، هذه الدوامة من العنف المبرر وغير المبرر، يعبر عنها فرانز فانون بأنها إحدى مخرجات العقل الإستعماري الذي يجرّد الآخر من إنسانيّته ويبرّر استهدافه، بينما يرى نفسه بريئًا مهما ارتكب من الجرائم.
وفقًا لفانون، فالعنف الاستعماري هُنا، لا يكتفي بالاستهداف الجسدي، بل يسعى إلى خلق منظومة اجتماعية واعية تعتبر نفسها -كضحيّة- أداة محاسبة، لا إنسانًا في مواجهة إنسانٍ آخر، حيث يقول في كتابه "معذّبو الأرض": الاستعمار هو نظام يستخدم العنف لا لتدمير الجسد فقط، بل ليغرس في عقل المُستعمَر فكرة أنه لا يملك الحق في المقاومة، وأن موته هو من لوازم النظام.
وهو السياق نفسه الذي يؤكده المؤرخ اليهودي المعادي للصهيونية، إيلان بابيه، الذي أكد مرارًا أن عدم الوصول إلى حلٍ لقضية اللاجئين الفلسطينيين، مردها الأساسي هو الذاكرة الجماعية الإسرائيلية التي بُنيت وفقًا لسياسة وهوية قومية لا تسمح بوجود الآخر، وتجد نفسها أفضل وأسمى منه، فيقول: "الذاكرة الجمعية الإسرائيلية بُنيت على أسطورة النقاء الأخلاقي، وهي أسطورة تحمي إسرائيل من مواجهة ماضيها، وتجعل من الاعتراف بالجرائم تهديدًا وجوديًا للدولة".
أمام هذا الواقع الاجتماعي والنفسي، يصعب بدرجة كبيرة التنبّؤ بالتغيير السيسيولوجي والسيكولوجي الإسرائيلي الحاصل بعد 7 أكتوبر، بعد معارك الشمال مع حزب الله، بعد مسيرات الفصائل العراقية، بعد الصواريخ اليمنية في المركز، بعد الضربة الإيرانية الأولى والثانية، وبعد الحرب الحالية التي قد تتسع ولا تهدأ، لكن الواضح أن التحولات النفسية والاجتماعية الجارية تجاوزت قدرة أدوات التحليل التقليدي على الإحاطة بها، وفرضت مقاربات جديدة لفهم مجتمع اعتاد السيطرة، ويختبر للمرة الأولى مرة الهشاشة على هذا النطاق.
كما أن البنية النفسية الاستعمارية الإسرائيلية لم تعد هي تلك التي يمكن ضبطها وتوجيهها بسهولة، فعلى وقع الضربات الإيرانية هُناك أكثر من 22 ألف إسرائيلي مسجل ينوي الخروج من البلاد، وهناك آخرون استعجلوا الوجهة فخاضوا غمار هجرتهم نحو قبرص سرًا، وهناك بالمقابل بنية يمينية استيطانية حريدية متشددة تُريد الحرب لكنها لا تُريد دفع الكلفة، تُريد التوسع والاستيطان، لكنها لا تُريد لأفرادها الموت، يُريد ممثلها سموتريتش "إسرائيل الكبرى" بحدودها التي تخترق دمشق، لكنه لا يريد دفع أكثر من 140 دولار تعويضًا لمن فقد بيته.
في ظل هذه المستجدات، تسقط "الدولة" كمركز ديني واجتماعي آمن وديمقراطي ومتطورٍ ليهود العالم، ويغدو القفز من السفينة المثقوبة قبل غرقها امتيازًا يُسارع له البعض، فيما يفضل البعض الآخر استبدالها بأسطولٍ من السفن على حساب الدول المجاورة وشعوبها.
إن هذا التبدل في السلوك والمزاج الشعبي لا يمكن فصله عن التحول الأوسع في بنية الوعي الإسرائيلي، الذي يجد نفسه فجأة في مواجهة مرآته وسموّه الزائف المرتبط بمزيدٍ من الانحطاط الأخلاقي والجرائم المبررة. بالمحصلة، فإن ما يجري اليوم يتجاوز الطابع العسكري؛ فالضربات على "إسرائيل" ليست فقط ردًا، بل لحظة كاشفة تُعيد تشكيل الوعي الجمعي الإسرائيلي، وتفتح مرحلة جديدة تُمارَس فيها القوة بغطرسةٍ أشد، واستعلاء أخلاقي أعمق، لكن بثقة داخلية تتآكل، ومجتمع مأزوم يعيد النظر في مركزه وتماسكه، بينما لا تزال النظم الغربية تصفّق لهذا الاستعلاء وتُضفي عليه شرعية أخلاقية زائفة.