تكافل اجتماعي واسع في محافظات إيران لمواجهة آثار الحرب
لقد أثبت الإيرانيون مرة أخرى أن الشعب الذي صمد أكثر من أربعين عامًا أمام الحظر والعقوبات، وقدم التضحيات من أجل استقلاله، هو قادر على تحويل كل تهديد إلى فرصة، وكل ألم إلى طاقة محبة، وكل حرب إلى موسم للتكاتف.
-
تكافل اجتماعي واسع في محافظات إيران لمواجهة آثار الحرب
في خضمّ الهجمات التي شنّها كيان الاحتلال الإسرائيلي على العاصمة الإيرانية طهران ومدن أخرى يوم الجمعة الماضي، لم تكن المواقف البطولية مقتصرة على الدفاعات الجوية أو البيانات السياسية، بل تجلّت في أبهى صورها عبر مظاهر التكافل الاجتماعي والإنساني الذي عمّ الشوارع والمنازل والمراكز والمؤسسات الإيرانية.
ففي وقتٍ تتصاعد فيه أصوات الانفجارات وتخيّم حالة من القلق على المدن الكبرى كطهران وتبريز وأصفهان وهمدان وكرمانشاه، اختار الإيرانيون أن يحوّلوا الخوف إلى فعل تضامن، والتهديد إلى فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية، واحتضان بعضهم البعض.
في رسالة أرسلها سعيد شهركي طالب دكتوراه في جامعة طهران إلى زملائه من الإيرانيين والأجانب، قال فيها: "إذا كنت من سكان طهران أو تبريز أو من الطلاب الأجانب العالقين بسبب الاعتداءات الاسرائيلية، فبيوتنا خارج طهران في خدمتك أنت وعائلتك. نحن هنا في مجمّع الغدير وشهيد صابر نمدّ أيدينا وقلبنا لكم".
لم تكن هذه الكلمات مجرّد عرض شخصي، بل كانت تعبيراً عن حالة جماعية من الاستعداد لاحتضان المتضررين. وقد بادرت مجموعات شبابية في محافظات عدّة إلى فتح المدارس كمراكز إيواء مؤقت، حيث تم تجهيزها بالفرش والبطانيات والمؤن، بل وحتى خدمات الإنترنت لضمان التواصل مع العائلات.
يقول أحد أعضاء هذه المجموعة للميادين نت: "قام بعض التجار في طهران بالتبرع لمجموعتنا لمساندة أهلنا وهذا ما ساهم في توسيع دائرة الاهتمام بعدد أكبر من الناس وتجهيز أكثر من مركز إيواء خلال ساعات"، وفي الوقت ذاته، شكّل طلاب كليات الطب في جامعتي طهران وشهيد بهشتي فرقًا طبية متنقلة لتقديم الرعاية الصحية في هذه المراكز.
منصة "ديوار" التي تُستخدم عادة للإعلانات التجارية، تحولت إلى ساحة إنسانية، حيث امتلأت بالإعلانات من مواطنين يعرضون منازلهم في مدن مثل رشت، كرمان، ويزد لاستضافة عائلات نازحة من طهران.
على منصات التواصل الاجتماعي المحلية مثل "ايتا" و"بَله"، ظهر عدد كبير من المتبرعين والمتطوعين، ينسقون جهودهم عبر مجموعات تفاعلية لتوزيع الإعانات والبحث عن العائلات المحتاجة.
ولم تقتصر المساعدات على الداخل الإيراني، بل امتدّت إلى الخارج، حيث قدّمت جاليات إيرانية في الخارج مساعدات للإيرانيين العالقين، كما فعل الفنان عليرضا كلزار، الذي أمّن إقامات ومساعدات عاجلة لعشرات الإيرانيين في دبي إلى حين عودتهم.
هذا التضامن العابر للحدود استدعى إشادة رسمية، إذ قال قائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي في خطابه المتلفز الثاني للشعب: "سلوككم هذا يعبّر عن شعب متين، شجاع، وواعٍ للزمان. واصلوا هذا السلوك بقوة ولا تسمحوا للعدو أن يتوهم بأنكم تخشونه".
وفي تعبير آخر عن الروح الوطنية، شهدت منصات مثل "روبيكا" نشاطًا واسعًا لتقديم بلاغات حول العناصر المشبوهة أو الجواسيس الداخليين، حيث فعّلت السلطات قناة "مركز الأخبار 114"، لتلقي التقارير من المواطنين مرفقة بالصور والموقع الجغرافي.
تلك الجهود أثمرت على الأرض، إذ أعلنت قوى الأمن والشرطة عن تفكيك عدد من خلايا التخريب، والعثور على مخازن لمتفجرات وطائرات مسيّرة، تم تحييدها بفضل بلاغات المواطنين وملاحظاتهم الدقيقة.
وفي مظهر آخر للتكافل، انتشرت مجموعات من الأهالي والمتطوعين في الطرق بين المحافظات ومحطات الوقود لتقديم الوجبات والمياه للمسافرين والعائلات المغادرة من مناطق الخطر. أحد المسافرين يقول للميادين نت: "صادفت مجموعة من الشباب تقدم وجبة خفيفة من الطعام مع الماء أثناء توجّهي إلى مدينة رشت في الشمال، فتوجّهت نحوهم وسألتهم عن ثمنها فقالوا إنها مجانية.. لا يمكن أن نُهزم ونحن نمتلك هكذا شعب".
أما الجامعات، فقد لعبت دورًا فاعلًا، حيث خصصت مساكنها الجامعية في محافظات مثل مشهد وهمدان وسنندج وقزوين للعائلات القادمة من طهران، ووفرت رعاية نفسية للأطفال وبيئة آمنة مؤقتة.
وبرغم الحصار الإعلامي والتضليل الذي تحاول بعض القنوات الأجنبية ممارسته، استطاع الإيرانيون إثبات أن وحدة المجتمع، والتعاضد الإنساني، والاحترام المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، هي أسلحتهم الأهم لمواجهة أي عدوان خارجي.
لقد أثبت الإيرانيون مرة أخرى أن الشعب الذي صمد أكثر من أربعين عامًا أمام الحظر والعقوبات، وقدم التضحيات من أجل استقلاله، هو قادر على تحويل كل تهديد إلى فرصة، وكل ألم إلى طاقة محبة، وكل حرب إلى موسم للتكاتف، حيث لا أحد ينام وحيداً، ولا أحد يُترك خلف الركب.
هذا التضامن الشعبي لا يقل قيمة عن الرد الصاروخي، ولا عن التعبئة الرسمية. فهو دليل أكد على أن المجتمع الذي يتحرك من تلقاءه، ينصر نفسه قبل أن تنصره الدولة، ويصنع النصر من جذور الوجدان الشعبي العميق.