غزّيون في المنفى: قصص العالقين بين الحنين والعزلة

سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على معبر رفح في مايو 2024 حولته من بوابة غزة إلى العالم إلى رمزٍ لعزلة خانقة، حيث يعيش آلاف الفلسطينيين بين الانتظار في الغربة والحنين إلى العودة.

  • غزة على بعد بوابة.. حكايات مغتربين في انتظار العودة
    غزة على بعد بوابة.. حكايات مغتربين في انتظار العودة

معبر رفح لم يعد بوابة غزة إلى العالم، بل بوابة مغلقة على وجعها. في السابع من أيار/مايو 2024، سيطرت قوات الاحتلال الإسرائيلي على المعبر، فاختنق آخر شريان يربط القطاع بالعالم الخارجي. توقفت حركة المسافرين كلياً، وتكدست القوافل الإنسانية عند البوابة التي كانت تُعرف يوماً بطريق الحياة، فتحولت إلى رمزٍ لعزلةٍ خانقة لا ينجو منها أحد.

منذ ذلك اليوم، يعيش آلاف الفلسطينيين على جانبي المعبر بين انتظارٍ لا ينتهي وغربةٍ لا تشفى. المغتربون خارج غزة يتشبّثون بشاشاتهم، يبحثون في الأخبار عن خبرٍ يفتح الطريق إلى ديارهم، فيما يقف العالقون داخلها أمام بابٍ أُغلق بالحديد والصمت. بين الجهتين، تمتدّ الحكايات التي تجمع الخوف والحنين، وتختصر مأساة جيلٍ خرج من الحرب إلى منفى الانتظار.

المنفى المفتوح على الحنين

من القاهرة، يبدو عبد الله وشاح، الشاب الغزّي البالغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً، عالقاً بين عالمين؛ جسده في المدينة الصاخبة بالحياة، وروحه على بعد مئات الكيلومترات، خلف المعبر المغلق.

غادر القطاع في نيسان/أبريل 2024، حين تحولت رفح إلى آخر محطة للهاربين من الموت. يومها لم يحمل سوى حقيبة صغيرة وبعض الأمل الممزق، بعد أن أعلن جيش الاحتلال نيّته اقتحام المدينة. لم يكن القرار مغادرةً بقدر ما كان هروباً من الفناء.

في تلك الأيام، كانت العائلة قد تفرّقت على خارطة النار. بعضهم بقي في غزة، وآخرون لجأوا إلى المواصي، فيما ظلّت خطيبته عالقة في الشمال خلف الحواجز. وحده كان في رفح ينتظر المجهول، إلى أن اضطر إلى الرحيل نحو مصر. لم يلتفت كثيراً إلى الوراء، فالبقاء لم يعد ممكناً، والنجاة لم تعد خياراً. ومع ذلك، لم يشعر أنه غادر حقاً؛ فكل ما يملكه من مشاعر وحنين ظلّ محبوساً في الأزقة التي تركها خلفه.

في القاهرة، تتبدى المفارقة المؤلمة. الهدوء هنا خانق بطريقته الخاصة. لا أصوات قصف، لكن القلب يظلّ في حالة تأهب دائم. الخوف على الأهل لا يهدأ، وصورهم تتجدد في ذهنه كل ليلة كأنها بثّ حي لا ينقطع. يمرّ بين وجوه الغرباء في شوارع مزدحمة، يشعر وكأنه يجرّ خلفه مدينة بأكملها، مدينة لا تغيب عن ذاكرته لحظة واحدة.

كل رفاهية يلمسها في الغربة تتحول إلى عبء جديد، لأن الراحة التي لا يشاركها مع من يحبّ ليست راحة، بل قلق مؤجل. يعيش عبد الله على حافة الانتظار؛ ينتظر اتصالاً مطمئناً من عائلته، وينتظر أكثر لحظة إعلان فتح معبر رفح. بالنسبة له، تلك اللحظة ليست مجرد حدث إداري، بل عودة للحياة نفسها.

تمرّ الأيام في القاهرة ببطءٍ لاذع، وكل صباح يحمل السؤال ذاته: هل سيفتح المعبر اليوم؟ يشعر أن الزمن في الغربة لا يمضي، بل يدور في حلقة من الحنين. فغزة، بالنسبة له، ليست مجرد مكان، بل امتداد لنبضه. هناك أهله، وخطيبته، وذاكرته التي لم يفلح البعد في تبديدها.

في النهاية، لا يرى عبد الله في الغربة خلاصاً من الحرب، بل شكلاً آخر منها. لا تُسمع هنا أصوات الانفجارات، لكن القلب يبقى على الجبهة ذاتها. خلف بوابة رفح المغلقة، تختبئ مدينته وكل ما يملك من معنى، فيما يعيش هو على الجانب الآخر من الانتظار، في منفى لا ينتهي.

سلام بعيد لا يشبه الطمأنينة

من مدينةٍ تركية هادئة، يعيش محمد أبو طبق صمته الطويل، محاولاً التأقلم مع حياةٍ لا تشبهه. غادر غزة بعد أن استنفد الخوف كل ما تبقّى من طاقته على الاحتمال. في مواصي خان يونس كانت أيامه تسير بين أصوات القصف ورائحة الدخان، والسماء التي لم تعرف السكون يوماً. كل ليلة كانت امتحاناً للبقاء، وكل صباح امتداداً للرعب ذاته.

في أحد الأيام، سقطت قذيفة على مخيم قريب من مكان نزوحه. اهتزّت الأرض تحته، وتناثرت الشظايا كأنها نهاية العالم. تلك اللحظة، كما يقول، كانت كافية ليقتنع أن لا حياة يمكن أن تُعاش في مكانٍ يحاصر الموت تفاصيله. قرر الرحيل، لا بحثاً عن رفاهية، بل عن نجاة مؤقتة. في آذار/مارس 2024 خرج مع عائلته نحو مصر، ثم استقر في تركيا، حاملاً معه ذاكرة لا تهدأ.

هنا، في بلدٍ آمن، لا تنقطع الأخبار الآتية من غزة عن قلبه. يتابعها بشغفٍ موجع، يبحث في الصور المتناثرة عن شارعٍ يعرفه أو ملامحٍ تذكّره بمدينته. يعيش استقرار الجسد، لكنه لم يعرف راحة الروح بعد. الغربة بالنسبة له ليست ملاذاً، بل امتداداً آخر للخذلان؛ مكان يبدو أكثر أماناً، لكنه لا يداوي خوفاً ولا يطفئ شوقاً.

كلّ مساء، يتصل بعائلته في غزة. يسمع أصواتهم مثقلةً بالجوع والقلق، ويشعر بالعجز يتسلل إليه مع كل تنهيدة. في لحظات المجاعة الأخيرة، كان يرى صورهم وهم ينتظرون الطعام، فيما لا يملك هو سوى الدعاء من بعيد. ذلك الإحساس بالعجز، كما يصفه، أقسى من الخطر نفسه.

زوجته بدورها لا تجد في الغربة سوى فراغٍ آخر. تتشبث باتصالاتها اليومية بأهلها، تسأل عن أحوالهم، وتنتظر منهم خبراً يخفف غربتها. أما طفلاه الصغيران، فيحملان أسئلتهم البريئة التي لا يجد لها إجابة: متى سنعود إلى غزة؟ يكتفي بابتسامةٍ باهتة، ويهمس في داخله أن العودة قادمة، مهما طال الطريق ومهما كانت البيوت مهدّمة.

ففي النهاية، كما يؤمن محمد، العودة ليست احتمالاً، بل وعدٌ مكتوب في القلب. "فالوطن الذي يُغادر جسدك لا يغادر روحك، وكل ما في الغربة من ضوءٍ وهدوء لا يكفي ليطفئ حنين مدينةٍ ما زالت تحترق".

باحث يكتب من قلب الغياب

في الجزائر، يجلس محمد ناصر، طالب الدكتوراه في الحقوق، بين كتبه وأوراقه المبعثرة، يحاول أن يغرق في تفاصيل أطروحته، لكن صدى الحرب القادمة من غزة لا يغيب عن ذهنه. كل صفحة يقرأها تُذكّره بما يجري في مدينته، وكل فكرة يكتبها تمرّ عبر ذاكرةٍ مثقلة بالخوف والحنين.

حين اشتدت الحرب في قطاع غزة، وكان القصف يلتهم الأحياء واحداً تلو الآخر، وصلته فرصة نادرة للسفر ضمن بعثة أكاديمية محدودة خُصصت لطلبة الدراسات العليا. لم يكن القرار سهلاً؛ كانت عائلته في خان يونس تحت وابل الغارات. لكنه غادر في شباط/فبراير 2024، وهو يعلم أن الباب الذي خرج منه قد لا يُفتح قريباً. ترك خلفه بيتاً محاصراً وأمّاً تبكي بصمت، وحلماً مؤجّلاً بالعودة قبل أن تبرد الحرب.

منذ وصوله إلى الجزائر، لم يعرف محمد سكينةً حقيقية. يحاول أن يوازن بين التزامه الأكاديمي وقلقه الدائم على من تركهم في غزة. كل خبر عن قصفٍ جديد يُعيده إلى لحظة الرحيل الأولى.

في رسائله القليلة إلى والده، يحدّثه عن الجامعة والأساتذة، ثم يصمت فجأة كمن يخفي وجعاً لا يُقال. يشعر أن المسافة التي تفصله عنهم ليست آلاف الكيلومترات فحسب، بل زمنٌ كامل من الغياب. ومع ذلك، يتمسّك بالأمل كأنه آخر ما يملكه. فكل ما ينجزه من بحثٍ، وكل سطرٍ يكتبه، هو وعدٌ مؤجل بأن هذا الغياب لن يطول.

ومع تواتر الأخبار عن احتمال فتح معبر رفح، ينتعش في داخله حلم العودة. يتخيل لحظة لقاءه الأول بوالدته على شاطئ غزة، حين سيروي لها كيف صار العلم طريقه للمقاومة، لا للمستقبل فقط. يقول لمن حوله إن "العودة ليست حدثاً جغرافياً، بل استعادة للذات التي ضاعت بين حدودٍ مغلقة وذاكرةٍ لا تهدأ". 

في الغربة، يواصل محمد دراسته بثباتٍ هادئ، لكنه يدرك أن كل ما يكتبه هو محاولة لردّ الدين لمدينةٍ تعلّمه الصمود من بعيد. فغزة لم تخرج منه قط، بل تسكن بين سطور بحثه، وفي كل حلمٍ مؤجلٍ بالعودة إليها يوماً ما، مهما طال المنفى.

في نهاية الحكايات المتفرّقة بين القاهرة والجزائر وتركيا، يتّضح أن النزوح لم يكن مجرّد انتقالٍ من مكانٍ إلى آخر، بل عبورٌ قاسٍ بين عالمين؛ عالمٍ مألوفٍ غادره الناس مكرهين، وآخرٍ آمنٍ ظاهرياً لكنه بلا دفء. 

بين الحدود المغلقة والمعابر المحتلة، يعيش الغزيون في منافٍ مؤقتة، يتشبثون بما تبقّى من الذاكرة والحنين، كأنهم يخوضون معركةً صامتة من أجل البقاء. لا شيء في الغربة يُعوِّض بيتاً مهدَّماً أو وجهاً غاب تحت الركام، لكن الإيمان بالعودة يظلّ قنديلهم الأخير وسط هذا الظلام الممتد. فغزة، مهما ابتعدوا عنها، لا تفارقهم؛ تسكن في نبض قلوبهم، وفي كل حلمٍ مؤجلٍ بالرجوع إليها، يوم تُفتح الأبواب من جديد.

اخترنا لك