صفقات "كسر القيد": ترميم حاضنة المقاومة الشعبية وإحياؤها
تجربة الأسر لم تقتصر على الرجال فقط، بل خاضتها النسوة والأطفال والمرضى، وأصبحت جزءًا من نسيج المجتمع الفلسطيني، لا يمر يومٌ من دون الإشارة لعمليات اعتقالٍ من قبل الاحتلال، أو فرحة إفراج، أو غصة أمٍ تشتاق لابنها.
-
صفقات "كسر القيد": ترميم حاضنة المقاومة الشعبية وإحياؤها
لا يمكن لفلسطيني ولا لعربي أن يتجاهل الأثر الذي تحدثه تجربة الأسر في سجون الاحتلال على الأسير نفسه، واتساع هذا الأثر ليصل مداه إلى عائلته فمجتمعه، لا سيما وأن تجربة الاعتقال ذاتها لامست منذ عام 1967 أكثر من مليون فلسطيني، 11 ألفًا منهم في العام الأخير.
هذه التجربة التي لم تقتصر على الرجال فقط، بل خاضتها النسوة والأطفال والمرضى، وأصبحت جزءًا من نسيج المجتمع الفلسطيني، لا يمر يومٌ من دون الإشارة لعمليات اعتقالٍ من قبل الاحتلال، أو فرحة إفراج، أو غصة أمٍ تشتاق لابنها، أو طفلٍ لا تحتفظ ذاكرته بصورة واضحةٍ لملامح والده، ولا تخلو عائلةٌ من أسيرٍ محرر، أو أسيرٍ ينتظر الحرية.
ونتيجة هذه التأثيرات تكاثرت الدراسات والكُتب وما فيها من إشارات أدبية أو سياسية أو اجتماعية لما يتعلق بالأسر والحرية والتداعيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها لهذه المرحلة، على مستوى الأسير وشخصيته ونفسيته، وعلى مستوى عائلته وقدرتها على التكيف مع عودته وقدرته على التكيف مع مدى أرحب من الزنزانة وأحب من القيد، وعلى مستوى مجتمعه الذي يرى فيه مولودًا جديدًا خرج من عتمة الأسر إلى رحاب الحرية، وحتى على مستوى مستقبل الشعب الفلسطيني نفسه.
لكن صفقات التبادل، أو صفقات كسر القيد، والتي تقوم بها المقاومة الفلسطينية بإجبار المحتل على الإفراج عن أبنائها، تؤثر بدرجةٍ كبيرة في التداعيات المختلفة لمرحلة الخروج من عنق الأسر وضيقه، على كلٍ من الأسير وعائلته ومجتمعه، لا سيما وأنها بالدرجة الأولى تحقق له انتصارًا شخصيًا على سجانه، فيما تعيده لعائلته محملًا على أكتاف المحبين، الذين يرون فيه إنجازًا باتجاهين؛ أولهما "قهر السجان"، وثانيهما نصر المقاومة.
الحاضنة الشعبية: الثقة بالمقاومة ثم إسنادها
في صفقة كسر القيد الأخيرة، التي نفذتها وتنفذها المقاومة الفلسطينية تعاظمت التأثيرات الاجتماعية والنفسية للأسرى المحررين على مجتمعهم، بل وأصبحت آنية بالنظر إلى طريقة استقبالهم، وتصدرهم لمجريات الأحداث في الشارع الفلسطيني، وانعكاس طريقة التبادل ومن ثم الاستقبال على الجمهور الإسرائيلي، الذي يرى في السجن مدى الحياة وما يرافقه من إذلال وإهانة، أكبر ما قد يُعاقب به الفلسطيني وتوقه للحرية، وأكثر ما يحجر بينه وبين الشهادة، وفق مبدأ "تمنّي الموت بدون الوصول إليه".
أبرز التأثيرات الاجتماعية، كانت تعزيز ثقة المجتمع الفلسطيني بالمقاومة ودفع الروح في حاضنتها، وهو ما تجلى سابقًا في صفقة وفاء الأحرار بمرحلتها الأولى، والتي خرجت فيها 20 أسيرة من المعتقل باستثناء الأسيرة أحلام التميمي والتي تعهدت المنظومة الأمنية الإسرائيلية بعدم الإفراج عنها، بينما تعهدت المقاومة وعلى رأسها الشهيد أحمد الجعبري بعدم تسليم شاليط حتى الإفراج عن أحلام وخمسة آخرين من أبرز المقاومين، وهو ما تحقق ليعزز من قيمة المقاومة وقوتها ودورها في استعادة أبنائها وتحقيق وعودها.
ويتكرر تعزيز الثقة اليوم، فبعد 471 يومًا من الإبادة استغلتها الأبواق المغرضة للهمز بالمقاومة باعتبارها خسرت طوفانها، أعادت صفقة كسر القيد الأخيرة ونمط التسليم، ثقة الجمهور الفلسطيني بوعود المقاومة، وعزمها على تقديم التضحيات حتى الفناء من أجل تحقيق أهدافها في تحرير أسراها، وهو ما أسهم في ترميم الحاضنة التي كادت تتداعى تحت وطأة الإبادة والتنسيق الأمني، ورفع الروح المعنوية للفلسطينيين ووسّع من نطاق الفرح والاحتفاء.
من بين التأثيرات أيضًا، حالة الوحدة التي انطلقت من مساعي المقاومة لإطلاق سراح أسرى من مختلف الفصائل والأحزاب الفلسطينية، وهو ما انعكس على روح الشارع الذي هبت جميع أطيافه لاستقبال الأسرى، وأضحت كل والدةٍ أمًا لكل أسيرٍ محرر، وغدا الاحتفاء بالحرية نمطًا يتجاوز الانقسام الذي أسهم في تشظي المجتمع الفلسطيني وتفكيك عائلاته ومكوناته.
في التأثيرات الاجتماعية، هُناك روح المساندة التي تتنافس فيها الفئات الاجتماعية المختلفة، من الأقارب فالتجار فالموظفين الحكوميين، لدفع الأسير لتجاوز مرحلة اعتقاله بأسرع وقتٍ ممكن والاندماج في النسيج الاجتماعي والاقتصادي ووصل ما انقطع من حياته بسرعة، وهو أثرٌ مرتبطٌ بجميع حالات التحرر لكنه أوضح فيما يتعلق بصفقات كسر القيد لشموليتها وجمعيتها لعددٍ كبيرٍ من الأسرى المحررين، ذوي الأحكام العالية، أو الأشبال أو الأسيرات، ممن يستوجب وضعهم مساندةً سريعةً وعالية المستوى.
وتكمن أهمية هذا التأثير بأبعاده النفسية على الأسير الذي يجد الحياة قد مضت سريعًا في غيابه، فقد كبر الأبناء وربما تزوجوا، وارتحل الآباء وأخذت الحياة بمشاغلها أطراف العائلة بعيدًا عنه، ولمقاومة هذا البُعد النفسي لجأت الفصائل والأحزاب الفلسطينية لتأسيس برامج إدماج سريعة للأسرى اعتُمدت خلال فترة التسعينيات، تقوم على تأهيل الأسير أكاديميًا واقتصاديًا واجتماعيًا، والتي أفرزت انخراطًا سريعًا في سوق العمل والإنتاج، وقدرةً على تصدر المشهد الاجتماعي كرجال إصلاح وحكماء، وتصدّر المشهد السياسي كقادة أحزابٍ ومقاومين.
أما اليوم فمع الهجمة المتواصلة التي تطال الكل الفلسطيني، المقاوم واللاجئ والأسير، ومع تصاعد "التنسيق" بين المنظومة الفلسطينية الرسمية والاحتلال لتغييب أي عناصر تؤثر في بقاء كليهما، أضحى عبء دمج الأسير على عائلته ومحيطه الاجتماعي فقط، وارتبط بقدرته ورغبته في الخروج من قوقعة الأسر إلى واقع الحياة، بينما تقلّص الدعم الحكومي للهيئات المعبرة عنه، والمراكز والمؤسسات القائمة على خدمته، لا سيما في ازدياد الاعتماد على التمويل الدولي والمؤسسات الأهلية وغير الحكومية، والتي يضع مموّلوها شرط "عدم الاعتقال لدى الاحتلال سابقًا"، للموافقة على التوظيف أو التعاون الخدماتي.
في ميزان المساندة، هُناك الإسناد نفسه، الذي تقدمه الحاضنة الاجتماعية للمقاومة كعرفانٍ لجميلها، فيزداد الالتفاف حولها في مختلف أنواع الأزمات، حتى الاقتصادية والاجتماعية منها، ويغدو رجالاتها ورؤيتها بوصلةً تُحدد طبيعة الإسناد، لا سيما مع ما تقدمه من وافر الأمل لبقية عائلات الأسرى، ما يعزز من فكرة "عمره باب السجن ما سكر على حد"، في مقابل فكرة الاحتلال التي يسعى لتعميمها عمليًا ونفسيًا في قلوب الأسرى وعائلاتهم حول "التعفن في السجن".
كسر هناك وترميمٌ هنا
من أكثر ما يتم تداوله عن الزعيم الروحي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، الشيخ الشهيد أحمد ياسين قوله: "بدنا أولادنا يروحوا غصبن عنهم"، هذا القول الذي استخدمه الشيخ لفظ "أولادنا" بدلًا من مقاومينا أو أسرانا، يعكس طبيعة العلاقة المؤسسة لما قبل الأسر وما بعده بالنسبة لحركات المقاومة.
وهو أيضًا يُعبر عن السبب الذي لأجله استطالت مفاوضات صفقة شاليط لخمس سنوات، وتتطاول مفاوضات الصفقات الحالية بعد حصيلةٍ تزيد عن 47 ألف شهيدٍ فلسطيني، وهو حرص المقاومة على كسر قيد عمداء الأسر والنضال ومناراته، بدءًا من مروان البرغوثي وأحمد سعدات وعبد الله البرغوثي وعباس السيد وإبراهيم حامد، وحرص الاحتلال على تحويل الأسر لنهاية لهؤلاء العمداء وغيرهم، برغم أن معظمهم جاوز منتصف العمر، ويُعاني من أمراضٍ مزمنةٍ نتيجة سوء ظروف اعتقاله وأسره.
لكن رؤية المقاومة في أهمية وجودهم خارج المعتقل، وتأثيرهم على الحاضنة الشعبية للمقاومة، التي ستجد في الأسر حينها مرحلةً لا خاتمةٍ في درب التحرير، يجعل خروجهم أحد أبرز انتصاراتها، وملمحًا لقدرتها على تحقيق إنجازات ملموسة ما يعزز مكانتها، على الجانب الآخر، هُناك المحتل بجمهوره ومجتمعه الذي لا يكفيه الأسر كعقوبة، بل يجب أن يصاحبه التنكيل، وألا يكون لباب الأسر من مفتاح، ولا للأسرى من أمل، ولا لمجتمعهم وعائلاتهم من ملتقى.
يكشف عن ذلك ردود أفعال عائلات قتلى الاحتلال على قوائم الصفقة الأولى والتي ستمتد لـ42 يومًا، وسيصاحبها خروجٌ لقيادات محورية، من بينها زكريا الزبيدي، التي تعتبر عائلات إسرائيلية مختلفة أن بينها وبينه ثأرًا شخصيًا، لم يخفف منه هدم منزله أو قتل ابنه، بل إن جزءًا من هذا الثأر تضاعف مع محاولة استنطاقه للحرية عبر نفق سجن الجلبوع، ولحظة العثور عليه والتي خالطها إحساسٌ إسرائيلي متجدد بالحاجة إلى الانتقام، لا بقتله فيستشهد ولكن بالتنكيل به مجددًا حتى يفقد الأمل وتذوي روحه.
في ردود الأفعال نفسها، هُناك فزع العائلات الإسرائيلية التي أرادت للمقاومين أقسى الأحكام على أعمالهم الفدائية، فجاءت المقاومة لتمنحهم صك الحرية، وهو ما أفقدهم الثقة بحكومتهم ومنظومتهم السياسية التي لا تستطيع أن تتجاوز الموت حدًا أعلى لانتقامها من الفلسطينيين، فتبتدع حلولًا أخرى مثل التهجير وسحب الجنسية من المقدسيين وهدم منزل العائلة ومنازل من آوى ونصر المقاومين وحماهم.
في ملامح الكسر ذاته في المجتمع الإسرائيلي، هُناك دائرة المقاومة التي تتجدد بالصفقات ولا يمكن إيقافها، يُطلق المحتل على هذه الدائرة مسمى "الإفراج عن الأسرى الملطخة أيديهم بدماء إسرائيليين"، وهي جزء من هواجس هذا المجتمع ومخاوفه الذي شهد طوفانًا أطلقه أحد الأسرى المحررين من صفقة شاليط 2011 وهو الشهيد يحيى السنوار، وساهم في تكثيفه عددٌ كبيرٌ من الأسرى المحررين في الضفة والخارج، وهو ما يعني بالنسبة للجمهور الإسرائيلي أن "مواطنين آخرين سيدفعون لاحقًا ثمن الصفقة الحالية".
هذا الفزع، وتلك الحلول، هي جزء من مشهد إعادة إحياء الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية وترميمها، فما لا يدركه المحتل أن الأسر مدرسة المقاومة، ولذلك فإن نسبة كبيرة من أسرى ينغمسون في العمل المقاوم مجددًا، بعضهم يُتاح له شرف الشهادة، وآخرون يعودون لمدرسة المقاومة والمعتقل مرةً أخرى.
ففي صفقة التبادل الأخيرة التي أفرج فيها الاحتلال عن 240 أسيرًا فلسطينيًا، من بينهم 69 امرأة و 21 طفل، أُعيد اعتقال 47 منهم نتيجة عملهم المقاوم، فيها استشهد 12 منهم نتيجة انغماسهم في عمليات مقاومة استهدفت قوات الاحتلال، هذه الأرقام لا تقتصر على صفقةٍ أو مرحلةٍ بعينها، بل تصبغ الأبعاد الاجتماعية والسياسية للحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية.
إلى درجة أن معظم قادة العمل المقاوم في الضفة الغربية اليوم هم أسرى محررون، بتنوع فصائلهم ما بين حماس والجهاد والجبهتين وفتح، ومعظم شهداء الضفة الغربية ممن ارتقوا خلال عمليات اشتباكٍ وتصدٍ أو تصيدٍ للاحتلال هم أسرى محررون، صقل السجن تجاربهم في التصنيع والاشتباك والمطاردة، وحتى في مواجهة المحقق والتغلب عليه بدون اعترافٍ أو تنازل.
بالمحصلة، فمن السابق لأوانه رسم ملامح التأثيرات الاجتماعية أو شكل الحاضنة الشعبية للمقاومة في ضوء صفقة كسر القيد الحالية، لا سيما وأن الصفقة لم تنتهِ بعد، كما أن الحرب لم تنطفئ بشكلٍ رسمي، فيما تشتعل الضفة لهيبًا في مواجهة حملة عسكرية جديدة تستبق بها منظومة الاحتلال الاسرى المحررين بمزيدٍ من قمع مجتمعهم، إلا أن الواضح والأكيد أن الترميم قد بدأ، والزخم قد انطلق، وأنها مسألة وقتٍ فقط حتى يترك الأسرى المحررون بصمتهم ظاهرةً في عمق المجتمع الفلسطيني ومكوناته.