حرائق مفتعلة تدمّر رئة سوريا.. مزارعو ريف اللاذقية يخسرون أرزاقهم وإرث أجدادهم

تبنّى تنظيم "أنصار السنة" إشعال حرائق كارثية في ريف اللاذقية، أدّت إلى احتراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية والحراجية، بينها أشجار زيتون عمرها قرن. الحكومة السورية طلبت مساعدات إقليمية ودولية، فيما ناشد المزارعون تعويضهم عن خسائرهم.

0:00
  • حرائق مفتعلة تدمّر رئة سوريا.. مزارعو ريف اللاذقية يخسرون أرزاقهم وإرث أجدادهم
    حرائق مفتعلة تدمّر رئة سوريا.. مزارعو ريف اللاذقية يخسرون أرزاقهم وإرث أجدادهم

جاثياً على ركبتيه، والدموع تملأ عينيه، وملامح العجز باديةٌ عليه؛ هكذا كان يراقب المزارع فارس صالح أشجار الزيتون ضمن أرضه بريف اللاذقية، وهي تحترق أمامه بدون قدرةٍ منه على مواجهة النيران المشتعلة أو إخمادها.

حاول صالح (62 عاماً) مع أبنائه في البداية إخماد الحرائق بالوسائل التقليدية البسيطة، لكن سرعة انتشار النيران وحجمها كان أكبر من قدرتهم، فما كان منهم إلى مغادرة الأرض سريعاً ومشاهدة احتراقها من بعيد.

يقول صالح للميادين نت: "لم تكن النيران تحرق الأرض، بل كانت تحرق قلبي، والأقسى من ذلك كان عجزي عن فعل أيّ شيء لإخمادها. لقد تحوّلت أشجار الزيتون إلى رماد. لقد تحوّل إرث أبي وأجدادي إلى رماد".

ويضيف: "اليوم، خسرت مصدر رزقي وإرث أجدادي، ولا يمكن لأحد تعويضي عن ذلك، فالأشجار التي احترقت يتجاوز عمرها المئة عام. تحوّلت إلى رماد ولا يمكن الاستفادة منها مجدداً، فمن يمكنه تعويضي عن ذلك؟".

حال المزارع فارس صالح كحال المئات من مزارعي ريف اللاذقية في الساحل السوري، الذين كانت أراضيهم هدفاً للنيران التي اجتاحت الساحل منذ أيام، وتحوّلت لاحقاً إلى كارثة بيئية غير مسبوقة.

فصيل "أنصار السنة" يتبنى

بينما كانت النيران تلتهم الأراضي الزراعية والحراجية وتقترب من منازل المدنيين في الساحل السوري، أعلن فصيل "أنصار السنة" المنشق عن "هيئة تحرير الشام" تبنيه لإشعال الحرائق في ريف اللاذقية.

وأقرّ التنظيم عبر بيان نشرته مؤسسته الإعلامية "دابق" بمسؤوليته عن حريق "قسطل معاف"، الذي يعدّ الأخطر والأكبر بين أكثر من عشرين بؤرة اشتعال متزامنة، وقال التنظيم إن العملية تهدف إلى "تطهير منطقة الساحل السوري من العلويين".

ويعيد التنظيم نشر فتوى لمفتيه "أبو الفتح الشامي"، صدرت في نيسان/أبريل 2025، تبيح تخريب ممتلكات ما أسموهم بـ"المشركين" ويحرّض على قتل "الأقليّات"، مما يعزز المخاوف من تصاعد العنف الطائفي.

"إنها ليست المرة الأولى التي تكون فيها جبال الساحل هدفاً للنيران المتعمّدة"، بهذه الكلمات عبّر المزارع أبو خالد –اسم مستعار- عن غضبه لتعرّض أرضه للاحتراق بشكل شبه كامل، حيث أكد أنها المرة الثانية التي تتعرض فيها جبال الساحل للإحراق عمداً خلال أشهر.

يقول أبو خالد للميادين نت: "في آذار/مارس الماضي وبينما كانت الفصائل المسلحة المتطرفة تشن حملة دموية ضد المدنيين في الساحل السوري، أقدم بعض العناصر على إحراق الأراضي بشكل متعمّد أمام أنظار الجميع بدون أيّ رادع، وبرغم تقديم هذه المعلومات للجهات المعنية إلا أن من تسبب بتلك الجريمة بقي حرّاً طليقاً، لذلك نحن نطلب اليوم محاسبة المتورط بهذه الكارثة أيّاً كان انتماؤه وأيّاً كانت هويته، فأرضنا أغلى من أيّ شيء آخر".

تضامن دولي وخسائر لا تُعوَّض

في الثالث من تموز/يوليو الجاري، اندلعت حرائق متفرقة في جبال ريف اللاذقية على الساحل السوري، شملت مناطق عديدة مثل: جبل التركمان وبيت القصير وزغرين وغيرها، ولاحقاً امتدت النيران إلى جبال "البدروسية"، قبل أن تصل الحرائق إلى غابات "الفرنلق" التي تعتبر أكبر محمية طبيعية في البلاد، وتوصف بأنها "رئة سوريا".

الطبيعة الجغرافية الجبلية أدّت إلى تسارع انتشار النيران والتهامها لآلاف الهكتارات من الأراضي الحراجية والزراعية، مدمّرةً محاصيل الزيتون والحمضيات والتبغ، ومتسببة بنزوح مئات العائلات من منازلها.

وزارة الطوارئ السورية استنفرت لمكافحة الحرائق، حيث شارك نحو 80 فريقاً ميدانياً سورياً مدعوماً بـ180 آلية و6 مروحيات في عمليات الإخماد، كما تم استئجار معدات ثقيلة لمحاصرة خطوط النيران.

العجز عن إيقاف انتشار النيران دفع الحكومة السورية لطلب المساعدة من دول الجوار، حيث أرسلت كل من تركيا ولبنان والأردن مجموعات تضم مروحيات وآليات وافراد لدعم الجهود السورية في إخماد الحرائق، ولاحقاً طلبت دمشق رسمياً مساعدة الاتحاد الأوروبي لإخماد الحرائق. 

وفي التاسع من تموز، أعلن الدفاع المدني السوري إحراز بعض التقدم في مكافحة الحرائق، بعد تقليص عدد البؤر المشتعلة وتبريدها، مع استكمال العمل على باقي البؤر لإخمادها ومنع امتدادها إلى مساحات خضراء جديدة، حيث عمل الدفاع المدني إلى تقسيم مواقع الحرائق إلى قطاعات، وفتح طرقات جديدة لمواجهة النيران ومنع انتشارها.

وتؤكد تقديرات الأمم المتحدة أن النيران التهمت 100 كيلومتر مربع من الأراضي الحراجية والزراعية في ريف اللاذقية وحوّلتها إلى رماد، بمساحة تشكّل نحو 3% من إجمالي الغطاء الحراجي في سوريا، إضافة إلى نفوق قطعان من الماشية واحتراق مساحات واسعة من أراضي الزيتون والحمضيات.

كما كشفت تقديرات الأمم المتحدة عن تضرر أكثر من 5000 شخص ونزوح نحو 1200 من قرى بيت عيوش والمزرعة والصبورة والبسيط، مع توقف محطة كهرباء "البسيط "عن العمل بسبب آثار الحريق في خطوط الجهد المتوسط، مما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي وانقطاع ضخ المياه.

الخبير الزراعي سامح الأحمد أكد للميادين نت أن حجم الخسائر لا يمكن حصره في الوقت الحالي مع استمرار انتشار النيران واحتمال وصولها إلى مناطق جديدة، لكن ما يمكن تأكيده أن الخسائر تقدّر بالمليارات، فالحرائق أتت على الأراضي الزراعية والحراجية والثروة الحيوانية.

ويشير الأحمد إلى أن احتراق أشجار الزيتون يُعتبر خسارة اقتصادية وبيئية كبيرة، لأن أشجار الزيتون المحترقة لا يمكنها الإنتاج وتفقد قيمتها كأشجار مثمرة، وقد تحتاج إلى سنوات طويلة لإعادة زراعتها واستعادة إنتاجها، إضافة إلى أن الحرائق ستؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي وتدمير الغطاء النباتي، مما يقلل قدرة التربة على الاحتفاظ بالماء والتوازن البيئي، وهذا الأمر سيكون كارثياً على الواقع الزراعي في سوريا.

وبعيداً عن الأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة في الساحل السوري، فإن الحكومة السورية مطالبة اليوم بتعويض المزارعين ووضع خطة عاجلة لإعادة تأهيل ما يمكن تأهيله من الأراضي الزراعية التي تشكّل رئة سوريا الزراعية، والعمل على الحد من تكرار الحرائق بنفس الطريقة التي حصلت مؤخراً.

اخترنا لك