عجز العمالة الماهرة يهدد تنافسية أوروبا.. ما الأفق؟

الهوّة بين ما تقدّمه نظم التعليم والتدريب في أوروبا، وما تحتاجه الأسواق، تزداد اتساعًا، وهو ما يجعل أزمة المهارات لا تُختزل في نقص يدٍ عاملة فحسب، بل تتحول إلى فجوة معرفية وتقنية تهدد ديناميات النمو والابتكار.

0:00
  • عجز العمالة الماهرة يهدد تنافسية أوروبا.. ما الأفق؟
    عجز العمالة الماهرة يهدد تنافسية أوروبا.. ما الأفق؟

تُواجه أوروبا تحديًا استراتيجيًا لا يقلّ خطورة عن الأزمات الاقتصادية أو التحولات الجيوسياسية: نقص حاد ومتفاقم في العمالة الماهرة، الذي يضرب مفاصل أساسية من اقتصاداتها ويقوّض قدرتها التنافسية على المسرح العالمي.

فمع مطلع العقد الثالث من الألفية، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه محاصرًا بين ضغوط ديموغرافية متسارعة، وتغيرات تقنية مزلزلة، وتحوّلات هيكلية في سوق العمل، ما يفرض عليه إعادة ابتكار سياساته الاقتصادية والتعليمية والعُمّالية من الجذور.

وتشير التقديرات الصادرة عن المفوضية الأوروبية إلى وجود نقص واضح في المهارات في 42 مهنة مختلفة عبر دول الاتحاد، تشمل قطاعات حيوية مثل البناء، والنقل، والرعاية الصحية، والأنشطة التقنية الدقيقة. وقد أكدت روكسانا مينزاتو، نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية لشؤون الحقوق الاجتماعية والتوظيف والمهارات، في مداخلة لها قبل أسبوعين أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، أنّ "أربع شركات من أصل خمس تواجه صعوبة في العثور على العمالة المؤهلة". وتضيف أنّ "هذا العجز ليس عابرًا، بل يعكس اختلالًا بنيويًا بين معروض المهارات في سوق العمل وطلب الاقتصاد الحديث".

الهوّة بين ما تقدّمه نظم التعليم والتدريب، وما تحتاجه الأسواق، تزداد اتساعًا، وهو ما يجعل أزمة المهارات لا تُختزل في نقص يدٍ عاملة فحسب، بل تتحول إلى فجوة معرفية وتقنية تهدد ديناميات النمو والابتكار.

جذور الأزمة: ثلاثية ديموغرافية - رقمية - اقتصادية

يُجمع الخبراء على أنّ أزمة العمالة الماهرة في أوروبا ناتجة عن تفاعل ثلاث مسارات مركزية:

- التراجع الديموغرافي: أوروبا تخسر سنويًا نحو مليون عامل بسبب الشيخوخة وتراجع معدلات الإنجاب، وهي ظاهرة من المرجّح أن تستمر حتى منتصف القرن. ويقوّض هذا النزف السكاني قاعدة الهرم المهني ويضع عبئًا مضاعفًا على الأجيال الشابة.

- التحوّل الرقمي والتكنولوجي: تفرض الثورة الصناعية الرابعة - بما تحمله من صعود الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والأنظمة الذكية - متطلبات جديدة من حيث نوعية المهارات. فالمهن التي كانت بالأمس مطلوبة، قد تصبح اليوم زائدة عن الحاجة، في حين تنبثق مهن جديدة لم تتبلور بعد في المناهج الدراسية أو برامج التدريب المهني. 

- الطلب الاقتصادي المتسارع: برامج التحفيز الاقتصادي الأوروبية، وخطط إعادة الإعمار بعد الجائحة، والاستثمارات في البنى التحتية والدفاع، كما في خطة "إعادة التسلح الأوروبي" بميزانية قدرها 800 مليار يورو، كلّها تولّد طلبًا هائلًا على مهارات متخصصة لا تتوفر حاليًا بالقدر الكافي. وهو ما يعيد طرح إشكالية جاهزية النظام التعليمي الأوروبي لمواكبة النمو المتسارع في الطلب على المهارات.

فما هي خطة بروكسل لمواجهة هذا النقص الفادح؟

أمام تعقيد المعضلة، أطلقت المفوضية الأوروبية في آذار/مارس 2025 مبادرة جديدة تحت عنوان "اتحاد المهارات" (Skills Union)، وهي تُمثّل خارطة طريق طموحة تهدف إلى معالجة جذور المشكلة، لا مجرد تخفيف أعراضها. وتستند المبادرة إلى أربعة ركائز استراتيجية:

- الاستثمار في التعليم والتدريب المهني: من خلال ضخّ تمويلات مستدامة لتحديث المناهج، وربطها مباشرة باحتياجات السوق. فالأولوية لم تعد فقط للمعرفة النظرية، بل للمهارات التطبيقية.

- تعزيز إعادة التأهيل المهني (reskilling) والتأهيل المستمر (upskilling): أي تمكين العاملين من اكتساب مهارات جديدة تواكب تطورات السوق، خصوصًا أولئك المُعرّضين لفقدان وظائفهم نتيجة التحولات الرقمية أو التغيرات البيئية.

- تشجيع تنقل الطلاب والعمال داخل دول الاتحاد الأوروبي، بما يسهم في سد الفجوات الإقليمية، وتحقيق توزيع أفضل للمهارات حيثما دعت الحاجة.

- جعل أوروبا أكثر جذبًا للمهارات من خارجها: عبر تيسير تأشيرات الدراسة والعمل، وتوسيع برامج التبادل مثل "إيراسموس+"، وطرح مبادرات رائدة مثل مشروع "اختر أوروبا" (Choose Europe)، الذي يستهدف استقطاب الكفاءات من الدول الثالثة، لا سيما الباحثين والمهنيين من جنوب العالم. 

وتوضح روكسانا مينزاتو أنّ المفوضية تخطط لإطلاق ما سمّته "ضمانات المهارات"، وهي آلية مرنة تساعد الشركات في تدريب أو توظيف الأشخاص الذين يواجهون خطر البطالة، بما يعيد إدماجهم ضمن النسيج المهني الأوروبي بطريقة منتجة ومستدامة.

السباق العالمي على المهارات

لكن التحدي الأوروبي لا ينحصر في الداخل فحسب، بل يمتد إلى حلبة دولية شديدة التنافسية. فالدول العربية، كما تحذّر تقارير عدة، باتت تقدم حوافز مالية كبيرة لجذب أصحاب المهارات النادرة، من مُهندسين وأطبّاء وخبراء تقنيين، خاصة في دول الخليج. وكذلك تفعل الصين والهند، حيث يتم بناء اقتصادات معرفية ضخمة مدعومة بمواهب محلية ومستوردة.

في هذا السياق، يُطرح سؤال جوهري: هل ما تزال أوروبا مغرية بما يكفي لاستقطاب أفضل العقول؟ وهل سيكفي تعديل السياسات وحده، أم أن المطلوب هو إعادة صياغة سردية أوروبا كفضاء مهني وثقافي جذاب للجيل العالمي الجديد من العاملين؟

ويرى مراقبون أن النجاح في تجاوز هذه الأزمة يتطلب قفزة نوعية في فلسفة الهجرة الأوروبية. فبدلًا من رؤية المهاجرين كعبء، يجب اعتبارهم جزءًا من الحل، وبناء سياسات انتقائية ذكية تستهدف المهارات المطلوبة. كما أن التحدي لا يقتصر على الاستقطاب، بل يشمل أيضًا الاندماج والاستبقاء، أي خلق بيئة عمل وتشريعات تحفظ للمهاجرين كرامتهم، وتوفر لهم فرص النمو المهني والمعيشي داخل المجتمعات الأوروبية.

في الوقت ذاته، تبرز الحاجة إلى أن يستثمر الاتحاد الأوروبي في إعادة الاعتبار للتعليم المهني والتقني، وهو القطاع الذي تراجع كثيرًا في العقود الماضية لمصلحة التعليم الجامعي الأكاديمي، ما أدى إلى فجوة ملموسة بين احتياجات السوق الفعلية ومخرجات النظام التعليمي.

كما يُعد القطاع الخاص شريكًا أساسيًا في هذه المعادلة، سواء عبر دعم برامج التدريب، أو فتح أبواب التوظيف المباشر للمتخرجين الجدد، أو عبر ابتكار مسارات مهنية مرنة تتيح تنقل المهارات وتحديثها باستمرار.

ماذا في الأفق؟

المشهد الراهن يضع الاتحاد الأوروبي أمام مفترق طرق حاسم. فإما أن يتحرك بفعالية لتكوين بيئة قادرة على جذب، وتطوير، واستبقاء المواهب، وإما أن يفقد موقعه التنافسي أمام اقتصادات ناشئة تتحرك بسرعة وحيوية. فالتاريخ لا يرحم المجتمعات التي تفشل في استشراف مستقبلها المهني، ولا يستبقي في مقدمة السباق سوى من يُتقن إدارة الموارد البشرية بوصفها الثروة الحقيقية لعصر ما بعد الصناعة.

ثم إن أزمة المهارات لا تنفصل عن سؤال العدالة الاجتماعية. فأوروبا التي تسعى إلى تحقيق "انتقال عادل" نحو الاقتصاد الأخضر والرقمي، لا يمكنها أن تنجح من دون إشراك الجميع، وتوفير الفرص المتكافئة لإعادة التدريب والتأهيل، خاصة لأولئك المُعرّضين للإقصاء المهني. إنها لحظة إعادة تعريف: لا لمفهوم العمل فقط، بل لمكانة الإنسان فيه.

اخترنا لك