شرق الفرات على حافة الحرب.. نزوح متواصل وكارثة زراعية وشيكة

تتصاعد المخاوف في شرق الفرات مع اقتراب مواجهة عسكرية جديدة بين "قسد" ودمشق، ما دفع آلاف العائلات إلى النزوح المبكر وسط أوضاع معيشية مأزومة. وبين نيران الحرب وجفاف الأرض، تواجه "الجزيرة السورية" خطر كارثة زراعية تهدد الأمن الغذائي للبلاد.

0:00
  • شرق الفرات على حافة الحرب.. نزوح متواصل وكارثة زراعية وشيكة
    شرق الفرات على حافة الحرب.. نزوح متواصل وكارثة زراعية وشيكة

تأبى الحرب السورية إسدال الستار على مشهدها الأخير، قبل أن ترمي بحملها الثقيل على كل بقعة جغرافية، صغيرة كانت أم كبيرة في هذا الوطن، لتذيق السوريين من كأسها المرّ، الممزوج برائحة الموت، وغبار النزوح، ولوعة الفقد، وها هي اليوم تقرع أبواب شرق الفرات، وسط حالة من الخوف والترقب بين المدنيين. 

رياح الحرب تهبّ منذ أسابيع نحو الشرق السوري، في ظل تصاعد التوتر السياسي والعسكري بين قوات سوريا الديمقراطية – "قسد"، والإدارة السياسية الانتقالية في دمشق، بعد فشل ترجمة الاتفاق الذي تم التوصل إليه في آذار/مارس الماضي بين الطرفين إلى خطوات عملية، وهو ما ينذر بتصاعد المواجهة وتحوّلها إلى صدام عسكري مباشر في قادم الأيام، خصوصاً مع استمرار التحشيد العسكري المتبادل على امتداد خطوط المواجهة. 

أمام هذا الواقع العسكري المتأزم، فضّل المئات من أبناء المنطقة الشرقية النزوح مبكراً، وخوض رحلة الهجرة الداخلية باتجاه المحافظات الأكثر أماناً، خاصّة أن "رياح الحرب" تترافق مع وضع معيشي مزرٍ تعيشه محافظات الرقة والحسكة ودير الزور منذ سنوات، وتفاقمت الأزمة خلال الأشهر الماضية في ظل الجفاف الذي ضرب الأراضي الزراعية.

رحلة إلى المجهول

في محطة انطلاق الحافلات بريف الحسكة شمال شرق سوريا، يقف عمار الضويحان (58 عاماً) مع عائلته ليُلقون نظرة الوداع على مدينتهم، قبل بدء رحلة "النزوح نحو المجهول".

الضويحان، وجد نفسه أمام خيار لا يُحسد عليه، فالأرض التي ورثها عن آبائه تحوّلت إلى عبء بدل أن تكون مصدر رزق، نتيجة وقوعها على خط الاشتباك بين قوات "قسد" وفصائل "الجيش الوطني" التابع لوزارة الدفاع السورية في ريف الحسكة الشمالي، فما كان من الرجل إلا أن حزم حقائبه وقرر الرحيل مع عائلته نحو العاصمة دمشق، علّه يجد فرصة عمل تؤمن له حياة كريمة.

يعتبر الضويحان نفسه "فلاح أباً عن جد"، أيّ أنه ورث المهنة عن أبيه وأجداده، كما أنه متعلق بالأرض إلى درجة الجنون، لكن الخوف على عائلته دفعه لاتخاذ قرار لم يتوقعه في أسوأ كوابيسه.

التوتر العسكري المستمر منذ أسابيع منع الضويحان من التوجه إلى أرضه، إضافة إلى حصوله على تحذيرات بإخلاء المنطقة سريعاً؛ يقول للميادين نت: "نصحني بعض الأقارب بالتوجه إلى دمشق لفترة من الزمن للابتعاد عن خطر المعارك، لكن المشكلة أني لا أعرف العمل إلا بالأرض والزراعة، لذلك ربما لن أبقى هناك طويلاً، وقد أتوجه إلى الساحل للعمل بزراعة البيوت البلاستيكية".

لا تخيف الفلاح السوري فكرة الغوص في المجهول، بقدر ما يؤرقه موعد العودة إلى الأرض مجدداً، وهو الذي دخلها لأول مرة بعمر الثماني سنوات؛ وحول ذلك يقول: "لا أعتقد أن الرحلة ستطول كثيراً، لأن ما دفعني للقيام بها هو الخوف على حياة عائلتي فقط، وبمجرد أن ينتهي الخطر سأعود على الفور".

عمار الضويحان كان واحداً من بين آلاف المدنيين الذين غصّت بهم حافلات النقل في محطات شمال شرق سوريا خلال الأيام الماضية، أثناء نزوحهم "المبكر" عن المنطقة خوفاً من تكرار مشاهد الحرب.

نيران الحرب وجفاف الأرض

الأنباء عن قرب اندلاع الحرب في مناطق شرق الفرات، أدت إلى حدوث فوضى كبيرة في الأسواق، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية بشكل جنوني، إلى جانب ارتفاع تكلفة المواد الأولية اللازمة للزراعة، وهو ما أدى إلى سخط شعبي كبير داخل المنطقة التي يعمل معظم أهلها بالزراعة.

وجاء الارتفاع في وقت تواجه فيه سوريا عامةً، والمنطقة الشرقية خاصّةً موجة جفاف غير مسبوقة، ما أدى إلى خروج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية عن الخدمة، فانعدام الأمطار تسبب بانقطاع تغذية مخازن المياه الجوفية اللازمة لعمليات الريّ، بالتوازي مع ارتفاع أسعار البذور وتكلفة أجور الحراثة، بمقابل انخفاض أسعار المحصول بشكلٍ لا يغطي تكاليف الإنتاج، وكل ذلك تسبب بخسائر مضاعفة للفلاحين.

الخبير الزراعي خالد الأحمد يؤكد للميادين نت أن الهجرة التي تشهدها منطقة "الجزيرة السورية" سيكون لها تأثير كبير على الواقع الزراعي في البلاد، لأن هذه المنطقة تعتبر سلّة سوريا الغذائية، وتشكّل مصدراً رئيسياً للأمن الغذائي بما فيها من محاصيل زراعية استراتيجية أبرزها: القمح والشعير.

ويضيف الخبير الزراعي أن منطقة الجزيرة "الحسكة – الرقة – دير الزور" تواجه اليوم مشكلتين أساسيتين، الأولى هي التغير المناخي وحالة الجفاف التي ضربت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، أما المشكلة الثانية فهي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في المنطقة، والتي أدت إلى عزوف عدد من الفلاحين عن أراضيهم والاتجاه لمهن أخرى.

ويتابع الأحمد: "جاء شبح الحرب ليزيد الطين بلّة، وتسبب بنزوح عدد كبير من الفلاحين إلى خارج الجزيرة السورية، وهذا الأمر يعتبر كارثة زراعية بكل ما للكلمة من معنى، مما يفرض على الأطراف المتنازعة ضرورة تحييد الثروة الزراعية عن أيّ صراع محتمل، وتوفير الحماية للفلاحين والأهالي لكي يحافظوا على أراضيهم".

ولا تقتصر معاناة المدنيين في الجزيرة السورية على الأزمة الزراعية وتبِعات الحرب، فالمنطقة تشهد انعداماً في مقومات الحياة الأساسية، مثل: الكهرباء، والماء، والصحة، والتعليم، والأمان، في ظل ارتفاع معدلات الجريمة على نطاق واسع، وعجز قوات سوريا الديمقراطية في وضع حد لانتشارها.

وفي ظل المعطيات الحالية شمال شرق سوريا، يبدو أن المنطقة تعيش أجواء الحرب برغم عدم اندلاعها حتى الآن، في حين تشكّل هجرة الفلاحيين لأراضيهم كارثة زراعية تحتاج إلى حلول إسعافية عاجلة، وهذا ما يفرض على "قسد" وحكومة دمشق ضرورة إبعاد الثروة الزراعية عن أيّ صراع عسكري محتمل، وإيجاد حلول بديلة تتيح دعم الفلاحين والحفاظ على وجودهم.

اخترنا لك