الوهم الأنيق: لماذا نمنح القيمة لمن لا يستحقها!

في عالم تحكمه الصورة والانطباع وبراعة التسويق، تُعيد تجربتان مثيرتان من أميركا وبريطانيا تعريف علاقتنا مع المنتجات وحتى الأشخاص. فهل نحن ضحايا الوهم والقصص المحيطة به أم شركاء في صناعته؟

0:00
  • الوهم الأنيق: لماذا نمنح القيمة لمن لا يستحقها!
    الوهم الأنيق: لماذا نمنح القيمة لمن لا يستحقها!

في متجر فاخر بأحد أحياء لوس أنجلوس الراقية، وقف عدد من المؤثرين يتأملون أحذية بدت لهم كأنها تحف فنية لم يُرَ مثلها من قبل. كل شيء في المتجر متقن بعناية: الأرضية من الرخام الإيطالي، الإضاءة ناعمة ودافئة، والموسيقى تهمس في الخلفية بأناقة خافتة. الموظفات يتحدثن بثقة ورُقي، والواجهة التي تحمل اسم "Palessi" تضفي إيحاءً إيطاليًا متقنًا. كل تفاصيل المكان وأجوائه تجعل الزائر يظن أنه في متجر راقٍ في قلب ميلانو.

في أحد أركان المتجر، كان أحد المؤثرين يمسك بحذاء جلدي، يقلّبه بين يديه، يتأمّل تفاصيل النعل، وقد ارتسمت على وجهه علامات الإعجاب. سأل عن الثمن، فأجابته الموظفة الأنيقة: 645 دولارًا. لم يتردد لحظة. وبكل ثقة قال: "الشيء الجيد ثمنه غالٍ، بالطبع سأشتريه". عبارة لطالما رددها كثيرون في مثل هذه الأماكن، حيث يبدو السعر أحيانًا جزءًا من القيمة، أو ذريعة لاقتناء سلعة باهظة تتيح لهم أن يتميّزوا اجتماعيًا عن الآخرين. 

لكن ما لم يكن يعلمه، أن الحذاء الذي بين يديه لا يتجاوز ثمنه 30 دولارًا في متاجر Payless، وهي سلسلة أميركية معروفة ببيع الأحذية الرخيصة. كل ما في الأمر أن إدارة Payless قررت تنفيذ تجربة غير تقليدية: غيّرت الاسم، بدّلت الديكور، وراقبت كيف سيتغير تقييم الناس لمنتجاتها.

وهكذا، لم تكن الأحذية جديدة، بل أُعيد تقديمها بتغليف أنيق وصياغة بصرية راقية. لم تكن الجودة هي ما تغيّر، بل الإطار المحيط بها: الإضاءة، التصميم، طريقة العرض، وحتى الاسم. وتبيّن أن ما اشتراه الزبائن لم يكن منتجًا فعليًا، بل وهمًا محكم الصنع، صيغ بعناية من أناقة الاسم، وهندسة الإضاءة، وسحر الفكرة، وقوة الإيحاء. فالمتجر لم يخدع أحدًا؛ لقد تُرك الناس ليخدعوا أنفسهم بأنفسهم.

على بُعد آلاف الكيلومترات، وفي غرفةٍ صغيرةٍ بجنوب لندن، كان الكاتب الشاب بوباه باتلر يجرّب خدعته الخاصة. الرجل الذي كتب عشرات المراجعات الوهمية لمطاعم لم يزرها، قرّر أن يذهب أبعد من ذلك: أن يبتكر مطعمًا لا وجود له، ويُقنع العالم بروعته.

أطلق عليه اسم "The Shed at Dulwich"، وابتكر له قائمة طعام خيالية. التقط صورًا مضلِّلة لأطباق مُزيَّفة، ونشرها مع تعليقات ساحرة. وسرعان ما بدأت تنهال المراجعات من أصدقائه، لترتفع التقييمات بسرعة، حتى تصدّر المطعم الوهمي قائمة TripAdvisor كأفضل مطعم في لندن. توالت عليه الطلبات لحجز طاولة: اتصالات من مشاهير، عروض شراكة من طهاة حقيقيين، ورسائل من صحافيين يسعون لإجراء مقابلات. لكن الحقيقة؟ لم يكن هناك مطعم أصلًا. كل ما كان لديه: بيت صغير، حديقة خلفية، وطاولة بلاستيكية.

وبعد أشهر، قرّر أن يُحوّل تلك الحديقة إلى "مطعم" ليومٍ واحد. اشترى وجباتٍ مجمّدة من السوبرماركت، زيّنها ببعض الإضافات، سخّنها في الميكروويف، وقدّمها للضيوف. ظنّ أن الحيلة ستنكشف، وأن الحكاية ستنتهي. لكن المفاجأة أن الزبائن أكلوا الطعام وأُعجبوا به، التقطوا صور "سيلفي"، وشاركوا التجربة بحماسة، داعين متابعيهم لخوض "هذه التجربة الفريدة بطعمها الخرافي".. ولم يسأل أحد منهم: هل هذا فعلاً أفضل مطعم في لندن؟ وهل هذا فعلاً طعام فاخر؟

ما فعله باتلر يُشبه تمامًا ما فعلته Payless، وإن اختلفت الوسيلة. كلاهما كشف حقيقة مرّة: المستهلك لا يرى المنتج كما هو، بل كما يُقال عنه. يُكوّن تصوراته مما يسمعه ويقرأه، لا مما يلمسه أو يجرّبه. وما إن تتكرر المراجعات، أو يُكرَّس اسم أنيق، أو يُقدَّم المنتج ضمن إطار بصري راقٍ، حتى نُسقط عقلنا جانبًا، ونحكم من الخارج: بالصورة، لا بالجوهر؛ بالانطباع، لا بالاختبار.

لا فرق كبير بين من يشتري حذاءً لأنه افترض فيه "مواصفات إيطالية" لم تُذكر، وبين من يأكل طبقًا مزيّفًا لأنه قرأ عنه مراجعة مشجعة. كلاهما، في جوهره، لا يشتري المنتج نفسه، بل يشتري القصة التي تحيط به. يشتري الشعور بالتميّز، حتى لو كان مبنيًّا على وهم.

فحين يتحوّل الحذاء الرخيص إلى رمز للفخامة لأنه عُرض في السياق المناسب، وحين يكتسب مطعم وهمي مكانة مرموقة لأن ما كُتب عنه كان حماسيًا ومبهرًا، عندها لا بد أن نسأل أنفسنا: كم مرة منحنا الأشياء قيمتها، لا لأننا اختبرناها… بل لأننا صدّقنا ما قيل لنا عنها؟

لكن، هل يقتصر الأمر فعلًا على الأحذية والمطاعم؟ فماذا عن الأفراد والمجتمع؟ ماذا عن أولئك الذين نمنحهم الألقاب، ونرفعهم إلى مقامات عالية، ونتحدث عنهم بإعجاب شديد ونعطيهم قداسة وموثوقية، لا لشيء سوى لأنهم أجادوا تقديم أنفسهم في قالبٍ جذّاب ومنحوا إضاءة ساطعة.

كم من شخصٍ خدع المجتمع بمظهره، بخطابه المصقول ومفرداته المميزة وسيرته اللامعة، بينما داخله هشّ وخالٍ من الرؤية؟ وكم من موهوب طُمست بصمته فقط لأنه لا يُجيد التسويق لنفسه في عالمٍ يضجّ بالصورة والصوت؟

كم من "Palessi" يتجوّل بيننا، بواجهة أنيقة ومضمون فارغ؟ وكم من "The Shed at Dulwich" تربّع على منابر الثقة، لا لأنه الأفضل، بل لأنه تموضع ببراعة تحت الأضواء، وأُحيط بأصوات تُصفّق… لا تُفكّر؟

في عصر الصورة، بتنا نُقيّم الأشخاص كما نُقيّم المنتجات: من الغلاف، من الانطباع الأول، من الإضاءة والموسيقى المحيطة. فمن يُجيد العرض يفوز، ومن يمتلك الجوهر فقط… يخسر. 

في عالم يُروّج فيه الشكل على حساب الجوهر، ويُكافأ فيه من يُتقن العرض لا العمق، أصبحنا نسعى وراء الوهم…ليس لأنه يخدعنا، بل لأنه يريحنا أكثر من الحقيقة حتى بتنا نفضله على الواقع.

فالوهم لا يحتاج إلى حقيقة…

يكفيه جمهور يُتقن التصفيق… ويخشى السؤال.

اخترنا لك